كان يفترض بالقمة الهاتفية بين الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ونظيره الصيني، شي جين بينغ، أن تنزع فتيل أزمة الزيارة التي تنوي نانسي بيلوسي القيام بها إلى تايوان، لكن ذلك لم يحدث، واستمر حوار الطرشان بينهما، فماذا يعني ذلك لهما وللعالم؟
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنها ستستعيد الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها مؤخراً، في ظل إرسال الجيش الصيني عدداً قياسياً من الطائرات الحربية بالقرب من الجزيرة، في استعراض للقوة لا يخفى على دول المنطقة الأخرى.
اتصال خامس بين بايدن وشي
وفي هذا السياق، تمثل زيارة بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، المحتملة إلى تايوان تحدياً غير مسبوق لوحدة الصين، كما تقول بكين، إذ إنها ستكون المرة الأولى منذ أكثر من 4 عقود التي يزور فيها مسؤول أمريكي رفيع المستوى الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي، وتصر الصين على أنها جزء لا يتجزأ من أراضيها.
وفي ظل التوتر الكبير في العلاقات بين بكين وواشنطن يصبح أي رد فعل صيني على تحرُّك كهذا من جانب رئيسة مجلس النواب الأمريكي وارداً وبقوة، بحسب ما صدر عن وزارة الخارجية الصينية، إضافة إلى التقارير الإعلامية وما يحدث في تايوان نفسها خلال الأيام القليلة الماضية.
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي الاتصال الهاتفي بين بايدن وشي الخميس 28 يوليو/تموز بشأن هذه القنبلة الموقوتة، ووصف تقرير الموقع الاتصال بين الرئيسين بأنه "فرصة مهدرة"، مما ينذر بانفجار القنبلة، ما لم تتراجع بيلوسي عن الزيارة.
ومنذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، تم عقد 5 اجتماعات بين شي جين بينغ والرئيس الأمريكي، ومن المفترض أنَّ هذا الاتصال الأخير بينهما سيكون مقدمةً لاجتماعٍ فعلي مباشر بين الزعيمين على هامش قمة مجموعة العشرين في نوفمبر/تشرين الثاني.
وعلى الرغم من الأهمية الأكيدة لتواصل الزعيمين باستمرار، من وجهة نظر عامة على الأقل، فإنَّ محادثاتهما السابقة لم تفعل شيئاً يُذكَر لتهدئة المشكلات الأساسية في العلاقة، من تايوان إلى التجارة، والتغير المناخي، والتجسس السيبراني، والأعراف العالمية -ناهيك عن إيجاد حلول لها. ويبدو أنَّ هذا الاجتماع الأخير لم يكن استثناءً، بحسب تقرير الموقع الأمريكي.
وتحت الابتسامات والإيماءات المُطَمئِنَة، التي تحدث عادةً خلال هذه الاجتماعات الرئاسية، تستمر الحكومتان في الابتعاد عن بعضهما البعض، بينما تُعبِّران أحياناً عن رغبتهما في التعاون والتعايش السلمي.
حوار الطرشان بين أمريكا والصين
وفي حِوار الطُّرْشان هذا، يشير كل طرف بإصبع الاتهام إلى الآخر عند تفسير الجمود المستمر في العلاقة، حيث تدعي الولايات المتحدة أنَّ الصين لن تتحدث عن المشكلات الجوهرية حتى تلبي واشنطن بعض المطالب غير المقبولة، وتشكو بكين من أنَّ الولايات المتحدة لا تتوانى في تشويه سمعة الصين ومهاجمتها وتقويضها في كل قضية تقريباً.
ويرفض كلا الجانبين الاعتراف بطبيعة التنافس المستمر بينهما، وبالتالي اللوم المشترك بينهما في الوصول لهذه النتيجة، والوضع الذي يزداد خطورة، مع افتراض كل طرف منهما أنَّ الدبلوماسية العدوانية ذات المحصلة صفر والردع العسكري فقط هما ما سيحافظان على مصالحه.
ولا يريان أي مجال لضبط النفس والتوافق المتبادل. وبالطبع، لا يدرك أي من الجانبين الدرجة العالية التي تؤثر بها السياسة المحلية على قدرته على الانخراط انخراطاً هادفاً، إذ يُعوِل المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الصيني والانتخابات النصفية الأمريكية على كل رئيس ألا يُظهِر ضعفاً أو مرونةً.
إذ من المتوقع أن يسعى الرئيس الصيني إلى الفوز بولاية ثالثة في مؤتمر للحزب الشيوعي الصيني في وقت لاحق من العام الجاري، بينما يواجه الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، الذي ينتمي له بايدن، معركة شرسة للاحتفاظ بسيطرته على مجلس النواب الأمريكي في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني.
وتتجلى الأخطار الشديدة لهذه البيئة في الوقت الحاضر في المأزق المتفاقم حول تايوان، الذي يزداد سوءاً بسبب احتمال رحلة قادمة إلى الجزيرة تجريها رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.
ونظراً لأنَّ بيلوسي ليست مجرد عضو في الكونغرس، بل هي الثالثة في ترتيب الرئاسة وداعمة عنيفة منذ زمن لتايوان ضد الصين، فإنَّ زيارتها ستشكل استفزازاً فريداً ومؤشراً على مزيد من التآكل في الدعم الأمريكي لسياسة "الصين الواحدة"، الذي يحظر على كبار قادة الولايات المتحدة القيام بزيارة تايوان.
ولجأت الحكومة الصينية الآن في عدة مناسبات إلى توجيه تحذيرات تنذر بالسوء، خاصةً ضد زيارة بيلوسي، مشيرة إلى أنَّ "جيش التحرير الشعبي (أي الجيش الصيني) لن يقف مكتوف الأيدي"، في حال أُجرِيَت الزيارة.
لم تنطق بكين بهذه العبارة إلا مرة واحدة من قبل، منذ أكثر من عشرين عاماً، في أزمة سابقة بشأن تايوان انطوت على خطر الصراع. وفي لقائه مع بايدن، يوم الخميس 28 يوليو/تموز، يبدو أنَّ شي جين بينغ لم يكرر هذه العبارة.
لكنه أكد أنَّ "من يلعبون بالنار، لن يحرقوا إلا أنفسهم". ويشير كلا التصريحين إلى أنَّ أي رد فعل صيني على الزيارة لن يقتصر على الاحتجاجات الدبلوماسية أو الضغوط الاقتصادية.
هل ستزور بيلوسي تايوان فعلاً؟
وبحسب تحليل الموقع الأمريكي، فإن أولئك الذين يتجاهلون مثل هذه التحذيرات، أو يؤكدون أنَّ بيلوسي عليها المضي قدماً في الرحلة لتُظهِر أنَّ بكين لا يمكنها تخويف واشنطن، يتجاهلون النقطة الواضحة، المتمثلة في أنَّ فشل بايدن في تجنب مثل هذه المواجهة من خلال معارضة رحلة بيلوسي بشدة في المقام الأول قد أدى إلى هذا الرد الصيني المتوقع للغاية.
على الرغم من أنَّ بايدن ليست لديه السلطة لإصدار أمر لبيلوسي بعدم زيارة تايوان، إلا أنَّ بإمكانه فعل أكثر بكثير من مجرد توجيه ملاحظة فظة بأنَّ الجيش الأمريكي يعتقد "أنها ليست فكرة جيدة في الوقت الحالي …".
ومن غير الواضح كيف رد بايدن على تصريح شي بشأن تايوان في اجتماع صباح الخميس، 28 يوليو/تموز، بين الزعيمين. لكن من المأمول أنه أدرك العواقب الواضحة لرسالة بكين، وسوف يتصرف بصراحة ووضوح أكثر لمعارضة رحلة بيلوسي وتجنب الأزمة الوشيكة.
والأحد 31 يوليو/ تموز، قال مكتب بيلوسي إنها ستبدأ زيارة لآسيا، تشمل أربع دول، دون الإشارة إلى تايوان، وسط تكهنات شديدة بأنها قد تزور الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي وتقول الصين إنها تابعة لها.
وأضاف مكتب بيلوسي في بيان "رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي تقود وفداً من الكونغرس إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي، بما يشمل زيارات لسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان".
وجاء في البيان أن الزيارة ستشمل تلك الدول، لكنه لم يحدد ما إذا كانت بيلوسي، التي تحتل المرتبة الثالثة في تسلسل المناصب الرئاسية، ستزور دولاً أخرى. وذكر البيان "ستركز الرحلة على الأمن المتبادل والشراكة الاقتصادية والحكم الديمقراطي في منطقة المحيطين الهندي والهادي"، بحسب رويترز. وكان جريجوري ميكس، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، من بين أعضاء الوفد.
وتعتبر الصين أن زيارات المسؤولين الأمريكيين لتايوان تعطي إشارة مشجعة للمعسكر المؤيد لاستقلال الجزيرة. ولا تقيم واشنطن علاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، لكنها ملزمة بموجب القانون بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وتعد زيارة بيلوسي، وإن لم تكن غير مسبوقة، دلالة واضحة جداً على دعم الولايات المتحدة لتايوان. وكان الجمهوري نيوت جينجريتش آخر رئيس لمجلس النواب يزور تايوان في 1997.
وأبلغ بايدن الرئيس الصيني بأن السياسة الأمريكية بشأن تايوان لم تتغير وأن واشنطن تعارض بشدة الجهود المبذولة من جانب واحد لتغيير الوضع الراهن أو تقويض السلام والاستقرار في مضيق تايوان.
وقالت وزارة الخارجية التايوانية الجمعة بعد الاتصال بين الرئيسين الصيني والأمريكي إن تايوان ستواصل تعميق شراكتها الأمنية الوثيقة مع الولايات المتحدة.
وعلى نطاق أوسع، في مرحلة ما -وربما نتيجةً للآثار العقابية لأزمة تايوان- سيتحرك الزعيمان لإنهاء لعبة اللوم المتبادل التي تشارك فيها الحكومتان، ويدركان أنَّ التوصل إلى تفاهمات ذات مغزى بشأن القضايا المضطربة والتهديدات المشتركة، مثل تايوان وتغير المناخ، تلغي أي مساعٍ "للفوز" بينهما في منافسة غير محددة المعالم، ولا قابلة للفوز إلى حد كبير.
ومثل هذا التحول في منظور كل دولة، الذي تشتد الحاجة إليه، يمكن أن يجعل اجتماعات شي وبايدن المستقبلية أحداثاً ذات مغزى حقاً.