شبح الحرب يخيم على البوسنة والهرسك ويهدد بانفجار منطقة البلقان، لكن مجموعة من الشباب يسعون إلى نشر ثقافة "السلام والتسامح" بين البوسنيين والكروات والصرب، فهل ينجح الصغار في إصلاح ما أفسده الكبار؟
تعود جذور الصراع في البلقان إلى الحرب الأهلية التي شهدتها المنطقة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، والتي شهدت تدخل حلف الناتو لوقف التطهير العرقي من جانب الصرب بحق المسلمين من الألبان والبوسنيين في البوسنة والهرسك، والتي كانت أبرزها وأكثرها دموية مذبحة سربرنيتشا.
وعلى الرغم من أن اتفاقية دايتون للسلام في البلقان عام 1995 قد أنهت الحرب ووضعت هيكلاً سياسياً للبوسنة والهرسك يتمثل في وجود هيئة رئاسية من ثلاثة، أحدها ممثل للمسلمين والآخر للكروات والثالث للصرب، إلا أنه بعد 27 عاماً، ازدادت حالة الاحتقان، وباتت الأمور على شفا الانفجار مرة أخرى.
شباب البوسنة يحاولون توحيد البلاد
ونشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً عنوانه "تعرَّفوا إلى الشباب البوسني الذي يحاول توحيد بلاده"، ألقى الضوء على تجربة فريدة يقوم بها شباب من الأعراق الثلاثة، هدفها تعميق الهوية الوطنية والتقارب بين مواطني البوسنة والهرسك على أساس قومي.
ففي داخل فصل دراسي في مبنى جرى تجديده في باسكارسييا، القلب القديم لعاصمة البوسنة والهرسك، سراييفو، كانت مجموعة صغيرة من الشباب تجري نقاشاً حيوياً، بينما كتب أحد المشرفين بضع كلمات رئيسية: "السلام" و"التسامح" و"الأعراق" على لوحة بيضاء.
كانوا يشاركون في تدريب لبناء السلام والتثقيف الإعلامي في أبريل/نيسان الماضي، نظمته منظمة الشباب من أجل السلام، وهي جمعية أُنشِئت في عام 2013 من الشباب ومن أجل الشباب، وتتمثل مهمتها الرئيسية في إعادة التفكير في عملية السلام في البلقان.
تهدف ورشة العمل إلى تحسين مشاركة الشباب في السياسة، وتشجيع المواطنة النشطة على المستويين المحلي والوطني. تراوحت أعمار الشباب المشاركين بين 15 و30 عاماً، وهي فئة عمرية مؤثرة لبلد يبلغ سن الاقتراع فيه، وكذلك الحد الأدنى لسن الترشح السياسي في البرلمان، 18 عاماً.
جاء المشاركون من جميع أنحاء البلاد، ومثلوا التكوين العرقي والديني المتنوع للبوسنة. جلست "مرسيها"، وهي مسلمة تبلغ من العمر 17 عاماً من زينيتشا، بالقرب من ماتيو البالغ من العمر 22 عاماً، وهو كرواتي كاثوليكي من تريبيني، وجورانا، وهو طالب ماجستير صربي من شرق سراييفو. وقد حُجِبَت أسماؤهم لحماية خصوصيتهم.
لا تزال السياسة والمجتمع البوسنيان منقسمين بشدة اليوم نتيجة الجروح التي لم تلتئم من الصراع العرقي الذي اندلع في عام 1992 بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمين، بعد فترة وجيزة من سقوط يوغوسلافيا.
بعد الحرب، لم تجرِ أية عملية مصالحة وطنية منظمة على الإطلاق، ما ساهم فقط في خلق الانقسامات بين الجماعات العرقية. في البوسنة ما بعد الصراع، تؤثر الهوية العرقية والدينية بشكل كبير على حياة الناس. ينعكس ذلك في الهيكل السياسي للبلد: أنشأت اتفاقية دايتون لعام 1995، التي أنهت الحرب، المؤسسات السياسية في البلاد للعمل في ترتيب توافقي متعدد المستويات يهدف إلى تقاسم السلطة بين المجموعات العرقية الرئيسية الثلاث في البلاد.
التقسيم السياسي في البوسنة والهرسك
أهم جانب في هذا الهيكل هو تقسيم البلاد إلى كيانين: اتحاد البوسنة والهرسك، الذي يغطي 51% من البلاد، وجمهورية صربسكا، التي تمثل الـ49% المتبقية. يجري التناوب على رئاسة البوسنة بين ثلاثة أعضاء منتخبين بشكل مباشر يمثلون الأعراق الرئيسية الثلاثة في البلاد، حيث يختار ناخبو الاتحاد ممثلي البوسنيين والكروات، وينتخب ناخبو جمهورية صربسكا ممثل الصرب.
أصبح هذا الهيكل ضرورياً بسبب التغييرات في التركيبة العرقية للبوسنة والهرسك. بعد صراع التسعينيات، اختار غالبية الناس من المجتمعات الثلاثة عدم العودة إلى منازلهم، ما أعطى الحياة لمدن ومجتمعات أكثر تجانساً.
اليوم يُفصَل الطلاب أيضاً إلى فصول مختلفة وفقاً لعرقهم ويتبعون مناهج مختلفة، ما يساهم في ضعف الاتصال الذي يتجاوز التعليم ويزرع بذور الانقسامات طويلة الأمد في المجالات الأخرى، مثل الأحياء والنوادي الرياضية.
نتيجة لذلك، نشأت أجيال ما بعد الحرب ولديها فرص أقل للتفاعل مع مجموعات أخرى مقارنة بالأجيال السابقة، ووجدوا أنفسهم في مناطق سياسية منقسمة ولديهم معرفة أقل بالخصائص الثقافية لبعضهم مما كان لدى والديهم.
وقد وجدت دراسة أُجرِيَت عام 2009 أن 2% فقط من الطلاب المسيحيين في البوسنة فهموا ما أهم عطلتين إسلاميتين للعيد، بينما كان 32% فقط من الطلاب المسلمين يعرفون الأهمية الدينية لعيد الفصح بالنسبة للمسيحيين.
سئمت الأجيال الشابة من العداوات التي لم تُحَل بين الأجيال الماضية، وتحاول سد الفجوات المؤسسية وإنشاء مبادرات شعبية تهدف إلى تنظيم اللقاءات التي تسهل التفاهم بين المجتمعات المنفصلة.
قالت كيريما سليجيفو، وهي مشاركة تبلغ من العمر 24 عاماً في ورشة العمل في سراييفو، وطالبة ماجستير في دراسات الدين والسلام في جامعة سراييفو: "بعد عقود من الجهود، بدأنا نشعر بأن عملنا يكاد لا يعني شيئاً".
تحيي البوسنة هذا العام الذكرى الثلاثين لبداية الحرب، ومع ذلك، فإن البلاد غير مستقرة أكثر من أي وقت مضى منذ التسعينيات. مع تراجع نفوذ القوى الغربية ومصالحها في البلاد خلال العقد الماضي، ازدادت التوترات المحلية.
خلال العام الماضي، سعى ميلوراد دوديك، العضو الصربي البوسني في الرئاسة الثلاثية، إلى تعزيز مؤسسات جمهورية صربسكا وتكثيف الخطاب القومي، ما أثار مخاوف من انفصال رسمي. وواصل قادة الصرب إنكار الإبادة الجماعية التي حدثت في سريبرينيتشا في عام 1995.
وفي هذا السياق، يحذر كثير من المراقبين من أن البوسنة على وشك أن تواجه أخطر أزمة تعصف بها منذ الحرب، والسبب تصرفات ميلوراد دوديك زعيم صرب البوسنة. ففي أوائل أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن دوديك عن عزمه اتخاذ خطوات ترقى إلى الانفصال في كل شيء فعلياً عدا الاعتراف الرسمي.
وتعيد أفعال دوديك إلى الأذهان ما تعرَّض له البوسنيون من جرائم حرب، أبرزها مجزرة سربرنيتشا، على يد زعيم صربي آخر هو راتكو ملاديتش جزار البلقان الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة.
نيكولا كانديتش، وهو رجل قانون وعامل شاب نشط في بناء السلام في البوسنة، قال لمجلة فورين بوليسي: "إذا أضفنا الحرب في أوكرانيا، والأزمة المالية العالمية، والخطاب السياسي العدواني، فلدينا كوكتيل لوضعٍ سائد على مدار الساعة". وهو يعتقد أنه مع وجود الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في البلقان عند أدنى مستوى له على الإطلاق، فإن انتخابات أكتوبر/تشرين الأول القادمة تتشكل لتكون مثيرة للجدل للغاية.
"حالة اللا حرب" تهدد البلقان
قال كانديتش: "في السنوات الـ27 الماضية، لم نعش بسلام حقيقي، كنا فقط نعيش في غياب الحرب". خلال ذلك الوقت، عانت البوسنة من هجرة الأدمغة بشكل كبير، علاوة على ضعف التنمية الاقتصادية، والفساد السياسي المتزايد. وقال: "يبدو أنه من الملائم أكثر من أي وقت مضى أن تكون جزءاً من هذه المجتمعات الشابة والمتنوعة، حتى لا تفقد الأمل".
وقال بافلي ميجوفيتش، نائب عميد كلية اللاهوت في جامعة سراييفو، إن هذا هو السبب في أن دور المنظمات الشبابية في تعزيز الحوار بين الأديان أمر حيوي لمستقبل البوسنة وتعزيز المصالحة.
لاحظت منظمة الشباب من أجل السلام خلال تجربتها أن الشباب يشهدون الكثير من التردد وعدم الثقة في التفاعلات الاجتماعية بين الناس من خلفيات عرقية ودينية مختلفة. لقد بدأوا في القلق، على سبيل المثال، من أنه من غير المناسب الاختلاط بأشخاص من فئاتٍ أخرى، ويرجع ذلك أساساً إلى التأثيرات العائلية التي تعزز الصور النمطية والأحكام المسبقة.
ولكن هناك شريحة كاملة أخرى من الشباب على استعداد للتغلب على تلك التحديات. لهذا السبب تنظم منظمة الشباب من أجل السلام ورش عمل ودورات تدريبية شهرية تهدف إلى ممارسة مهارات بناء السلام مع أقرانهم من مختلف المجموعات العرقية البوسنية، بما في ذلك الأقليات مثل مجتمعات اليهود والغجر.
يعتقد كانديتش، الذي انخرط مؤخراً في منظمة الشباب من أجل السلام كمتطوع، أن مبادرات بناء السلام تمثل طريقة بناءة أكثر للتعامل مع مظالم وغضب جيل والديه. لكنه يقر أيضاً بمدى صعوبة قياس عدد الأشخاص الذين تم الوصول إليهم من خلال هذه المبادرات.
نظراً لأن بناء السلام ليس حلاً منهجياً، ولا يُناقَش إلا مع زملائه النشطاء وليس في المدارس ومع أولياء الأمور، فلا يزال من الصعب التحدث عن الآثار الحقيقية لهذه العملية.
لكنه قد يكون الأمل الوحيد للحفاظ على السلام في البلاد. يعتقد ميجوفيتش أن المنظمات الشبابية القاعدية قد أحدثت حتى الآن تأثيراً إيجابياً على المجتمع، ويرجع ذلك أساساً إلى أنها تتعامل مع الاحتياجات البشرية، والتي غالباً ما يجري تجاهلها في سياق الدول الهشة. وقال: "الأجيال البوسنية الجديدة يمكن أن تكون نسيم الهواء النقي الذي تشتد الحاجة إليه للسياسة السائدة الخالية من الهواء".
قالت ناديزدا موجسيلوفيتش، العضوة في مركز إيفان بافاو الثاني للشباب في سراييفو: "على الرغم مما تقوله الأخبار، يجب أن يستمر الشباب في الاستفادة من العديد من فرص المشاركة غير الرسمية. بالمشاركة النشطة، لا يستثمر الشباب في أنفسهم فحسب، بل يستثمرون أيضاً في مستقبل مجتمعنا".
بصفتها صربية بوسنية وابنة قسيس أرثوذكسي، عندما بدأت العمل في منظمة شبابية كاثوليكية، واجهت تحيزاً من عائلتها وأصدقائها. تقول: "لكن ذلك لم يؤثر عليّ. كنت أعلم أنني كنت أفعل الشيء الصحيح وأساهم في بناء مجتمع أفضل في البوسنة والهرسك".