يبدو أن تداعيات التغير المناخي قد تكون أكثر عمقاً مما نتخيل، فهذه دولة على وشك الغرق حرفياً، وهذه "أمة" تعيش دون دولة بعينها، فهل يمكن أن نشهد عالماً جديداً بلا حدود بين دوله؟
والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة، وهطول الأمطار بغزارة، مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة، وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار. وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد وصف 2021 بأنه يمثل "جرس إنذار" للبشرية قبل أن يفوت أوان إنقاذ الكوكب من تداعيات التغير المناخي.
وعلى الرغم من أن قضية التغير المناخي الناجم عن الاحتباس الحراري ترجع إلى أكثر من قرن على الأقل، فإنها ظلت، حتى بضع سنوات، ملفاً ينشغل به نشطاء البيئة وخبراء المناخ دون أن يمثل هاجساً للسياسيين والمسؤولين ولا حتى للرأي العام حول العالم.
وخلال تلك الفترة لم يكن هناك تأثير لقضية الاحتباس الحراري على الأمن والسلم الدوليين ومن ثَم لم تكن قضية المناخ تمثل أي تهديد لمبدأ السيادة الوطنية للدول من الأساس. لكن هذا الوضع بدأ يختلف بصورة تدريجية منذ مطلع القرن الجاري، مع ظهور تداعيات التغير المناخي، وانعكاسها على الطقس حول العالم.
دولة مهدَّدة بالغرق بسبب المناخ
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً عنوانه "الفكرة الكبرى: هل الأمم حقاً بحاجة إلى الحدود؟"، ألقي الضوء على تداعيات التغير المناخي فيما يتعلق بالحدود الحالية للدول، فهناك دولة مهددة بالاختفاء تماماً، و"أمة" تعيش عبر الحدود.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، خاطب سيمون كوفي، وزير خارجية توفالو -وهي دولة تشكلت من سلسلة من الجزر المرجانية المنخفضة في جنوب المحيط الهادئ- مؤتمر غلاسكو للمناخ من منصة خشبية.
وجرى بالضبط ما كان البعض يتوقعه في قمة المناخ الدولية، إذ إن المنصة وكوفي، الذي ارتدى بدلةً وربطة عنق، كانا مغمورين بماء المحيط جزئياً بعدة أقدام. وفي خطابه، الذي سُجِّل مسبَّقاً في الموقع في توفالو، أخبر المندوبين أن بلاده "تعيش واقع" التغير المناخي. قال وزير خارجية الدولة الصغيرة المهددة بالغرق: "عندما يرتفع البحر من حولنا طوال الوقت، يجب أن يأتي الحراك المناخي في الصدارة".
لطالما كان يُنظر إلى توفالو على أنها نوع من المختبر لتغير المناخ -أول دولة في التاريخ من المحتمل أن يؤثر عليها ارتفاع مستوى سطح البحر، حيث من المقرر أن يكون عدد سكانها البالغ 12 ألف نسمة من بين أوائل اللاجئين بسبب تغير المناخ. ويشعر العديد من سكان توفالو بالهلع من هذا التصوير، الذي يمكن أن يصنف محنتهم بأنها محنة سكان عالم غارق.
فهم لا يريدون أن يتم تصنيفهم بهذه الطريقة؛ لأن ذلك يجعلهم يشعرون بأنهم أقل من كونهم بشراً عاديين. في المقابل، يطورون نهجاً مختلفاً للاختفاء المادي لأرضهم الجافة. عبارة كوفي "الحراك المناخي" هي اختصار لمفهوم راديكالي في القانون الدولي: يمكن لأي بلد أن يحتفظ بدولته، حتى عندما يخسر أرضه المادية.
فكرة حدود الدول عمرها 3 قرون فقط
على الرغم من أن فكرة الحدود تعود إلى آلاف السنين، فإن نظامنا الحالي يعتبر حديثاً نسبياً: نتاج حرب دينية أوروبية مدمرة، استمرت عقوداً وانتهت عام 1648 بسلام وستفاليا. أنشأت هذه التسوية نظاماً سياسياً جديداً بالكامل، يقوده المبدأ الديني "عالمهم، دينهم"، أو حق الملك في فرض دينه على رعاياه.
ولكن في المقابل وُضِعَت هذه السلطة الحصرية -التي كانت أيضاً مسؤولة عن الحكومة والضرائب والقانون والجيش- ضمن منطقة جغرافية محددة.
ويبدو أن مفهوم السيادة هذا يحتاج إلى خطوط مُحدِّدة، إذ كان من المستحيل تحديد الهيمنة السياسية في أوروبا الإقطاعية -وهي مزيج معقد من حقوق جمع الضرائب وأواصر الولاء والتسلسل الهرمي للأتباع واللوردات- بأي معنى حقيقي. وصار من المقرر أن تُحدَّد كل هذه الأمور برسم الخرائط.
لكن مع مرور الوقت، تطورت هذه العملية لتشمل تفضيلاً ليس فقط للدين المشترك، ولكن أيضاً للغة والثقافة والعرق -والحاجة إلى القصص التي تتحدث عن الهوية المشتركة لمن هم داخل الخطوط على هذه الخرائط. نشأت الأمم من هذا كأراضٍ محددة بوضوح، مع سكان وموارد منفصلة.
ومع ذلك، في خلال الـ300 عام الماضية، منذ أن بدأ البشر بنشاط في رسم الحدود على الأرض، (مع درجة جديدة تماماً من الخصوصية نتيجة للتقدم العلمي في عصر التنوير)، ظهرت مقاومة للبقاء في نفس المكان. إن فكرة أن الحدود ثابتة أو غير قابلة للتغيير بطريقة ما هي فكرة خيالية. وفي الوقت الحالي، هناك كفاحٌ للتعامل مع مجموعة من التحديات، من العولمة والإنترنت إلى الهجرة الجماعية والتغير المناخي.
وفي هذا السياق، عندما تجمع قادة العالم في غلاسكو باسكتلندا في قمة المناخ، التي كانت تهدف بالأساس إلى إنقاذ الكوكب قبل فوات الأوان، أشار الخبير الألماني في شؤون التغير المناخي أندرياس كلوته إلى أن الرؤية الخاصة بإنقاذ الكوكب، والتي تهيمن على العديد من الوفود المشاركة في قمة الأمم المتحدة للمناخ لا تتعلق بمصلحة "وطنية" لأي دولة بقدر ما تتعلق بمصلحة جماعية على المشاع للعالم كله، وهو الغلاف الجوي والمحيط الحيوي للأرض.
ما هي "أمة السامي" التي تعيش بلا حدود؟
نرى الآن اليمين المتطرف ينحرف بعيداً عن إنكار التغير المناخي نحو مفاهيم "القومية المناخية" -مع التركيز على الخطر الذي يشكله التغير المناخي على المصالح الوطنية. صرح حزب الحرية النمساوي أن "التغير المناخي يجب ألا يصبح أبداً مبرراً معترفاً به للجوء".
إذا حدث ذلك، كما يقول الحزب، فـ"ستنهار السدود أخيراً، وستغرق أوروبا والنمسا أيضاً بالملايين من لاجئي المناخ". دعا حزب رابطة الشمال الإيطالي إلى "التكيف مع المناخ الوطني"، أو بعبارة أخرى ما يروِّج له حزب الحرية النمساوي بـ"أن تكون صادقاً مع وطنك".
وفقاً لهذا المنطق، لن تنكسر الحدود، بل ترتفع، أعلى وأقوى -كما لو كان بإمكانك فصل قطعة الأرض بالكامل، من القشرة إلى الستراتوسفير. إنها رؤية بائسة، لكن هل يوجد بديل؟
في الواقع، هناك سوابق مختلفة لقيام دول بلا حدود. دولة سابمي، في اسكندنافيا، هي "أمة" آخر السكان الأصليين المتبقين في شمال أوروبا، "أمة السامي". إنها موجودةٌ داخل وعبر السويد والنرويج وفنلندا وروسيا. لديها سكان محددون وبرلمان، لكن لا توجد أراضٍ حدودية خاصة بها.
في المقابل، تعتمد أمة السامي -التي يعيش أفرادها حياةً شبه بدوية كرعاة للرنة- على حقوق الاستخدام لممارسة ثقافتهم في موطنهم الشمالي البعيد. لكن هذا الوضع القائم يواجه تحديات، إذ تتطلَّع الحكومات الاسكندنافية على نحو متزايد إلى استغلال الوديان المفتوحة لتسخير طاقة الرياح، وتعدين رواسب النحاس، وحتى بناء خط سكة حديد عالي السرعة.
لكن "أمة السامي" أنشأوا سلطات قانونية للطعن في هذه التطورات والحفاظ على أسلوب حياتهم وعلى الأراضي التي تعتبر مركزية بالنسبة لهم. ترتبط بهذا حركة قانونية بيئية سريعة الظهور تتطلع إلى توسيع الحقوق والحماية إلى ما وراء البشر لتشمل الأرض نفسها (في العام الماضي، رُفِعَت دعوى قضائية باسم بحيرة في فلوريدا ضد مطور سكني كان يهدد بتدميرها).
وفي أماكن أخرى، حاولت المبادرات البيئية عبور الحدود السياسية أو تخريبها. إن مشروع "السور الأخضر العظيم" الطموح في إفريقيا هو خطة لإنشاء حدود بيئية، ليس بين الأمم، ولكن بين الساحل والصحراء.
وتم تصويره في الأصل، باعتباره حزاماً من الأشجار يبلغ عرضه 15 كم وطوله 8 آلاف كيلومتر، يمتد من الساحل إلى الساحل، وقد تطور إلى ما يوصف بأنه "فسيفساء بلا حدود" من التدخلات في المناظر الطبيعية، بما في ذلك زراعة المحاصيل والأشجار في منطقة تعاني من ندوب التصحر وتآكل التربة.
وكما قالت كاميلا نوردهايم-لارسن، منسقة برنامج السور الأخضر في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، فهذا هو أول سور مُصمَّم لجمع الناس معاً بدلاً من فصلهم عن بعضهم البعض. قالت للغارديان: "أحب أن أرى جدراناً خضراء رائعة في كل مكان؛ في أمريكا اللاتينية أو أمريكا الوسطى أو عبر آسيا الوسطى".
هل تقدم مثل هذه المشاريع لمحة عن نموذج جديد لدول المستقبل في مواجهة الاضطرابات غير المسبوقة القادمة؟ أليست ملكية لجزء مخصص من الأرض، وليست خطوطاً حول الأرض، ولكن "ممرات" عبرها؟
قد يبدو هذا غريباً، لكن الحدود كانت دائماً مضطربة. منحتنا وستفاليا اسم النظام الذي سيطر على القرون الثلاثة الماضية. هل يمكن أن تحدد "مستوطنة توفالو"، التي تتبنى مفاهيم الحراك المناخي والسيادة دون أرض، القرون القادمة؟