تواجه مصر أزمة اقتصادية حادة تتزامن مع سلسلة من انهيارات المباني والحرائق وحوادث القطارات، الأمر الذي دفع مجلة Foreign Policy الأمريكية إلى التساؤل حول ما إذا كانت هذه الأحداث والأزمة الاقتصادية المصرية الحالية قد تؤدي لتكرار ثورة يناير التي قامت ضد الرئيس السابق حسني مبارك، مشيرة إلى وجود أوجه اختلاف بين العهدين، رغم تشابه الأزمات.
تقول المجلة الأمريكية "تحاكي الوقائع الحالية موجة الكوارث التي تحمّلها المصريون في السنوات الأخيرة من الحكم الطويل للرئيس الأسبق حسني مبارك، والتي كانت دائماً نتيجةً لبعض أشكال التجاوزات والأخطاء الرسمية".
ويتساءل ستيفن إيه كوك، الباحث المتخصص في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في مقال كتبه بمجلة Foreign Policy "إذا كانت المصائب في نهاية عهد مبارك قد أسهمت في عدم استقرار مصر، فهل يمكن أن تؤدي المآسي المماثلة والأزمة الاقتصادية المصرية اليوم إلى النتيجة نفسها؟ وإذا كان عدم الاستقرار قد أسهم في خسارة مبارك لسلطته، فهل سيحدث الشيء ذاته مع الرئيس عبدالفتاح السيسي؟
ويرد قائلاً "هذا أمرٌ محتمل، لكنه لن يحدث على الأرجح. وقد يبدو هذا عجيباً، خاصةً أن المحللين يخلصون عادةً إلى أن الحكام يفقدون وظائفهم عندما يتحول عدم الاستقرار إلى سمةٍ أساسية لسياساتهم. لكن الوضع يبدو مختلفاً داخل مصر في الوقت الراهن، حسب قوله.
الأزمة الاقتصادية المصرية حدثت لأسباب بعضها داخلية وأخرى خارجية
ويواجه المصريون أزمة غذاء نتيجة قوى خارجة عن سيطرة حكومتهم، وتحديداً بسبب الحرب الأوكرانية، كما يعانون من أزمةٍ مالية من صنع يدي السيسي كلياً، حسب المجلة الأمريكية، إذ اكتشف الرئيس المصري مثل سابقيه أن تحقيق الرخاء في مصر يمثل مهمةً صعبة. حيث يدخل سوق القوى العاملة المصرية سنوياً عددٌ مهول من البشر، فضلاً عن التحديات الهيكلية المتنوعة، وأبرزها البيروقراطية الضخمة والجيش الذي يزاحم القطاع الخاص، مما يمثل عقبات في وجه الاستثمار الأجنبي ويعيق النمو الاقتصادي الشامل وواسع النطاق.
وفي مواجهة هذا الوضع، لجأ السيسي ومستشاروه إلى خلق انطباع بتنامي الرخاء المجتمعي. إذ استثمر السيسي بشكلٍ ضخم في تفريعة قناة السويس، وأنظمة الأسلحة، ومفاعل نووي، والعاصمة الإدارية الجديدة بالطبع. وتؤكد هذه المشروعات شديدة الضخامة على حجم مجهودات السيسي لإقناع المصريين بأن مصر تتقدم، ولا يزال بإمكانها تحقيق إنجازات رائعة.
ولا شك أن جسر "تحيا مصر" الجديد وغيره من التقاطعات والجسور التي ظهرت بطول مصر في العقد الأخير كانت من التطورات المهمة التي يمكنها المساهمة في التنمية الاقتصادية، حتى وإن كانت مثيرةً للجدل. لكن البلاد شهدت مشروعات أخرى تُنفذ دون دراسةٍ حقيقية، أو جدوى اقتصادية، حسب الباحث الأمريكي.
إذ تكلف إنشاء "قناة السويس الجديدة"، مبلغ 8.5 مليار دولار. ومع ذلك لم يتضح بعد ما إذا كانت الإيرادات القياسية التي تسجلها هيئة قناة السويس نتيجةً للتفريعة الجديدة أم نتاجاً لزيادة الرسوم التي تفرضها الهيئة في السنوات الأخيرة.
وتشيد مصر عاصمة جديدة بتكلفةٍ تصل إلى 60 مليار دولار، ويعلق الكاتب عليها قائلاً "صحيحٌ أن القاهرة أصبحت عبارة عن فوضى من الاختناق المروري، وصارت بنيتها التحتية متداعيةً في أحسن الأحوال، لكن المدينة الجديدة لا تُبنى من أجل المصريين العاديين. بل من المقرر أن تكون العاصمة الجديدة بمثابة مجمع سكني حصري للموظفين الحكوميين، وكبار المسؤولين، وغيرهم من النخب. وإذا نظرنا إلى احتياجات مصر الأساسية، فسنجد أن بناء مدينة جديدة من الصفر هو مشروعٌ يندرج تحت فئة "المشاريع التي سيكون من الرائع إطلاقها"، وليس "مشروعاً يجب أن ننفق ما تبقى في أرصدتنا البنكية لإنجازه".
وأصبح وضع الميزانية العمومية المصرية سيئاً. وباتت مصر من أكثر الدول المثقلة بالديون في العالم. بينما تقترض الحكومة المصرية المال حتى تتمكن من سداد فوائد ديونها القائمة بالفعل.
وينقل كاتب المقال عن أحد الأشخاص من القاهرة قوله مؤخراً: "يبدو أن الشيء الوحيد الذي يتحدث الناس عنه في هذه الأيام هو مدى الغلاء الذي ضرب كل شيء، والجولة الثانية من خفض قيمة العملة التي يُفترض أن تحدث قريباً". ولا عجب في أن المصريين يشعرون بالقلق إزاء انخفاض قيمة العملة أكثر.
وسيحين وقت السداد قريباً. إذ خلص مصرف غولدمان ساكس إلى أن الحكومة المصرية بحاجة إلى 15 مليار دولار حتى تتمكن من تمويل أعمالها فقط. بينما أعلنت دول الخليج مثل السعودية، والإمارات، وقطر عن التزامهم بتقديم 22 مليار دولار خلال الأشهر القليلة الماضية. ويجادل مسؤولو الحكومة بأن رقم غولدمان ساكس أعلى من اللازم، لكنهم أقروا بأن مصر ستحاول الحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي.
إليك السبب الذي يجعل العالم يساعد مصر مجدداً
من المرجح أن يساعد صندوق النقد الدولي القاهرة ببرنامج سهل نسبياً في مواجهة الأزمة الاقتصادية المصرية الحالثية؛ لأن مصر تعتبر دولةً أهم من أن تنهار، لكن المساعدة لن تكون مجانيةً أو غير مشروطة، حسب مقال المجلة الأمريكية، الذي يقول من هنا تنبع حاجة السيسي السياسية لخلق الانطباع بالازدهار. لكن هذا الانطباع يتناقض مع الواقع الموضوعي للبلاد، حسب التعبير الوارد في المقال.
وسيتحمل المصريون الآلام الإضافية اللازمة لضبط ميزانية مصر العمومية، رغم أنهم لا ناقة لهم ولا جمل في طريقة إنفاق قادتهم لما تبقى من ثروات بلادهم.
وسيؤدي هذا على الأرجح إلى سلسلةٍ من السياسات التي لا تحظى بالشعبية مثل خفض قيمة العملة، وخصخصة الشركات الحكومية لصالح ملاك جدد، وارتفاع رسوم كل شيء، مع تراجع المعروض من كل الأشياء الأخرى.
لماذا يبدو الوضع الآن مختلفاً عن مرحلة ما قبل يناير؟
إلى متى يستطيع المصريون الاحتمال؟ لا يعرف أحد إجابة هذا السؤال.
يقول مقال المجلة الأمريكية: "إذ كان المراقبون قبل أكثر من عقدٍ كامل يجيبون عن هذا السؤال، قائلين إن المصريين على استعدادٍ لتحمّل الكثير، حتى جاء يوم 25 يناير/كانون الثاني عام 2011. وليس من المستبعد أن تدفع الضغوط الاقتصادية بالناس إلى أن يفيض بهم الكيل ويخرجوا إلى الشوارع من جديد"، حسب كوك.
ويعي قادة مصر هذه الخطورة. إذ التقى السيسي نظيره الأمريكي جو بايدن، على هامش اجتماع مع دول مجلس التعاون الخليجي في يوليو/تموز، وكانت أسعار الغذاء أكثر ما يثير قلق الزعيم المصري خلال حديثه.
تقول المجلة الأمريكية: "وربما يشعر المصريون اليوم بخوف شديد يمنعهم من الاحتجاج. ومن المؤكد أنه أمرٌ مفهوم بالنظر إلى امتلاء السجون المصرية بالمعارضين السياسيين الحقيقيين والمفترضين للحكومة. لكن قدرة الدولة المصرية على القمع لا تضمن مطلقاً حصانتها من التعبئة الشعبية، كما تبيّن لنا من أحداث عام 2011".
ويقول كاتب المقال: "فضلاً عن أن مبارك كان يتمتع بأفضليةٍ يفتقر إليها السيسي. إذ لا يمتلك السيسي حزباً سياسياً يمكنه تحميله المسؤولية أو تركيز الغضب عليه، عكس مبارك الذي كان يستغل الحزب الوطني لهذه الغاية".
ويضيف قائلاً: "يعني هذا أن أجهزة الأمن الداخلي المصرية يجب أن تتصرف بأقصى قدر من الوحشية حتى يشعر المواطنون بأن الخروج عن النص سيُكلفهم ثمناً باهظاً للغاية. لكن الاعتماد المفرط على الإكراه ينطوي على مخاطرةٍ كبيرة أيضاً، من ضمنها احتمالية أن يدفع بالناس لكسر حاجز الخوف".
وإذا أصبح عدم الاستقرار هو السمة المميزة للسياسة والمجتمع المصريين، فمن المنطقي أن يكون حكم السيسي عرضةً للخطر. لكن لا يوجد بديل موثوق للرئيس المصري في الوقت الراهن، أي إنه ليس هناك من يهدد سلطته، حسب المقال.
ونتيجةً لذلك لم تُظهر مراكز القوى الكبرى في البلاد ميلاً كبيراً للانفصال عن السيسي، وضمنها الجيش وأجهزة الاستخبارات وكبار القضاة وقيادات الشرطة. وستتمسك هذه الجهات بموقفها حتى لو عثر المصريون على طرق جماعية للتعبير عن مظالمهم. أما إذا عرّض السيسي تماسك البلاد الاجتماعي للخطر، فسيكون الوضع مختلفاً، حيث تُعتبر هذه المسألة بمثابة خط أحمر اجتازه مبارك ومحمد مرسي من بعده، مما دفع بكبار قيادات الجيش إلى الإطاحة بهما.
ولكن الكاتب يرى أنه رغم هذه المشكلات فنحن أمام زعيم يثبّت أقدامه على رأس البلاد رغم كل هذه المشكلات.
وتكمن المشكلة في أن العبء سيقع على كاهل المصريين بينما يواصل السيسي الإنفاق على مشروعات لن تضيف قيمةً مؤكدة للبلاد، حسب تعبيره.
ولكن الدول الداعمة لمصر قد تفرض قيوداً على المساعدات
وستُفرض بمرور الوقت -وربما قريباً- قيودٌ على حجم المساعدة التي تستطيع الدول الثرية (دول الخليج والدول الغربية) منحها لمصر؛ نظراً إلى الأزمات العديدة التي تضرب مختلف أنحاء العالم، مما سيكون أمراً سيئاً للمصريين أولاً وقبل كل شيء، لكن تأثيره قد يكون سيئاً على الاستقرار بالنسبة لدول شمال إفريقيا، والشام، وحتى أوروبا نفسها.
ربما تكون مصر أهم من أن تنهار فعلياً، لكن قيام الحلفاء الخارجيين (مثل دول الخليج أو الدول الغربية ممثلة في صندوق النقد) بمساعدة البلاد لإخراجها من عثرتها بأموال مجانية وشروط بسيطة سيطيل أمد الأزمة المصرية ليس إلا، خاصةً إذا جرى الاستمرار في تمويل المشروعات الفارهة، حسب تعبير كاتب المقال.