برلمان محاصر من قبل المتظاهرين، بلد تائه بعد تسعة أشهر من الانتخابات، عداء بين الكتل المحلية ووكلاء إيران. بالنسبة للكثير من العراقيين، فإن الأزمة السياسية الأخيرة ليست بالأمر الجديد. لكن بالنسبة للعديد من المراقبين، تبدو هذه المواجهة أعقد وأطول أمداً من معظم المواجهات على مدار أكثر من عقدين من الجهود المبذولة لترسيخ دولة ديمقراطية في العراق.
الأمل يتلاشى في تشكيل حكومة حقيقية في العراق
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، من المنطقة الكردية في الشمال إلى محافظة الأنبار في الغرب والمجتمعات الشيعية في الجنوب، يبدو أن هناك القليل من الأمل في أن تنبثق من الصراع على السلطة في العراق حكومةٌ تسعى إلى تحقيق مصلحة وطنية جماعية.
في المقابل، هناك العديد من المؤشرات التي تشير إلى أنه بعد حملة استنزاف منهكة، ستشق إيران طريقها في نهاية المطاف لتعزيز سيطرتها على المناطق الرئيسية لدولة ضعيفة، وستفرض شروطاً على نطاق غير مسبوق.
في أربيل، حيث تسببت الصواريخ التي أطلقها وكلاء إيران -مؤخراً ليلة الثلاثاء 26 يوليو/تموز- في اضطراب يغير القادة ببطء مواقفهم بشأن ما سيأتي بعد ذلك.
دَعَمَ إقليم كردستان شبه المستقل كتلة رجل الدين العراقي مقتدى الصدر، الذي يرغب في تقييد نفوذ إيران في البلاد. وفي صفقة ما بعد الانتخابات، كان الصدر يأمل في تشكيل حكومة في البرلمان المؤلف من 329 مقعداً إلى جانب الأحزاب السنية.
"إيران موجودة في العراق لتبقى"
ولكن مع فشل محاولات تنصيب رئيس -وهي الخطوة الأولى في العملية- بدأ رئيس وزراء الإقليم الكردي مسرور بارزاني في مناقشة نموذج كونفدرالية لامركزية جديد من شأنه أن يأخذ السلطة من بغداد ويمنح الأكراد وغيرهم من الفئات العرقية والطائفية المزيد من السلطة على شؤونهم الخاصة.
وقال بارزاني لمركز أبحاث تشاتام هاوس ومقره لندن في أبريل/نيسان الماضي إن الاتحاد الكونيفدرالي يمكن أن يكون حلاً لجميع العراقيين. وكانت تصريحاته خروجاً واضحاً عن القبول بالنموذج المركزي الذي ظلت واشنطن، حتى وقت قريب، تستثمر فيه منذ أن أطاح الجيش الأمريكي بصدام حسين قبل ما يقرب من 20 عاماً.
تضاءل اهتمام الولايات المتحدة بالدفاع عن الديمقراطية في العراق إلى حد كبير خلال العام الأول لإدارة بايدن، ما دفع المسؤولين الأكراد إلى التفكير في التحالف مع المصالح الإيرانية لتشكيل حكومة في بغداد أخيراً.
وقال مسؤول كردي كبير إن لطهران الأفضلية على واشنطن في العراق. وأضاف للغارديان: "هناك وضع ثابت سيستمر في التفوق على الولايات المتحدة. كانت نتيجة متوقعة وكان من الممكن تفاديها. استغرق الأمر من الصدر 10 أشهر لقبول هذه النتيجة. لقد وصفها بالاستقالة لأنه أدرك ما لا يزال كثيرون يرفضون قبوله: إيران موجودة لتبقى".
الصدر يحشد الشارع ويقتحم البرلمان مرة تلو الأخرى
وأمر الصدر، الفائز الأكبر في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نوابه بالاستقالة من مناصبهم في الربيع، لكنه يظل الشخص الأقدر على تعبئة الشارع العراقي. وكان يوم الأربعاء 27 يوليو/تموز 2022 بمثابة تذكير واضح بسلطاته، حيث رقص المئات من أنصاره وغنوا في البرلمان بعد اقتحام المنطقة الخضراء شديدة الحراسة في بغداد.
وكان الصدر قد حشد أتباعه للاحتجاج على ترشيح جماعة متحالفة مع إيران للوزير السابق ومحافظ المنطقة محمد السوداني لمنصب رئيس الوزراء. وعلى الرغم من عدم وجوده في البرلمان، يبدو أن رجل الدين المثير للجدل يصر على تنصيب زعيم جديد.
وبعد 3 أيام، عاد أنصار الصدر مجدداً لاقتحام المنطقة الخضراء والبرلمان بأعداد أكبر، وتمكنوا من عبور حاجز أمني باتجاه المنطقة الخضراء، بهدف منع انعقاد جلسة محتملة لمجلس النواب العراقي لانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، في وقت أغلقت فيه قوات الأمن عدداً من الجسور بحواجز خرسانية.
وجدد المتظاهرون رفضهم لاسم محمد شباع السوداني لرئاسة الوزراء، والذي رشّحه لهذا المنصب خصوم الصدر السياسيون في الإطار التنسيقي الذي يضمّ كتلاً شيعية، أبرزها دولة القانون، بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وكتلة الفتح، الممثلة لفصائل الحشد الشيعي الموالي لإيران.
وتكبدت الكتل الإيرانية خسائر فادحة في الانتخابات كان من شأنها أن تقلص إلى حد كبير سلطات طهران في المجلس التشريعي وفي المؤسسات العراقية الأخرى. منذ ذلك الحين، حاول وكلاؤها استعادة موطئ قدم أثناء ممارسة الضغط على المعارضين، ولا سيما الأكراد في البلاد، الذين كانوا يحاولون بناء صناعة لتصدير الغاز والنفط تعمل بشكل منفصل عن بغداد.
استهدفت الهجمات الصاروخية التي ينفذها وكلاء إيران بشكل متكرر البنية التحتية للغاز الكردستاني، في تحركاتٍ اعتُبِرَت تحذيرات محددة بعدم التجاوز في الداخل والعودة إلى طاولة المفاوضات على المستوى الوطني.
شبح الحرب الأهلية يخيم على العراق
وأعادت تسريبات منسوبة لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي إلى الأذهان صورة صراع يمتد إلى عام 2008 مع رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر، حيث سُمع كلام منسوب للمالكي يوضح فيه نيته اقتحام مدينة النجف والتخلص من الصدر.
ويرى مراقبون أن التسريبات أدخلت العلاقات بين الطرفين في طريق اللاعودة، وأبعد من ذلك، احتمالات الدخول في اقتتال داخلي بين التيار الصدري والأجنحة العسكرية لقوى الإطار التنسيقي.
ولثلاث مرات نفى المالكي صحة التسريبات متبنياً فكرة تزييف صوته عبر تقنيات حديثة متطورة من قبل جهات لم يذكرها بالاسم قال إنها تهدف إلى إشعال الفتنة في العراق.
وفي تعليق له على التسريبات، طالب الصدر المالكي باعتزال العمل السياسي وتسليم نفسه إلى الجهات القضائية. ودعا إلى "إطفاء الفتنة" من خلال استنكار مشترك من قبل قيادات الكتل المتحالفة مع المالكي في الإطار التنسيقي من جهة، وكبار عشيرته من جهة أخرى.
وحتى الآن لم تبت الجهات العراقية المختصة بصحة التسريبات أو عدم صحتها، كما ان القضاء العراقي لم يتخذ أي إجراءات بشأن عدد من الشكاوى تقدم بها مواطنون وناشطون وسياسيون في عدد من المحاكم تتهم المالكي بتهديد السلم الأهلي.
ولا تزال الجهات المختصة لم تعلن موقفها من صحة التسريبات التي كان أخطر ما فيها التخطيط لانقلاب سياسي باستخدام القوة من فصائل مسلحة لم يعلن عنها سابقاً.
ويرى محللون أن أي انقلاب سياسي يدبره المالكي سيستهدف التيار الصدري ورئيسه في المقام الأول، وشركاء العملية السياسية من العرب والأكراد المتحالفين ضمناً مع التيار الصدري في المقام الثاني، والنظام السياسي برمته.
وفي تغريدة للصدر أشار إلى أنه كان في مرات عدة وراء "حقن دماء العراقيين بمن فيهم المالكي نفسه"، في إشارة إلى صدام سابق عام 2008 بين القوات الأمنية التي كان يقودها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بصفته القائد العام للقوات المسلحة، وجيش المهدي الجناح العسكري للتيار الصدري والذي أعلن الصدر حلّه بعد أسابيع من الاشتباكات في البصرة.