انقسام حاد تشهده مصر بسبب خطة الحكومة لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتأزم من خلال طرح شركات مملوكة للدولة للبيع، فالبعض يرى ذلك استثماراً وقراراً صحيحاً، بينما يراه آخرون بيعاً للأصول وتفريطاً في السيادة، فأين الحقيقة؟
تواجه الحكومة المصرية مأزقاً اقتصادياً خانقاً لأسباب متعددة، وتشهد أيضاً انقساماً في الرأي، فالعملة المحلية (الجنيه المصري) فقدت نحو ربع قيمتها منذ مارس/آذار الماضي فقط، والتضخم بلغ مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة إلى درجة باتت تمثل خطراً على السلم والاستقرار الاجتماعي في البلاد.
وخلال الأشهر القليلة المتبقية على نهاية العام الجاري، أكثر قليلاً من 3 أشهر، تجد حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسها مطالبة بسداد 30 مليار دولار، منها 20 ملياراً لخدمة الدين الخارجي، و10 مليارات دولار لسد العجز في الميزان التجاري، بحسب ما قاله الخبير الاقتصادي المصري، هاني جنينة، لوسائل إعلام محلية السبت 20 أغسطس/آب الجاري.
لماذا تريد مصر بيع شركاتها؟
قرار طرح نسبة من أسهم بعض الشركات التي تمتلكها مؤسسات الدولة المختلفة، سواء قطاع الأعمال العام أو الهيئات العسكرية، في البورصة للمستثمرين مصريين أو عرب أو أجانب، أو حتى بيع بعض الشركات بشكل كامل، ليس قراراً جديداً نتج عن الأزمة الخانقة الحالية، بل يرجع إلى عام 2018، وتحدث عنه الرئيس في أكثر من مناسبة.
لكن السعي الآن إلى تسريع عملية بيع الأصول، كما يصفها المعترضون، أو جذب الاستثمارات الخارجية، بحسب وصف المؤيدين، يأتي مدفوعاً بوضع اقتصادي قد يكون الأصعب على الإطلاق، حيث إن التخلف عن سداد أقساط الديون الخارجية يعني كارثة لا أحد يعلم أبعادها، والمقارنة مع الانهيار الذي شهدته دولة مثل سريلانكا مؤخراً باتت حاضرة في نقاشات المصريين.
وفي ظل هذا الوضع المأزوم، تسعى الحكومة المصرية جاهدة إلى الخيار الصعب وهو مبادلة الأصول بالديون، حيث عرضت القاهرة على دول عربية أبرزها أبوظبي والرياض، شراء شركات مصرية أو حصص فيها مقابل ديون الدولتين الخليجيتين، في ظل عجز مصر عن السداد.
وتتحدث الحكومة المصرية منذ سنوات عن بيع شركات حكومية من غير المملوكة للجيش، وفي 2018 أعلنت أنها ستطرح حصص أقلية في 23 شركة حكومية في البورصة في خطة لجمع ما يصل إلى 4.33 مليار دولار. لكن البرنامج تأجل مراراً، وقال مسؤولون في الحكومة إن التأجيل المتكرر يرجع إلى ضعف الأسواق والعقبات القانونية ومدى جاهزية الوثائق المالية لكل شركة، بحسب رويترز.
وبحسب تصريحات سابقة لوزيرة التخطيط المصرية الدكتورة هالة السعيد، كان من المستهدف طرح 10 حتى 100% من شركتي الوطنية للبترول والوطنية لإنتاج وتعبئة المياه الطبيعية والزيوت النباتية "صافي"، التابعتين للقوات المسلحة، في خطوة تهدف إلى زيادة مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد. ومن المخطط أن يعقب طرح شركتي الوطنية للبترول وصافي المملوكتين لجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة المصرية، دراسة تنفيذ طروحات 3 شركات أخرى تابعة للجيش المصري، حسب ما أعلنت وزيرة التخطيط.
وتسعى صناديق الثروة السيادية في الإمارات والسعودية إلى الاستحواذ على نسب أو الشراء الكامل من الشركات المصرية، وبخاصة في مجالات الأسمدة والطاقة والقطاع الصحي والمصرفي والمعلوماتي. ومؤخراً استحوذ شركة مواساة السعودية للخدمات الطبية على مستشفى المراسم الدولية بنسبة 100%، وهي منشأة طبية رئيسية تقع في ضواحي العاصمة المصرية.
ومطلع أغسطس/آب الجاري، استحوذت شركة الاستثمار السعودي المصري، ذراع صندوق الثروة السعودي في القاهرة، على حصة الحكومة المصرية في شركة "موبكو" لإنتاج الأسمدة، ومقرها ميناء دمياط شمال البلاد، كما اشترت نفس الشركة السعودية حصص أقلية في شركة أبوقير للأسمدة والصناعات الكيماوية وشركة حاويات الإسكندرية للشحن، إضافة إلى حصة أسهم في شركة إي-فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية. وبلغ إجمالي قيمة تلك الاستثمارات السعودية في الشركات المصرية الأربعة 1.3 مليار دولار.
كما استحوذت الإمارات على شركات في مجال الأغذية وقطاع الخدمات المالية والمصرفية والمدفوعات الإلكترونية، وشركات أخرى في صناعة الأسمدة.
وإجمالاً، شهدت مصر ثاني أكبر موجة من البيع للشركات الحكومية في المنطقة خلال النصف الأول من العام الجاري، بلغت 65 صفقة قيمتها 3.2 مليار دولار، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
كيف تبرر الحكومة ومؤيدوها قرار البيع؟
لكن موجة البيع أثارت انقساماً حاداً في الرأي، فالحكومة ومؤيدوها يرون التوجه أمراً إيجابياً لاقتصاد البلاد، بينما يرى الرافضون أن هناك خطراً داهماً يكمن وراء بيع أصول الدولة إلى أصحاب مصلحة خارجيين. الحوكمة تقول إن الاستثمار الخارجي سيؤدي إلى خلق فرص عمل للمواطنين ويوسع حجم الشركات المصرية من خلال وصولها إلى أسواق الدول المشترية.
لكن مع ازدياد الأوضاع الاقتصادية تدهوراً، خصوصاً منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا أواخر فبراير/شباط الماضي، اتخذت مسألة بيع الشركات المملوكة للدولة، حكومةً وجيشاً، بُعداً آخر تماماً، وظهرت تخوفات من جانب المعترضين من طريقة البيع وتوقيتها ودوافع المشترين، إضافة إلى جدواها من الأساس.
كانت دول الخليج قد سارعت إلى إنقاذ الاقتصاد المصري وضخت عشرات المليارات من الدولارات بالفعل خلال مارس/آذار الماضي، إذ رصد تقرير لوكالة رويترز توجيه دول عربية خليجية ما يصل إلى 22 مليار دولار لمصر، لمساعدتها في التغلب على أزمة حادة في العملة، وهي ثالث عملية إنقاذ من نوعها خلال أقل من عقد.
وفي هذا السياق، قالت السعودية إنها أودعت 5 مليارات دولار لدى البنك المركزي المصري، وإنها ستضخ المزيد من الاستثمارات التي يمكن أن تجلب لمصر ما يصل إلى 10 مليارات دولار من العملات الأجنبية.
ونشرت وكالة Bloomberg الأمريكية تقريراً رصد سعي 3 دول خليجية لشراء حصص في شركة توزيع وقود مملوكة للجيش المصري ومحطة طاقة، وذلك في إطار تعهداتها الاستثمارية، وفقاً لما نقلته عن الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي أيمن سليمان.
المسؤول المصري أشار آنذاك إلى أن "العديد من المستثمرين الدوليين، ومن بينهم صناديق الثروة السيادية الخليجية، أظهروا اهتماماً بالشركة الوطنية ومحطة طاقة شيدتها شركة سيمنز (Siemens)"، وهي شركة ألمانية متعددة الجنسيات، وأوضح أن المخطط يشمل إتمام عمليات البيع هذا العام، إما عن طريق طرح اكتتاب أولي، أو عن طريق شراكة مع مستثمر استراتيجي، أو عن طريق مزيج من الأمرين.
وأضاف سليمان وقتها: "أرى أن علينا تأمين وجود مستثمر استراتيجي قبل طرح الاكتتاب الأولي. يمكن إتمام طرح الاكتتاب الأولي عبر اكتتاب خاص يُسند إلى صناديق ثروة سيادية"، مؤكداً أن صندوق الاستثمارات العامة السعودي وجهاز قطر للاستثمار وشركة أبوظبي "القابضة" أعربت جميعها "عن اهتمامها بدعم وتسريع برنامج طرح الاكتتاب الأولي".
وخلال يونيو/حزيران الماضي، دافع المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري، نادر سعد، عن موقف الحكومة مجادلاً بأن الحكومة تمتلك الحق في إدارة أصولها بأسلوب يدر الأرباح: "لدينا أصول متنوعة، وفي هذه المرحلة نجد من المناسب أن نبيع بعضاً من تلك الأصول للاستثمار في شيء آخر، بما فيها شراء أصول أخرى".
ويتفق بعض خبراء الاقتصاد مع الحكومة في الرأي، إذ يقولون إن الاستحواذات هي شكل من أشكال الاستثمار الخارجي وتدر عملة أجنبية، وهو ما يصبّ في النهاية في مصلحة الاقتصاد الوطني. وقال خالد الشافعي، مدير المركز المصري للدراسات الاقتصادية، للموقع البريطاني: "يتم الاستحواذ على الشركات المصرية لأنها ناجحة. وتؤدي تلك الاستحواذات إلى تنشيط البورصة وخلق الوظائف، وبصفة خاصة لأنها تؤدي إلى تكبير حجم الشركات المباعة وزيادة رأسمالها".
ماذا يقول المعترضون على بيع الأصول؟
لكن الوضع يبدو مختلفاً تماماً عبر منصات التواصل الاجتماعي، إذ يعبر كثير من المصريين عن رأي مختلف مفاده أن استحواذ صناديق الثروة السيادية العربية على الشركات المصرية الآن هو عمليات شراء طبيعية لا علاقة لها بالاستثمار أو خلق فرص العمل، ويتهم آخرون الحكومة بأنها تبيع ما يصفونها بأنها "أصول استراتيجية" للسعودية والإمارات. وسخر البعض قائلاً إنه بعد أن تنتهي أبوظبي والرياض من شراء الشركات المصرية ستشتريان "النسر" المرسوم على العلم المصري، بحسب تقرير موقع ميدل إيست آي.
وبشكل عام تحمل كلمة "الخصخصة" في مصر تحديداً معاني سلبية من الناحية التاريخية، إذ ارتبط المصطلح بعملية الخصخصة التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي، أثناء حكم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، والتي شابها الفساد كعنوان رئيسي، إذ تم وقتها بيع عدد ضخم من شركات القطاع العام المملوكة للدولة بأسعار أقل كثيراً من سعر السوق وقتها، ما تسبب في حالة من الغضب والاحتقان بين جميع المصريين.
كما أن هناك تخوفات الآن بشأن عملية بيع الأصول بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور، وهو ما يضعف موقف الحكومة أمام المستثمرين الراغبين في الشراء، والذين قد يستغلون الموقف لدفع ثمن بخس مقابل الشركات المصرية، إضافة إلى عائدات البيع لتلك الأصول ستستخدمها الحكومة في سداد الديون المتراكمة، أي أنه لن يكون هناك عائد حقيقي على اقتصاد البلاد أو مساهمة فعالة في رفع المعاناة عن المواطنين الذين يطحنهم الغلاء.
والنقطة الأخرى هي أن بعض الدول العربية التي تشتري الأصول المصرية الآن، وبخاصة السعودية والإمارات، لديها بالفعل عشرات المليارات من الدولارات كودائع لدى البنك المركزي المصري أو قروض أوشك وقت استحقاقها، وهو ما يثير قلق المعترضين من المصريين على عمليات بيع الأصول من أن يكون ثمن البيع عبارة عن تلك الودائع أو القروض، وهو ما يعني بعملية حسابية بسيطة أن البيع لن ينتج عنه "أموال الإنقاذ" التي تقول الحكومة إنها تبيع للحصول عليها.
وهناك سبب آخر للاعتراض يتمثل في كون الأصول المعروضة للبيع عبارة عن شركات ناجحة تحقق أرباحاً كبيرة بالفعل. "لن تؤدي هذه الاستحواذات إلى تكبير حجم الشركات المباعة. ويؤسفني القول إن بلادنا تمر بظروف صعبة بشكل استثنائي وليس لديها حرية اختيار نوع الاستثمار الذي تقبله أو ترفضه"، بحسب ما قاله الخبير الاقتصادي المصري، جمال الولي، لموقع Middle East البريطاني.
الخلاصة هنا هي أن خطة بيع الأصول، أو شركات الدولة، طرحتها الحكومة بشكل مكثف الآن وتوسعت فيها بسبب الأزمة المتمثلة في حتمية توفير 30 مليار لسداد أقساط ديون وسد العجز التجاري قبل نهاية العام، لكن المعترضين يرون أنها "خطة كارثية" ولن تؤدي إلا لخسارة تلك الأصول دون تحقيق الهدف، ما يترك الباب مفتوحاً أمام جميع الاحتمالات خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.