جاء وقف إطلاق النار مساء الأحد، 7 أغسطس/آب، ليُنهي 3 أيام متتالية من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وأسفر العدوان عن جرح 350 فلسطينياً على الأقل، واستشهاد 46 شخصاً بينهم 16 طفلاً، وفقاً للمسؤولين الفلسطينيين. وتمحورت التغطية الإعلامية داخل الولايات المتحدة حول عرض صور السماء الملبدة بالدخان أو أبناء غزة وهم يمشون وسط أكوام الأنقاض. ويمكن وصف هذه الصور بأنها دقيقة وحديثة، لكن الاختيار وقع على هذه الخيارات الآمنة بدلاً من الصور الأكثر عنفاً. مما ينقل للجمهور الأمريكي واقعاً بعيداً كل البُعد عن حقائق الأمور التي تتكشف على الأرض، كما يقول تقرير لمجلة The Intercept الأمريكية.
كيف تتجنب وسائل الإعلام الأمريكية نشر صور الضحايا في غزة؟
نادراً ما تتسنى للأمريكيين فرصة النظر إلى كل أنواع الصور التي تُلتقَط أثناء حدثٍ إخباري بعينه، باستثناء محرري الصور في غرف الأخبار طبعاً. إذ تدفقت الصور من المصورين الصحفيين في غزة على قواعد البيانات الضخمة، مثل Getty Images وAP Images، بالتزامن مع تصاعد أعداد الضحايا الفلسطينيين خلال نهاية الأسبوع.
ويظهر الأطفال الشهداء نتيجة عمليات قصف الاحتلال بشكلٍ واضح في العديد من تلك الصور.
ويجري جمع الصور ذات المحتوى العنيف في قواعد بيانات الصور، إلى جانب الصور العادية الأخرى التي يجري اختيارها للنشر في المؤسسات الإخبارية الأمريكية بشكلٍ شبه دائم. وتحتوي تلك الصور العادية على لقطات للصواريخ وهي تحلق في السماء مساءً، أو لقطات هادئة للأطفال وهم يتفقدون حطام منازلهم، أو لقطات للأدخنة السوداء وهي تتصاعد في الأفق.
ويلتقط المصورون الصحفيون في غزة صوراً داخل المستشفيات والمشارح. مما يمنحهم الفرصة لتوثيق الجرحى والوفيات بشكلٍ مباشر. وتنتشر على Getty Images صور لجثث الأطفال الملفوفة في الأكفان البيضاء، والمكدسة فوق بعضها في المشرحة، دون رقابة. وربما تبدو مثل هذه الصور صادمةً ومزعجةً للغاية، لكنها تظهر بوضوح النتيجة الطبيعية لقصف المناطق السكنية المزدحمة.
ويقول حسام سالم، المصور الصحفي الفلسطيني، لمجلة The Intercept: "ما زلت أرى مشهد الأشخاص المكروبين وهم يبكون بعد تدمير منازلهم. لا أستطيع احتمال الأمر أكثر. أشعر أنني تعرضت للاستنزاف أكثر من أي وقت مضى، حتى بعد مرور ثلاثة أيام على انتهاء هجمات الاحتلال. ليست لدينا قصص تشجع على الحياة في غزة، بل لدينا قصص عن الموت وهو يسلبنا حياتنا وحياة المحيطين بنا".
الأمريكيون لا يرون الوجه الحقيقي لقصف الاحتلال على غزة إلا نادراً
لكن مثل هذه الصور ليست السمة المميزة للنزاع غير المتكافئ الذي لم يشهد مقتل أي إسرائيلي، بل نادراً ما تُنشر مثل هذه الصور من الأساس.
بينما قال سليمان حجي، الصحفي من غزة، للإنترسبت: "يمكن وصف تغطية وسائل الإعلام الأمريكية والدولية عموماً بأنها ضعيفة، ولا تُظهر عادةً مشاهد القتلى من النساء والأطفال الأبرياء".
وسنذكر هنا حالة الطفلة آلاء قدوم، التي تبلغ من العمر 5 أعوام، وكانت من بين 16 طفلاً قُتِلوا في عدوان الاحتلال الأخير. إذ لم تُنشر صورة لها بعد وفاتها سوى في تقريرٍ واحد لصحيفة New York Times الأمريكية. لكن ذلك التقرير كان مجرد استثناء، فضلاً عن أن الصورة لم تُعرض في بداية المقال، بل ظهرت بالقرب من سطوره الأخيرة. بينما لم تنشر المنافذ الإعلامية الأخرى الصورة رغم ذكرها لخبر مقتل الفتاة، بدايةً بصحيفة Washington Post ووصولاً إلى شبكة NBC News الأمريكيتين.
ولعبت الشبكات الاجتماعية، مثل تويتر وفيسبوك، دورها في فرض هذا التحول بعيداً عن نشر "صور العنف". حيث طبقت سياسات "الوسائط الحساسة" التي تُثني غرف الأخبار عن عرض صور الفظائع بشكلٍ بارز، حتى لا تفقد المنافذ الإعلامية مشاهدات صفحاتها.
التقصير الصحفي الأمريكي ينكشف إذا عقدت المقارنة بين أوكرانيا وفلسطين
تقول المجلة الأمريكية إنه ليس هناك إجماعٌ حول كيفية التعامل مع صور العنف الشديد. وتتخذ غرف الأخبار المنفردة القرارات في هذا الصدد بناءً على الحالة وبعد القيام بفرز الصور الموجودة في منصات توزيع الصور الكبرى، حيث تظهر الصور كاملةً دون أي تعتيم أو رقابة.
ولا يجري حذف صور جثث الفلسطينيين فقط من روايات وسائل الإعلام عن المذابح، بل يسري الأمر ذاته على سفك الدماء الذي يحدث في مناطق أخرى من العالم أيضاً. ومع ذلك توجد بعض الاستثناءات لهذه القاعدة. إذ هيمن التوثيق البصري للفظائع الروسية على نشرات الأخبار بعد أن هجمت روسيا على أوكرانيا مطلع العام.
وكانت الجرائم التي ارتكبتها روسيا صادمةً لدرجة أن صحيفة New York Times الأمريكية نشرت صورة عنف التقطها المصورة لينزي أداريو على الصفحة الرئيسية، في خطوةٍ نادرة. ووصفت لينزي الصحيفة بـ"الشجاعة" لنشرها دليلاً على ارتكاب جرائم الحرب.
وسلط النقاد الضوء على التناقض الصارخ بين الاهتمام العالمي بمعاناة الشعب الأوكراني وبين الاهتمام بمعاناة الشعوب الأخرى مثل الشعب الفلسطيني. فضلاً عن طريقة تغطية الهجوم الروسي باعتباره عملاً عدائياً غير مبرر، وليس باعتباره مجرد "نزاع" عام. إذ كان عدد صور "العنف" التي نشرتها Washington Post الأمريكية خلال الأسبوع الجاري لتغطية مذبحة جرت مطلع العام في بوتشا بأوكرانيا أكثر من الصور المنشورة للقتلى في غزة خلال عطلة نهاية الأسبوع.
تجميل جرائم الاحتلال الإسرائيلي
لا تتوقف مشكلة تصوير الحياة والموت في فلسطين على مسألة الصور التي يجري اختيارها لرواية القصة. إذ لطالما أدان الفلسطينيون -والعديد من المراقبين الأجانب- وسائل الإعلام الغربية بتهمة تجميل جرائم الاحتلال والإذعان للرواية الإسرائيلية. إذ وقّع أكثر من 500 صحفي على خطاب يجادل بأن تغطية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ترقى عادةً إلى "التقصير الصحفي"، وذلك بعد حملة قصف إسرائيلية أخرى على غزة العام الماضي.
وكتب الصحفيون: "لا يتوقف تباين السياق على اللغة المستخدمة فقط، بل تميل الأخبار إلى تضخيم روايات الاحتلال بشكلٍ غير متناسب، بينما يجري تقييد الروايات الفلسطينية. ولا شك أن التعتيم على القمع الإسرائيلي للفلسطينيين يمثل تقصيراً من هذه الصناعة في حق معاييرها الموضوعية".
وقال أحمد أبو أرتيمه، الكاتب وناشط حقوق الإنسان الفلسطيني، للموقع الأمريكي إن إسرائيل تعمل بناءً على الافتراض بأن لديها حلفاء في وسائل الإعلام العالمية. وأردف أبو أرتيمه: "هذا تواطؤ واضح".
إخفاء مشاهد الموت وإظهار "التطرف الفلسطيني"
ويمكن القول إن "الخيارات الآمنة" لجميع غرف الأخبار الغربية بعرض صور العنف المجرد (مثل الأدخنة والحطام) بدلاً من صور العنف الواضح (الموت والإصابات والحداد) تتماشى مع إطار التغطية نفسها. حيث تقلل التغطية في حالة غزة من أهمية الأثر على المدنيين عادةً، لتركز الحديث على رواية التشدد الفلسطيني.
وجادل محمد مهاوش، الباحث والصحفي الفلسطيني المستقل في غزة، خلال مقابلته مع The Intercept بأن تغطية الاعتداء الأخير على غزة ركزت بشكلٍ شبه حصري على تبريرات الاحتلال المزعومة للهجوم بدلاً من تأثيره، وذلك رغم اعتراف مسؤولي الاحتلال بأن الاعتداء كان "استباقياً".
وقال مهاوش: "امتلأت الصحف والمواقع والشبكات الاجتماعية على مدار الأشهر الأخيرة بأخبار المقاومة والبطولات الأوكرانية، وقصص الجنود وهم يفجرون الجسور لتعطيل تقدم الدبابات الروسية ويضحون بأنفسهم في سبيل ذلك. وشاهدنا المدنيين وهم يهاجمون المركبات المدرعة بما طالته أيديهم، بينما يتلقى الأشخاص العاديون التدريبات على الأسلحة ويحفرون الخنادق. لكن في حال حدثت مثل هذه القصص داخل فلسطين بدلاً من أوكرانيا، فلن يُنظر إليها باعتبارها أعمال بطولة ومقاومة. بل سيجري تصنيفها وإدانتها باعتبارها أعمالاً إرهابية".
وشدّد مهاوش على أن المقارنة لا يُقصد بها الانتقاص من مقاومة الشعب الأوكراني، بل تهدف إلى "الدفاع عن الحق في مقاومة الاحتلال والغزو العسكري لأي أرضٍ أو شعب".