على مدى أكثر من 60 عاماً، استخدم الغرب بقيادة أمريكا العقوبات الاقتصادية ضد الخصوم، من كوبا حتى روسيا، مروراً بإيران والعراق وليبيا والسودان وسوريا، فما هي طبيعتها؟ وهل تحقق أهدافها كسلاح؟ وهل هناك مبادئ عامة تحكم فرضها؟
وعلى الرغم من أن العقوبات تمثل أحياناً حلاً وسطاً بين الحرب العسكرية والتصريحات الشفوية، وأقرها المجتمع الدولي كآلية للتعامل في حالات معينة يخرج فيها زعيم أو دولة عن الأعراف والقانون الدولي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تطبق سلاح العقوبات بشكل أكبر من الأمم المتحدة أو أي دولة أخرى بشكل منفرد.
والعقوبات قد تشمل حظراً على بيع الأسلحة أو منعاً من السفر أو فرض حصار تجاري شامل أو فرض عزلة شاملة على دولة ما، كما في حالة كوريا الشمالية وقبلها كوبا والآن روسيا. وحالياً تفرض الأمم المتحدة عقوبات على 14 دولة، بينما تضم قائمة عقوبات الاتحاد الدولي 35 دولة. أما قائمة العقوبات الأمريكية، فتشمل 38 دولة.
العقوبات.. كوبا أولى الضحايا
نشر معهد بروكينجز دراسة عنوانها "العقوبات الاقتصادية.. استخدام مفرط لأداة سيئة"، ركزت على إفراط واشنطن في استخدام العقوبات كسلاحها الرئيسي لتطبيق سياستها الخارجية، وبصفة خاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بمقعد القيادة على المسرح الدولي.
أصبح الاستخدام المتزايد للعقوبات يمثل عنصراً رئيسياً من عناصر التناقض في السياسة الأمريكية الخارجية في الوقت الحالي، وعلى الرغم من تزايد الانتقادات الموجهة للعقوبات كسلاح في السياسة الخارجية، إلا أن العقوبات الاقتصادية أصبحت السلاح المفضل لواشنطن في عالم ما بعد الحرب الباردة. واليوم لدى الولايات المتحدة قائمة طويلة من الدول والمنظمات التي ترزح تحت عقوبات واشنطن.
وأصبحت العقوبات سلاحاً محبباً لدى الأمريكيين، لدرجة أن هناك ولايات بل وإدارات محلية في مدن صغيرة تطبقها. لكن قد لا تكون فقط الوتيرة المتسارعة التي يتم بها فرض العقوبات هي السمة الرئيسية، ولكن أيضاً مدى أهميتها للسياسة الخارجية الأمريكية، بحسب دراسة بروكينجز.
وعلى الرغم من أن العقوبات تعرف بطبيعتها على أنها اقتصادية، إلا أنها تحمل دائماً طابعاً سياسياً وعسكرياً، وتهدف دائماً إلى تغيير السلوك السياسي أو العسكري للطرف المعاقب، فالولايات المتحدة تستخدم العقوبات سلاحاً لمنع انتشار الأسلحة النووية والأسلحة الباليستية ودعم حقوق الإنسان والقضاء على الإرهاب وتجارة المخدرات وحماية البيئة وغيرها من الأمور الأخرى، بحسب ما تنص عليها سياستها الخارجية المعلنة، لكن عند التطبيق تظهر تناقضات بطبيعة الحال.
لكن استخدام الولايات المتحدة للعقوبات يرجع إلى فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت كوبا أولى ضحايا استعمال واشنطن لذلك السلاح، حيث تم فرض حصار تجاري شامل على هافانا عام 1962 بهدف الإطاحة بالنظام الشيوعي في البلاد. وكان الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو الهدف الأول لسلاح العقوبات.
وتمثل العقوبات التي تم فرضها على كوبا أطول حظر تجاري على دولة في العالم، إذ فرضته إدارة الرئيس الراحل جون كينيدي بهدف الإطاحة بنظام كاسترو والنظام الشيوعي في كوبا. ومنذ عام 1992 تقدم كوبا اقتراحاً كل عام إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة وإلغاء الحظر التجاري الأمريكي.
وتؤيد الغالبية العظمى من دول العالم الآن وضع حد للإجراءات العقابية بحق كوبا، خاصة دول أمريكا اللاتينية، كما رفع الاتحاد الأوروبي عقوباته عن كوبا في عام 2008. وخلال حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما خففت واشنطن العقوبات، لكنها عادت إليها خلال فترة دونالد ترامب، ويرغب الرئيس الحالي جو بايدن في تخفيف العقوبات عن كوبا من جديد.
دول عربية أبرزها العراق وليبيا والسودان
رصد تقرير صدر مؤخراً عن المعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية (Giga) تاريخ العقوبات وما حققته من نتائج، أظهر أن "أقل من نصف العقوبات تنتهي بتنازلات من قبل الأطراف الخاضعة للعقوبات". ما يعني أن "العقوبات أداة صناعة سلام متناقضة، ومثلها مثل التدخلات العسكرية، يجب أن تدمج في استراتيجية سياسية، دبلوماسية واقتصادية شاملة"، بحسب موقع دويتش فيله الألماني.
وهناك دول عربية تعرضت للعقوبات الغربية، أبرزها ليبيا والعراق والسودان وغيرها. وقائمة العقوبات التي تعرضت لها ليبيا طويلة جداً، فقد فرض مجلس الأمن الدولي سلسلة من العقوبات على طرابلس لأول مرة في عام 1993 بعد سقوط طائرة ركاب أمريكية فوق لوكيربي باسكتلندا. وقد تم رفعها في عام 2003 بعد أن أقر الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي بالذنب وجرى تعويض 270 من عائلات الضحايا.
وخلال الحرب الأهلية التي بدأت عام 2011، أقر مجلس الأمن مجموعة من العقوبات، بما في ذلك منطقة حظر طيران. كما جرى تمديد حظر تصدير النفط إلى 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعدما كان من المفترض رفعه في 30 يوليو/تموز 2022. وفي 21 سبتمبر/أيلول 2020، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات إضافية على انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاكات حظر الأسلحة. وكانت الإجراءات ناجحة جزئياً، وبالخصوص منطقة حظر الطيران.
أما العراق فقد تعرض للعقوبات الأممية والغربية، بعد أن احتل نظام الرئيس الراحل صدام حسين الكويت عام 1990، وظلت تلك العقوبات الشاملة قائمة ولم يتم رفعها إلا بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003.
أما السودان، فيرجع إدراج الولايات المتحدة له في قائمة الدول الراعية للإرهاب إلى عام 1993 على أساس أن نظام الرئيس المعزول البشير يدعم جماعات متطرفة منها تنظيم القاعدة وحركة حماس وجماعة حزب الله.
وخلال التسعينيات أصبح السودان منبوذاً بعد استضافة أسامة بن لادن والتحول إلى نقطة ارتكاز للحركات الإسلامية، رغم أن الخبراء يقولون إن مسؤولية السودان عن هجمات 11 سبتمبر/أيلول مشكوك فيها، حيث غادر أسامة بن لادن الخرطوم قبل سنوات من تلك الهجمات.
سوريا أيضاً خضعت، ولا تزال، لجميع أنواع العقوبات الأمريكية والأوروبية والأممية، سواء خلال حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، أو خلال نظام نجله بشار الأسد، وخاصة منذ اندلاع الثورة ضده عام 2011 واستخدامه القوة المفرطة لقمعها وتحول الأمور إلى حرب أهلية، اتهم الغرب خلالها نظام بشار الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد معارضيه وخصومه من السوريين.
هل تنجح العقوبات؟ الإجابة روسيا
بعد عقود طويلة من اعتماد الغرب للعقوبات سلاحاً لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، لا تزال تلك "الأداة الغليظة" تتعرض لانتقادات عنيفة لا تتعلق فقط بالازدواجية الواضحة في نظام ومعايير فرضها، بل أيضاً بمدى نجاحها في تحقيق الهدف منها وفرضها.
فعلى سبيل المثال، لم تتعرض إسرائيل تقريباً لأي عقوبات أممية أو أوروبية أو أمريكية، على الرغم من انتهاك تل أبيب المستمر للقوانين الصادرة عن الأمم المتحدة وعدم تطبيقها من الأساس، وامتلاكها أسلحة نووية رغم اتباع سياسة "الغموض الاستراتيجي"، وعدم السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية، إضافة إلى انتهاكاتها المستمرة والمتكررة بحق الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة.
وعلى الرغم من مئات التقارير الأممية والحقوقية التي توثق الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، إلا أن العقوبات الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، تظل محظورة على تل أبيب ومسؤوليها حتى اليوم.
لكن ما مدى نجاح سلاح العقوبات في تحقيق أهدافه من الأساس؟ إيران، على سبيل المثال، هي أكثر بلد يرزح تحت نظام عقوبات، والسبب يعود إلى البرنامج النووي الإيراني وانتهاكات حقوق الإنسان وتهم تتعلق بدعم الإرهاب. ورفعت عقوبات الأمم المتحدة عن طهران على مرحلتين، الأولى يوم 16 يناير/كانون الثاني 2016 بعد التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015، والثانية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، حيث تم رفع الحظر المفروض على الأسلحة من قبل الأمم المتحدة. لكن سلسلة العقوبات لم تنتهِ، فالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تفرضان عقوبات على إيران بسبب خروقات لحقوق الإنسان. ورغم تخفيفها للعقوبات نوعاً ما، تفرض واشنطن نظام عقوبات معقداً على طهران.
ولتلك العقوبات تبعات اقتصادية ضخمة في إيران، وبعد زيارة لإيران في مايو/أيار الماضي، أبدت مبعوثة الأمم المتحدة ألينا دوهان "قلقها الشديد" بشأن المشكلات الإنسانية في البلاد.
أما المثال الأبرز اليوم فيتعلق بروسيا، إذ تعرضت موسكو لأسرع حملة عقوبات غربية وأكثر شمولاً في التاريخ بهدف إجبار الرئيس فلاديمير بوتين على وقف الهجوم على أوكرانيا، الذي يصفه الكرملين بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه غزو.
وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا منذ أعلن فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط. ومع تواصل الهجوم الروسي على أوكرانيا، تزايدت بشكل متسارع عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، فهل تراجع بوتين؟ بعد 6 أشهر من الحرب، لم يتحقق الهدف، ولن يتحقق بطبيعة الحال، بحسب موسكو.
كوريا الشمالية نموذج آخر لا يختلف كثيراً عن أغلب الحالات التي تم فيها فرض العقوبات دون أن تحقق الهدف منها، لكن في جميع الحالات تعاني شعوب الدول الخاضعة للعقوبات، بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال من تبعاتها الاقتصادية، التي قد تكون خانقة في كثير من الحالات، بينما لا يتأثر الحكام أصحاب القرارات غالباً.
الخلاصة هنا هي أن الغرب، على خطى الولايات المتحدة صاحبة السبق، قد وجد في العقوبات الاقتصادية سلاحاً لتأديب الخصوم، لكن التجارب العملية على مدار عقود أثبتت أن العقوبات الاقتصادية أداة سيئة لا تحقق الغرض منها غالباً، لكنها تسبب أضراراً بالغة بالشعوب.