"تيار معادٍ لإيران أم طابور خامس لها، تيار شعبي يعبر عن آلام الجماهير أم تيار شعوبي يستغلها، تيار طائفي يتوسع عبر المذهبية أم تيار وطني يرفض الفتنة؟"، أسئلة محيرة يطرحها تاريخ التيار الصدري المركب، خاصة مع وصول علاقته بالقوى العراقية الموالية لإيران لمرحلة خطيرة من التوتر.
وخلط مشهد اقتحام أنصار التيار الصدري للبرلمان العراقي الأوراق، ففي الأحوال العادية، فإنه سينظر للأمر باعتباره عملاً غوغائياً مداناً يمثل استخداماً للعنف في السياسة، ولكن بعد نحو عقدين من حكم النخب الفاسدة الموالية لإيران في بغداد وممارساتهم الطائفية والفوضوية، يبدو الكثيرون في العالم والعراق ليس لديهم رغبة في إدانة الصدريين، رغم أن المشهد أعاد للأذهان الطبيعة الشعبوية لهذا التيار ومسيرته المليئة بالتناقضات التي تجمع بين المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي ورفض التدخل الإيراني في شؤون العراق، والدعوة للوحدة الوطنية إلى التورط في أسوأ المذابح الطائفية في العراق.
وكان أنصار التيار الصدري الذي فاز بأكبر كتلة في البرلمان العراقي قد اقتحموا مقر البرلمان العراقي، وأعلنوا الاعتصام فيه بعد محاولة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري مالكي استغلال استقالة النواب الصدريين من البرلمان، لترشيح السياسي الموالي له محمد السوداني لرئاسة الحكومة، ضارباً بعرض الحائط نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز التيار الصدري بأكبر كتلة وتمكنه مع حلفائه السنة والأكراد من جمع الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، ولكن الإطار التنسيقي الجامع للقوى الشيعية الموالية لإيران الذي يقوده المالكي منع اجتماع البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية، وهي الخطوة اللازمة لتشكيل الحكومة.
واعتبر مقتدى الصدر اقتحام أنصاره للبرلمان فرصة ذهبية لتغيير النظام السياسي، فيما تهدد هذه الأجواء باندلاع حرب أهلية جديدة في العراق، وهي هذه المرة ليست حرباً أهلية بين السنَّة والشيعة كالتي شارك الصدريون في إضرامها عام 2006.
جذور الخلافات بين التيار الصدري وبين القوى الشيعية الرئيسية الأخرى
لن تكون هذه أول مواجهة يخوضها الصدريون ضد قوى شيعية أخرى، بدرجة أو أخرى، فدوماً كانت هناك حالة من الخصومة والمنافسة بين التيار الصدري وبين القوى الشيعية السياسية والدينية الأخرى.
فالخلاف والاختلاف بين التيار الصدري وبقية القوى الشيعية الأخرى لهما جذور عميقة مرتبطة بنشأة التيار وإثنية مؤسسه محمد محمد صادق الصدر (الصدر الثاني) والد مقتدى الصدر، وطبيعة تفاعله مع التركيبة الشيعية الاجتماعية في العراق.
نشأة التيار الصدري.. حوزة عربية مقابل حوزات فارسية
يتسم التاريخ الديني والاجتماعي لشيعة العراق بمفارقة، وهي أنه رغم أن منطقة جنوب العراق، التي يتركز فيها شيعة البلاد، هي معقل الثقافة العربية؛ حيث يوجد بها الكوفة والبصرة التي نشأ بهما النحو ومعظم علوم اللغة العربية والدين الإسلامي، ورغم أن أغلب شيعة العراق ينحدرون من قبائل عربية قحة هاجر بعضها قبل الإسلام، وتزاوجت مع سكان بلاد الرافدين الأصليين الذين ينحدرون من نفس الجذور السامية التي جاء منها العرب ومعظم شعوب المنطقة القديمة.
إلا أنه على مدار القرون الماضية كانت هناك سيطرة أعجمية (إيرانية أو أفغانية أو من شيعة باكستان) على المؤسسات الدينية في الحوزة الشيعية، فنسبة كبيرة من رجال الدين الشيعة في نجف وكربلاء؛ إما ينتمون لعائلات عراقية جذورها أعجمية أو وُلدوا في إيران أو أو أفغانستان (فالسيستاني الذي يعد أهم مرجع في العراق ومن أهم المراجع الشيعية في العالم، يحمل الجنسية الإيرانية وقيل إنه رفض الحصول على الجنسية العراقية).
وجاءت هذه السيطرة لأسباب كثيرة، منها أن أعداد شيعية إيران وباكستان كبيرة مقارنة بشيعة العالم العربي (يقدر شيعة إيران بنحو نصف الشيعة في العالم)، ومنها أن دور رجال الدين في الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية أهم بكثير من دورهم في الدول العربية (سواء سُنة أو شيعة)، بسبب حاجز اللغة الذي يجعل اعتماد المسلم غير العربي على رجل الدين أكبر من المسلم العربي، الأمر الذي يؤدي إلى وجود إقبال واهتمام أكبر من قِبل غير العرب على الانخراط في الدراسات الدينية.
وقد يرجع ذلك في حالة العراق، تحديداً، إلى أن نسبة كبيرة من شيعة العراق هم من جذور قبائل عربية بدوية هاجرت من الجزيرة العربية، في القرون التالية للغزو المغولي للبلاد الذي قتل أعداداً كبيرة من السكان وتركها خربة، وهذه القبائل ظلت حتى عقود قليلة العامل الأهم في تركيبتها الاجتماعية هي تقاليدها العربية القبلية أكثر من دور الدين، فهم كانوا عرباً أكثر من كونهم شيعة.
ولكن نشأة التيار الصدري تبدو مختلفة، فمؤسس التيار الصدري محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، كان عالم دين مرموقاً من أصول عربية، وعكس كثير من رجال الدين الشيعة النشطين لم يفر إلى إيران مثل آل الحكيم الذين أسسوا تنظيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (غير اسمه للمجلس الإسلامي الأعلى).
وتقليدياً كانت مراجع الشيعة والقيادات الشيعية الدينية المسيَّسة تحتفظ بعلاقة قوية مع الأسر العراقية الشيعية التجارية، وكثير منها من أصول أعجمية، ولكن الصدر جاء بمنهج جديد تقارب فيه، وهو المرجع الذي ينتمي لأسرة ميسورة، مع القبائل العربية ذات الأصول البدوية، والتي كان المذهب لا يلعب دوراً كبيراً في حياتها، كما تقارب مع الفقراء الشيعة الذين ينحدر كثير منهم طبقة الفلاحين التي كانت مقموعة في عهد الإقطاع، وأدى عهد الجمهورية إلى تحريرها من رتق حالة تشبه عبودية الأرض، دون أن توفر لهم بديلاً حداثياً، فهاجر كثير منهم إلى بغداد وسكنوا مناطقها الشعبية، وتعد مدينة الصدر معقلاً أساسياً لهم وهي منطقة أسسها أول رئيس للعراق عبد الكريم قاسم وسماها مدينة الثورة، وهو ضابط عراقي كان قريباً من الشيوعيين، وعرف عنه أنه من أوائل من حاولوا تقليل التهميش الذي يعاني منه الشيعة.
وكان الصدر الأب أول من أقام صلاة الجمعة للشيعة في العراق بعد توقفها لسنوات وأمَّها بنفسه بمسجد الكوفة في النجف، ودعا إلى تعميم إقامتها بالمدن الأخرى، وبذلك خالف معظم المراجع الشيعية في إقامة صلاة الجمعة التي كانت تقول إنه لا صلاة للجمعة في ظل حكم لا تعتبره إسلامياً، أي لا تقام الصلاة حتى ظهور "الإمام المهدي المنتظر"، بحسب كثير من أدبيات الشيعة الاثني عشرية.
ويعتقد أن صدام حسين شعر بالقلق الشديد من منهج الصدر الأب هذا، الذي جذب بشكل كبير القبائل العربية الشيعية العراقية والفقراء الشيعة، وهي فئات كان ينظر لها النظام على أنها تمثل معاقل لنفوذه في أوساط الشيعة، وأن هذا السبب كان وراء اغتيال صدام للصدر عام 1999 مع كل أولاده باستثناء مقتدى، وجاءت عملية الاغتيال في فترة كان العراق فيها محاصراً بعد هزيمته في حرب تحرير الكويت عام 1991.
بينما يزعم البعض أن إيران وبعض القوى الشيعية الموالية لها هي وراء اغتيال الصدر.
ولكن ينفي الصدريون أن تكون إيران أو أحد حلفائها وراء اغتيال الصدر الأب، ولكنهم لا ينفون وجود خلافات تاريخية قديمة بينهم وبين القوى الشيعية الأخرى الموالية لإيران، مثلما قال أبو فراس، القيادي السياسي في مكتب الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، لموقع قناة العربية.
وشرح أسباب هذه الخلافات من وجهة نظر الصدريين قائلاً: "محمد الصدر هو إمام مجدد أتى بمفاهيم متطورة وعصرية. التقى بالطبقات الشعبية المسحوقة من خلال الحوزة الناطقة، ولم يهتم بالطبقة المرفهة، ولأول مرة كان هناك مرجع يحاكي معاناة الناس، بينما كانت المراجع الأخرى محصورة في صفوة المجتمع".
وأضاف: "محمد محمد صادق الصدر تبنى الثورة من داخل العراق بينما المجلس الأعلى بقيادة باقر الحكيم تبنى الثورة من خارج العراق. نشأ نوع من الغيرة والانشقاق. فاتهم آل الحكيم الصدر بأنه عميل لصدام فلما قتل الصدر، جاء باقر الحكيم جاء لتعزية مناصريه في إيران ولم يقبلوا حضوره وهاجموه. ولكن لم يتهموه بالاغتيال أبداً".
سقوط البلاد تحت الاحتلال الأمريكي يوسّع الخلافات
ولكن بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ظهرت هذه الخلافات بشكل واضح بعد مجيء القوى الشيعية الموالية لأمريكا وإيران على دبابات الاحتلال، وبدأت الخلافات تظهر بسرعة، حيث هناك تلميحات باتهام الصدريين باغتيال المرجع الشيعي عبد المجيد الخوئي، مثلما يظهر في مذكرات الحاكم الممثل الاحتلال الأمريكي للعراق بول بريمر.
كما كان موقف الصدريين من الاحتلال الأمريكية والعملية السياسية التي أطلقها مختلفاً تماماً عن بقية القوى الشيعية الرئيسية بما فيها السيستاني.
فلقد تعاونت القوى الشيعية الموالية لإيران مثل مجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم وفيلق بدر، والقوى الشيعية الموالية للأمريكيين مثل أحمد أحمد الجلبي، وإياد علاوي مع الاحتلال تماماً، وكان واضحاً أنها تريد استغلال رغبة الأمريكيين في القضاء على المقاومة التي تركزت في المناطق السنية لأجل تعزيز نفوذها على الأرض تحت مظلة الاحتلال وإقصاء السنَّة.
كما يظهر من مذكرات الحاكم الأمريكي للعراق، فإن كان هناك توافق بين الأمريكيين وكذلك القيادات الشيعية بما فيها السيستاني (توافق ضمني ولكن لم يحدث أي تواصل بين السيستاني والأمريكيين حسب بريمر) على عدم تكرار ما يصفونه بـ"خطأ 1920″، عندما احتل البريطانيون العراق بعد هزيمة الدول العثمانية في الحرب العالمية الأولى؛ حيث تركزت الثورة ضد الاحتلال البريطاني في الجنوب الشيعي، فسلم البريطانيون السلطة للسنَّة (رغم أن هناك شكوكاً في دقة هذه الرواية وتفسيراتها).
واستغلت الفصائل الشيعية مسألة اجتثاث البعث وحل مؤسسات الدولة العراقية بما فيها الجيش العراقي، لطرد السنَّة من المناصب وإحلال الموالين لها، بصرف النظر عن كفاءتهم، وهو ما أدى إلى تدهور حالة الدولة العراقية للحالة التي نراها الآن.
الصدريون يخالفون القوى الشيعية الأخرى ويقاومون الاحتلال الأمريكي
في المقابل، كان الصدريون الأوضح في رفضهم للاحتلال الأمريكي، ومقاومته في بعض الأوقات، كما رفعوا شعار عراقية الحوزة، في تلميح لرفضهم إلى سيطرة إيران أو ذوي الأصول الإيرانية على الحوزة العراقية.
ففي النجف العاصمة الدينية للشيعة تشكلت نواة المقاومة الشيعية الرئيسية ضد الاحتلال، عندما دعا رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر أتباع والده المرجع الديني الذي أعدمه صدام حسين، محمد محمد صادق الصدر إلى تشكيل "جيش المهدي" لمقاومة الاحتلال الأمريكي وتحرير العراق، بحسب الصدر، وكان معظم أتباع الصدر من الطبقة الفقيرة في المجتمع العراقي يسكنون جنوب العراق وأطراف العاصمة بغداد.
وفي أواخر عام 2003 تشكل جيش المهدي في بغداد والمحافظات الجنوبية، حيث بدأ جيش المهدي كمجموعة صغيرة من حوالي 500 طالب ديني مرتبط بمقتدى الصدر في مدينة الصدر.
وتراوحت تحركات الصدريين بين الاحتجاجات الشعبية والعمليات المسلحة.
وفي عام أبريل/نيسان 2004، وصف بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق بعد الاحتلال الصدر بأنه خارج عن القانون، فكان الرد الذي نسب للصدر بأنه فخور بأنه خارج عن قانون الاحتلال.
وأعلن مقتدى الصدر رسمياً عن البدء بقتال الجيش الأمريكي بسبب إغلاق "صحيفة الحوزة" التابعة للتيار الصدري في نيسان/أبريل 2004 ومحاولات اعتقاله شخصياً.
السيستاني يغادر النجف بينما الجيش الأمريكي يقصف ميليشيات الصدر بالمدينة
ورغم أن المرجع الشيعي الأكبر في العراق علي السيستاني كان حريصاً على عدم الانخراط المباشر في السياسة، وأن يظهر أنه على مسافة واحدة من القوى السياسية الشيعية، فإنه كان هناك مؤشرات واضحة على توتر علاقته بالصدر، خاصة مع توسع مقاومة الصدريين للاحتلال إلى درجة السيطرة العسكرية لهم على النجف التي يتخذها السيستاني مقراً.
قام مسلحو جيش المهدي بالهجوم على مراكز الشرطة وقواعد القوات الأمريكية في النجف وإحراقها في أغسطس/آب عام 2004، وفرضت قوات التحالف حصاراً تاماً على قوات جيش المهدي.
ويعتقد أن السيستاني كان موافقاً على محاولة أمريكية على التخلص من ميشليشات الصدر أو على الأقل تقليم أظافرها.
ففي صيف 2004، غادر السيستاني النجف بالعراق وتوجه إلى لندن في حالة نادرة لتلقي العلاج كما قيل وقتها، في وقت كانت مدينة النجف مقر مرجعيته تشهد معارك ضارية بين جيش المهدي التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر من جهة والقوات العراقية وقوات الاحتلال تساقط فيها المئات من القتلى والجرحى.
وقاد السيستاني بعد عودته مبادرة لإنهاء الأزمة في المدينة، بدا فيها أنه يساوي بين جيش المهدي التابع للتيار الصدري وبين القوات الأمريكية التي دخلت المدينة المقدسة لدى شيعة العراق؛ حيث قال أحد مساعديه إن القوات الأمريكية يجب ألا تتدخل في القتال الدائر. وقال إن ميليشيا جيش المهدي يجب أن تغادر الصحن الحيدري، ودعا للتوصل إلى حل سلمي. وأوضح أن الحكومة العراقية وحدها يمكنها حل الأمر.
وانتهت الاشتباكات بعقد هدنة.
العلاقة مع السنَّة.. من التنسيق ضد الاحتلال للقتل على الهوية
في العامين الأولين بعد الغزو الأمريكي، كانت علاقة الصدر متوترة مع الأمريكيين والقوى الشيعية الموالية أو المتعايشة معهم، بينما علاقته أفضل نسبياً مع الأوساط السنيَّة حتى تلك التي تبنَّت المقاومة، ولكن الأمور سوف تتغير؛ حيث سيتورط جيش المهدي في الحرب الأهلية بين السنة والشيعة وسيرتبط اسمه بواحد من أسوأ فصول هذه المأساة.
قبل الحرب الأهلية بين السنَّة والشيعة، ظهر نوع من التضامن المتبادل بين المقاومة التي نظمها الصدريون ضد الاحتلال والمقاومة السنيَّة خاصة في مدينة الفلوجة "60 كم شمال غرب بغداد"، معقلها الأهم.
"فخلال معركة النجف، قدمت الفلوجة دعماً للصدريين؛ حيث كانت تصل الأسلحة والصواريخ تحت غطاء المواد الغذائية والخضراوات، بالإضافة إلى وصول مقاتلين سُنة يملكون الخبرة في استخدام الصواريخ وإعادة تصنيع بعضها"، حسبما قال علي ناصر من سكان النجف وقاتل في جيش المهدي لموقع "ألترا عراق"، مشيراً إلى أن "مقتدى الصدر رد الجميل وأرسل عدداً من المقاتلين في معركة الفلوجة التي خاضتها المدينة ضد الاحتلال الأمريكي".
ولكن العلاقة بين السنة والشيعة توترت بشدة، وكان ذلك بسبب مسارعة القوى الشيعية الرئيسية باستثناء الصدر، وبتشجيع من إيران والسيستاني بالانخراط في النظام الجديد الذي بدأ يشيده الاحتلال الأمريكي، والذي أقصى السنة بشكل لافت، وازداد الشعور بين السنة بأنه بينما هم يقاومون الاحتلال تستغل القوى الشيعية ذلك الوضع لتعزيز نفوذها، وفي الوقت ذاته، ازدادت قوة العناصر المتطرفة في أوساط المقاومة السنية، وبدأت تتحول من استهداف الاحتلال إلى ضرب المناطق الشيعية أو أهداف شيعية.
ووصلت الأمور إلى ذروتها بعد تفجير أحد أهم المراقد المقدسة لدى الشيعة في العراق، وهو مرقد الإمامين العسكريين بسامراء عام 2006، وتبعته سلسلة اعتداءات على نحو 30 مسجداً سنياً، الأمر الذي أشعل فتيل الحرب الطائفية في العراق تسببت في مقتل الآلاف من الطرفين.
ولعب جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر دوراً كبيراً في عمليات الإبادة والقتل الجماعي والاختطاف والتهجير، خاصة ضد أفراد من الطائفة السنيَّة، وأصبح يُعرف باسم "فرق الموت".
وفي ذلك الوقت اتسعت شعبية مقتدى الصدر بين الأوساط الشيعية الفقيرة التي استهدفها الإرهاب الطائفي لـ"القاعدة"، وزعيمها أبو مصعب الزرقاوي.
الصدر يتبرأ من القتل الطائفي ويُجمِّد جيش المهدي
وتبرأ مقتدى الصدر بعد ذلك من العناصر المتورطة في عمليات قتل وتهجير العراقيين.
عام 2007 قدرت مجموعة دراسة العراق، والمعروفة أيضاً باسم لجنة بيكر هاملتون التي شكَّلها الاحتلال الأمريكي للخروج من أزمة العراق، أن عدد أفراد التنظيم بلغ 60 ألف فرد، إلا أن كثيرين كانوا يرون حينها أن العدد أكبر من ذلك بكثير، بسبب انتشاره في كل مدينة وبلدة، من بغداد إلى الجنوب.
وخلال ذروة نشاطه كان هذا الجيش ينقسم إلى وحدات عسكرية تبدأ من مجموعات صغيرة داخل كل فصيل مؤلف من 50 مقاتلاً، تليها السرية التي تتألف من 300 مقاتل، وكل سبع سرايا تشكل فوجاً.
وبين عامَي 2006 و2008 تحدى الصدر بقواته علانية الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي حينها، في محاولة للسيطرة على عدة مناطق عراقية؛ مما أدى إلى مواجهات عسكرية مع الحكومة وقواتها، من ضمنها صولة الفرسان وهي سلسلة معارك طويلة ضد القوات الحكومية.
في نهاية أغسطس/آب 2007 أعلن مقتدى الصدر تجميد جيش المهدي لمدة ستة أشهر لإعادة تنظيمه، ثم أمر من جديد بعد انتهاء المدة بالتجميد لمدة ستة أشهر أخرى، قبل أن ينشط من جديد عام 2008.
وفي 2009 أعلن الصدر عن تجميد الميليشيا بشكل كامل، وطرد المتورطين في عمليات "تطهير طائفي" أو القتل على الهوية قبل انخراطه في العملية السياسية بشكل رسمي.
بعد نحو خمس سنوات من إعلان الصدر تجميد تنظيمه المسلح، أعلن من جديد عن عودة "جيش المهدي" بحُلة جديدة.
ثم يعيد تأسيس ميليشياته لمحاربة داعش
في حزيران/يونيو 2014 أعلن الصدر ولادة "سرايا السلام"، ومجدداً بهدف معلن هو حماية المراقد المقدسة، إلا أن الميليشيات شاركت في المعارك التي دارت في العراق ضد تنظيم داعش، وتعمل ضمن قوات الحشد الشعبي.
يلاحظ أنه على عكس ما حدث في عام 2006، ليس هناك تقارير عن مشاركة ميليشيات الصدر التي حاربت ضمن الحشد الشعبي ضد داعش، في عمليات تطهير طائفي واسعة، رغم وجود شكوى واسعة من ممارسات الحشد الشعبي الفجة ضد السنة، خلال الحرب ضد داعش، ويمكن القول إن مقدار الانتهاكات الطائفية في الحرب ضد داعش أقل بشكل كبير مما حدث في حرب 2006، وهذا سببه بقدر كبير أن ما حدث في عام 2006 كان ضخماً في فظاعته.
ويتعهد بالدفاع عن المحتجين ثم يتحالف مع الشيوعيين في الانتخابات
خلال احتجاجات 2019، أعلن الصدر أن ميليشياته ستدافع عن المحتجين ضد القمع الأمني أو قمع الميليشيات الموالية لإيران.
في الانتخابات الأخيرة، قاد التيار الصدري تحالف "سائرون" الذي شمل التحالف مع الشيوعيين في واحدة من أغرب مفارقات السياسة العراقية؛ حيث يتحالف تيار ديني طائفي شديد التقليدية مع تيار موغل في العلمانية ويتبنى أيديولوجية مرتبطة بالإلحاد، ولكن يمكن القول إن القاعدة الاجتماعية للتيارين متقاربة، فالحزب الشيوعي كان يتركز في ذروة قوته في أوساط المثقفين المنبقثين من الطبقات الشيعية الفقيرة، وهي نفس أوساط التيار الصدر.
العلاقة مع العالم العربي
رغم تورط التيار الصدري بشكل كبير في واحدة من أسوأ المذابح الطائفية في تاريخ المنطقة عام 2006، فإنه يلاحظ أنه منذ دعا إلى ما يسمى عراقية الحوزة عقب الغزو الأمريكية مباشرة، فإن التيار الصدري يمثل بوعي أو غير وعي شكلاً من أشكال الصحوة العربية بين شيعة العراق ضد السيطرة العجمية على الشأن الديني والسياسي العراقي سواء سيطرة من قِبَل إيران مباشرة أو رجال الدين الإيرانيين والأفغان والباكستانيين أو حتى الأسر الشيعية المنحدرة من أصول أعجمية قديمة أو حتى الأسر العربية الكبيرة المرتبطة بالحوزة التي يسيطر عليها رجال الدين الإيرانيون.
لم يعنِ ذلك أن الصدر تبنى خطاباً قومياً صريحاً في بلد ارتبط فيه مفهوم القومية العربية بنظام صدام الاستبدادي المستند لحكم الأقلية السنيَّة، ولكن توجّه الصدر كان يتراوح بين التأكيد على الهوية العراقية أو الدور العراقي القح في المذهب الشيعي وانتقاد حلفاء إيران ومحاولة التأكيد على ضرورة إقامة علاقة جيدة مع المحيط العربي، وهو أمر وصل لذروته بزيارة الصدر للسعودية ولقائه بالأمير محمد بن سلمان عام 2017.
كما أن الصدر يعد من القادة الشيعة النادرين جداً الذين انتقدوا بشار الأسد وجرائمه ضد سُنة سوريا، وطالب في عام 2017 بتنحيه.
العلاقة مع إيران وأمريكا
علاقة الصدر مع إيران وأمريكا تبدو مركبة، فالصدر اكتسب شعبيته الأولى من محاربته للأمريكيين، ولكنه أكثر طرف مستفيد من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ورغم أنه يبدو الآن الوحيد الذي يقدم فائدة حقيقية لأمريكا، بتصديه لنفوذ الموالين لإيران، إلا أنه رغم ذلك لا يربطه علاقة معروفة بالأمريكيين وهو ناقد حاد للتطبيع والدعم الأمريكي لإسرائيل وكان القوة الدافعة لسن قانون عراقي يجرم التطبيع.
أما العلاقة مع إيران فهي أكثر تعقيداً، فالصدر دوماً ينتقد حلفاء إيران، ولكن نادراً ما ينتقد إيران نفسها، بل الأقرب أنه ينتقد سيطرتها على العراق، ويبدو نقده موجهاً أكثر لمن سمح من العراقيين لإيران بهذه السيطرة، ولكن في المقابل، فالصدر كان لديه في كثير من الأوقات علاقة جيدة مع الإيرانيين.
ففي خلال فترة الاحتلال الأمريكيين، كان الإيرانيون على ما يبدو سعداء بمحاربة الصدر للأمريكيين؛ لأن ذلك قد يدفعهم للانسحاب وتسليم السلطة لحلفائهم العراقيين الأقرب مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية برئاسة عبد العزيز الحكيم أو أحمد الجلبي (صديق الأمريكيين وأحد المحرضين لهم على غزو العراق ثم تبين أنه تابع تماماً لإيران).
وفي تلك الفترة كان الصدر كثيراً ما يلوذ بإيران عندما تسوء الأحوال في العراق، وتحدث مواجهات بينه وبين الأمريكيين وأتباعهم.
وفي عهد الحرب الأهلية عام 2006، يعتقد أن الإيرانيين راضون عن دور جيش المهدي في التطهير الطائفي للسنة ثم دوره بعد ذلك في محاربة داعش ضمن الحشد الشعبي، ولكنهم على الأغلب قلقون من استقلال الصدر النسبي وقدرته على التماهي مع الأجواء المعادية لإيران وللأحزاب الموالية لها في أوساط شيعة العراق، كما ظهر في احتجاجات 2019، والأسوأ بالنسبة لطهران محاولته الآن تشكيل حكومة تضم الصدريين وقوى سنية وكردية مع استبعاد حلفاء إيران التقليديين.
واللافت أنه عند اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان التيار الصدري من أكثر المنتقدين لما حدث، وأبدى تضامناً شديداً مع إيران، وساعد موقف الصدر وعملية الاغتيال نفسها على إنهاء الاحتجاجات الحاشدة التي كان يشهدها العراق في عام 2019، والتي شارك فيها بشكل أساسي شبان شيعة غير حزبيين واستهدفوا النخب الحاكمة التي أغلبها موالٍ لإيران، وأسفرت هذه الاحتجاجات عن إجراء الانتخابات المبكرة التي فاز بها التيار الصدري.
بصفة عامة التيار الصدري يقدم نفسه فيما يتعلق بالثوابت الإسلامية أو الشيعية مثل الموقف من إسرائيل وأمريكا، بأنه أكثر مبدئية مع إيران، مما يقلل من قدرتها على اتهامه بأنه يخون الشيعة أو أنه عميل لأمريكا وإسرائيل.
وفي الوقت ذاته في الساحة الداخلية، يقدم الصدر خطاباً ناقداً للفساد والطائفية والمحسوبية والفوضى والمحاصصة، وهي الممارسات المرتبطة بشكل رئيسي بالقوى الموالية لإيران.
تبدو العلاقة المركبة بين الصدريين وإيران واضحة، في حقيقة أن أغلب الصدريين بناء على وصية محمد الصدر يقلدون المرجع آيه الله كاظم الحائري، هو مرجع عراقي مقيم في قم الإيرانية، ولكن لا يقلد أغلبهم مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي.
يبدو الصدر ظاهرياً على الأقل يقدم خطاباً يريد فيه علاقة شبه متساوية مع إيران، فهو لا يعلن عن العداء لها، ولكنه يبدي تذمراً من هيمنتها المطلقة على الشأن العراقي، ودور أتباعها في إفساد البلاد، كما يؤكد أن العراق يجب أن تكون لديه علاقات مع محيطه العربي، مع مؤشرات على اعتراف خافت بما يمكن وصفه بزعامة إيران لشيعة العالم، ولكن ليس بنفس درجة التبعية التي تميز القوى الموالية لإيران في العراق ولبنان.
هذه المراوحة المتنوعة بين المواقف تعطيه شعبية، سواء من منطلق طائفي أو عراقي أو اجتماعي قومي، ويتداخل مع ذلك حقيقة أن لديه قوة كبيرة على الأرض ما زالت الأشد التصاقاً بالطبقات الاجتماعية الفقيرة، وكذلك نفوذ في أوساط الحكومة اكتسبه من مشاركته الواسعة في السلطة، تجعله التيار الوحيد الذي لديه قدم في الشارع ويد ترفع السلاح.
كما أن التيار الصدري لديه قدرة لافتة على النجاة من الأزمات عبر التهدئة أو الهدنات، أو تغيير بعض المواقف مع المحافظة على وجوده في الشارع.
يبدو التيار الصدري الأمل الوحيد للعراق؛ للتخلص من الطبقة الحاكمة الموالية لإيران التي جمعت بين الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة والطائفية بشكل مذهل، إلا أن الصدريين أيضاً يمكن أن يمثلوا تحدياً للديمقراطية العراقية، فلقد يؤدي تلويحهم بالشارع أو السلاح لحرب أهلية، وحتى في حال انتصارهم دون حرب أهلية عبر إجراء انتخابات مثلاً تعزز كتلتهم البرلمانية وتمكنهم من تشكيل حكومة دون النخب الموالية لإيران، وهو أمر احتماله ضئيل؛ لأن طهران وحلفاءها لن يسمحوا به، ففي هذه الحالة سيصبح الصدريون سادة العراق دون منازع، وليس هناك ضمانة بألا يحاولوا ترسيخ سلطتهم بشكل غير ديمقراطي.