يعاني العالم بأسره من ارتفاع أسعار الطاقة، لكن أوروبا تمر بأزمة طاقة أسوأ مما يتصور العالم، مما أجبر بعض زعماء أوروبا على ارتجال خطط الإنقاذ وتدابير الطوارئ لوقاية المستهلكين من الألم الاقتصادي المدمر عندما يحل الشتاء قريباً.
أزمة الطاقة في أوروبا.. لماذا لم يأتِ الأسوأ بعد؟
تكمن المشكلة الأساسية في ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي الذي أثار الفوضى في أرجاء القارة، ورفع معدلات التضخم سريعاً، وعرقل الصناعات، وبدأ يصيب المواطنين العاديين بالذهول كلما وصلتهم فواتير الكهرباء عبر البريد، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وأصبحت أسعار الغاز الطبيعي اليوم أعلى بـ10 أضعاف مما كانت عليه في المتوسط طوال السنوات الماضية، وأغلى بـ10 أضعاف من أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة اليوم. وقال أليكس مونتون، خبير أسواق الغاز العالمية في شركة Rapidan Energy Group الاستشارية، إن الغاز الطبيعي أصبح باهظ الثمن، لدرجة أن أسعاره الحالية توازي شراء برميل النفط بـ500 دولار أمريكي. ونتحدث هنا عن الأشهر الجيدة.
وأوضح مونتون: "وصلت الأمور إلى نقطة الأزمة. إذ صارت أسعار الغاز فلكية، ولا نزال على بُعد أشهر من الذروة الحقيقية للطلب على الغاز في الشتاء. وهناك حالة شك منطقي فيما إذا كانت ستتوافر إمدادات غاز كافية لتلبية الطلب طوال الشتاء أم لا".
ويرجع سبب مشكلة الغاز في المقام الأول إلى الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي عطّل صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا ورفع الأسعار في كل مكانٍ آخر من العالم. لكن السبب لا يرجع إلى الحرب فقط لأن المصادر البديلة للغاز باهظة الثمن، كما تسبب تغير المناخ في تجفيف الأنهار، لدرجة أن غالبية محطات أوروبا النووية توقفت عن العمل.
ووصلت أسعار الطاقة في ألمانيا وفرنسا إلى مستويات قياسية خلال الأسبوع الجاري (مرةً أخرى)، مما يعكس حالة طوارئ الطاقة المتزايدة داخل القارة. واضطرت الدول لاتخاذ تدابير يائسة في هذه الأوقات العصيبة، بينما تعاني القارة تحت وطأة الضغوطات الاقتصادية. إذ أعلنت بريطانيا عن رفع سقف فواتير الطاقة المنزلية بنسبة 80%، في ما زادت ألمانيا فواتيرها بقرابة الـ500 دولار.
يقول روبرت هابيك، وزير الطاقة الألماني، موضحاً: "كان البديل الوحيد هو انهيار سوق الطاقة الألمانية، لتنهار معها أجزاءٌ كبيرة من سوق الطاقة الأوروبية".
أوروبا محاصَرة في سباقٍ مع الزمن
كانت أوروبا معتادةً على ملء خزانات الغاز الخاصة بها في الصيف، ثم الاستفادة منها في الشتاء عندما يرتفع الاستهلاك. لكن الأشهر الباردة تقترب اليوم، بينما تُضيِّق روسيا الخناق على تدفقات الغاز الطبيعي أكثر. مما ترك أوروبا محاصرةً في سباقٍ مع الزمن لملء خزاناتها، التي يدفع الزعماء أسعاراً تُسيل اللعاب من أجل تعبئتها. ويقول الخبراء إن الدول الأوروبية تسير حسب خططها الموضوعة إلى حدٍّ كبير، لكن هذا لا يعني أنها ستتجاوز مرحلة الخطر بحلول الشتاء.
حيث إن أوروبا "تستهلك غالبية الغاز الموجود في الخزانات خلال فصل الشتاء، وتستورد الغاز في الوقت ذاته من مصادر أخرى"، بحسب مونتون. وأردف الخبير: "تحتاج أوروبا إلى المصدرين. لكن عندما نفكر في الشتاء المقبل، سنجد أن هناك خطراً حقيقياً يتمثّل في عدم توافر أي غاز روسي على الإطلاق". ويُذكر أن روسيا كانت تغطي 40% تقريباً من واردات الغاز الطبيعي الأوروبية.
وأضاف موتون أن غياب الإمدادات الروسية في الشتاء سيُجبر الدول الأوروبية أن تعتمد على واردات الغاز الطبيعي المسال أكثر، حتى من موردين مثل الولايات المتحدة. لكن المشكلة تكمُن في أن آسيا تُعتبر سوقاً أكبر للغاز الطبيعي المسال، وتتنافس مع أوروبا على الواردات نفسها. مما يعني أن أسعار الغاز الطبيعي المسال ستظل أعلى من أسعار غاز الأنابيب القادم من الشرق دائماً.
الغاز الطبيعي.. البدائل ليست كافية أو أرخص
فيما سارع العديد من الزعماء لتأمين صفقات وإمدادات بديلة من الدول الأخرى، بالتزامن مع تخلّي أوروبا عن إمدادات الطاقة من موسكو. حيث ضمنت إيطاليا الحصول على غازٍ أكثر من الجزائر. بينما اتجهت دول أخرى إلى أذربيجان، والنرويج، وقطر.
أما ألمانيا فقد أعربت عن آمالها في توقيع صفقة غاز طبيعي مسال جديدة مع كندا، لكن الأخيرة كانت أقل تفاؤلاً بكثير. واستثمرت بعض الدول بشكلٍ كبير في البنية التحتية الخاصة بالغاز الطبيعي المسال. حيث تسابق ألمانيا الزمن لبناء خمس محطات غاز طبيعي مسال عائمة، كما تستعد هولندا وفنلندا وإيطاليا لبناء المزيد من الوحدات العائمة لاستيراد الغاز.
لكن خبراء الطاقة يقولون إن الدول ليس بوسعها فعل الكثير لتأمين إمداداتها خلال المستقبل القريب. إذ قال جيسون بوردوف، المدير المؤسس لمركز Global Energy Policy في جامعة كولومبيا: "هناك حدٌّ أقصى لما يُمكن فعله على المدى القريب من أجل جلب إمدادات إضافية لأوروبا، لأن كمية الغاز الطبيعي المسال الموجودة في العالم محدودة".
حملة تقشف قاسية ومؤسفة
وبدأ زعماء أوروبا في النظر إلى الداخل أيضاً، ففرضوا تدابير توفير الطاقة واسعة النطاق من أجل المساعدة في خفض استهلاك الكهرباء. إذ سبق لإسبانيا أن أوصت الموظفين بعدم ارتداء ربطات العنق من أجل الحفاظ على الطاقة، وأقرت مؤخراً خطةً جديدة لتوفير الطاقة تتضمن فرض قواعد على استخدام مكيفات الهواء والتدفئة لترشيد الاستهلاك.
بينما هددت فرنسا المتاجر المكيفة التي لا تغلق أبوابها بالغرامات. في ما أغلقت ألمانيا الأضواء الكاشفة في المعالم الأثرية الموجودة داخل برلين. وأخذ بعض الألمان على عاتقهم مهمة تخزين ألواح الخشب استعداداً للشتاء المقبل. وتدرس ألمانيا في الوقت ذاته تأجيل خروج آخر محطاتها النووية من الخدمة بسبب الأزمة الجارية.
ويقول بوردوف: "يبدو لي قرار إيقاف المحطات النووية عن العمل في خضم أسوأ أزمة طاقة شهدتها أوروبا منذ وقتٍ طويل، قراراً يفتقر إلى الحكمة".
لكن مونتون قال إن الاستمرار في تشغيل هذه المنشآت ليس بالبساطة التي يتصورها البعض. وأوضح: "عندما تعمل الشركات التي تُشغل المحطات بموجب خطة لإنهاء العمليات في وقتٍ معين، مثل نهاية العام الجاري، فستدير هذه الشركات محطاتها بناءً على هذا الأساس. وإذا أتينا اليوم لنقول إننا نريد منها الاستمرار، فسوف تصبح الأمور أكثر تعقيداً".
ويجتمع اليوم الخبراء الفنيون والساسة على حدٍّ سواء. إذ قال وزير الصناعة التشيكي جوزيف سيكيلا، يوم الجمعة، 26 أغسطس/آب، إن جمهورية التشيك ستدعو مجلس الطاقة بالاتحاد الأوروبي لعقد اجتماعٍ استثنائي.
الأسوأ لم يأتِ بعد
ولا نعلم إلى متى ستستطيع الصناعات والأسر التماسك. إذ تتوقع المملكة المتحدة مثلاً وصول معدلات التضخم إلى رقمٍ من خانتين، ويرجع السبب في المقام الأول إلى الارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة والتراجع الحاد لتقديرات الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لشركة Oxford Economics الاستشارية.
وليس الوضع أفضل في أوروبا. إذ كتبت الشركة الاستشارية في مذكرةٍ لها: "نعتقد أن قطاع التصنيع الأوروبي سيعاني من الركود خلال الأرباع السنوية المقبلة. لكن التأثير سيمتد إلى الأسر أيضاً. حيث سيضرب ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء المستهلكين بقوة، ونعتقد أن حجم ارتفاع الأسعار سيزيد أرجحية التدخل الحكومي بصورةٍ أكبر".
ويبدو أن القارة ستعيش في هذه الأزمة لفترةٍ طويلة ومؤلمة. إذ أوضح موتون: "تستعد أوروبا لازدياد الأمور سوءاً، لكن السؤال الأهم هو: إلى أي مدى ستسوء الأمور؟".