رغم الظروف السياسية غير المستقرة في العراق فإن بغداد بدأت تُوسع وساطتها بين إيران من جهة والدول العربية من جهة أخرى، فلماذا قد يتعارض هذا الدور مع قطار التطبيع مع إسرائيل؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي تناول الإجابة في تقرير عنوانه "هل تمثل المبادرات الإقليمية للعراق تحدياً لاتفاقيات أبراهام؟"، أعده أغا حسين، المحلل الجيوسياسي المتخصص في دراسة القوى الشرق أوسطية ومصالحها في منطقة أوراسيا.
وتقول التقارير الواردة من العراق إنَّ بغداد توسِّع ببراعة دورها الدبلوماسي في الوساطة بين إيران والسعودية، من أجل ترتيب حوار إيراني مع مصر والأردن والإمارات أيضاً. ولهذا المسار الدبلوماسي الإقليمي القدرة على ملء الفراغ في الشرق الأوسط بدبلوماسية إقليمية شاملة، في حين تُقلِّص نطاق اتفاقيات أبراهام باعتبارها شكلاً من أشكال التعاون الإقليمي.
واتفاقيات أبراهام هي الاسم الرسمي الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على صفقات التطبيع بين إسرائيل من جهة وبعض الدول العربية، وتحديداً الإمارات والبحرين والسودان والمغرب حتى الآن، من جهة أخرى.
لماذا العراق قادر على الوساطة مع إيران؟
يفتقر الشرق الأوسط إلى منصة دبلوماسية مؤسسية واحدة للحوار والتحرك الجماعي بشأن القضايا الإقليمية. ويظل التوصل إلى توافق على مستوى المنطقة بشأن أي مسألة بعيد المنال، وحتى الميل من جانب العديد من الثنائيات المتنافسة، من تركيا والإمارات، إلى إيران والسعودية، إلى الحوار مؤخراً يغطي قضايا ثنائية ولا يشمل أي التزامات إقليمية أو متعددة الأطراف من جانب أي من الدولتين، بحسب تحليل الموقع الأمريكي.
لكن مبادرة الدبلوماسية الإيرانية- العربية من جانب بغداد تبدو وكأنها تتدارك هذه الفجوة في الدبلوماسية الإقليمية من خلال تقديم العراق نفسه باعتباره موقعاً للتعايش الإيراني العربي.
وتمنح السعودية والإمارات أهمية كبرى لعلاقاتهما الثنائية مع العراق، في حين عقدت مصر والأردن لقاءات ثلاثية مع المسؤولين العراقيين خمس مرات منذ عام 2019.
وتتمثَّل إحدى السمات المشتركة في الانخراط العربي مع العراق في التركيز العربي على القوة الناعمة والتبادل الاقتصادي، وهو ما يوضح زيدون الكناني، من المركز العربي في واشنطن، أنَّه يعود إلى عدم قدرة هذه الدول على مضاهاة القوة الصلبة العسكرية لإيران في العراق، وعدم قدرتها على هندسة السياسة العراقية.
بالتالي، فإنَّ العراق لا يمثل في الواقع جبهة للتنافس المحتدم بين إيران ونظيراتها العربيات. وتستغل بغداد هذا، فتُظهِر لطهران والدول العربية أنَّ العراق يشعر بارتياح إزاء كل مصالح الطرفين، وليس عالقاً في لعبة شد حبل بينهما.
وكانت محادثات سرية جرت بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين، بدأت منذ يناير/كانون الثاني 2021، وكانت صحيفة Financial Times البريطانية أول من نشر تقريراً بشأنها، بينما أفاد موقع Amwad.media البريطاني لاحقاً بأنه تم عقد خمسة اجتماعات بين الجانبين، وأن بعض تلك الجلسات ضمَّت أيضاً مسؤولين من الإمارات ومصر والأردن، حول مواضيع تتراوح بين الحرب في اليمن إلى الأمن في سوريا ولبنان.
وفي ظل عدم وجود علاقات دبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران منذ عام 2016، وتجاهَلَ القادة والدبلوماسيين من كلا الجانبين تهديدات الحرب فيما بينهما منذ ذلك الحين، مثلت تلك المحادثات بين الرياض وطهران تحوُّلاً سياسياً هائلاً.
وأظهرت تلك التطورات الدبلوماسية أن العراق في موضع الفاعل المحايد الموثوق الذي يمكن الاعتماد عليه للتوسط في حوار شرق أوسطي عند الضرورة. ويجعل هذا الوساطة العراقية أداة خفض تصعيد مفيدة بالنسبة لمعظم المنطقة، لأنَّ طرفي أي تنافس معين يمكن أن يتفقا على خفض التصعيد المتبادل بوساطة بغداد دون إراقة ماء الوجه.
وأوجه القوة هذه في دبلوماسية العراق الإيرانية- العربية، جنباً إلى جنب مع الأهداف الاستراتيجية العراقية التي تعززها، تمثل تحدياً أكبر لاتفاقيات أبراهام التي وقَّعتها إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب.
العراق في مواجهة اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل
تهدف اتفاقيات أبراهام، إلى جانب إضافة المزيد من اتفاقيات التطبيع الإسرائيلي- العربي، لأن تكون منصة لإنشاء تحالف إقليمي إسرائيلي- عربي. لكنَّها فشلت حتى الآن في تجسيد الدبلوماسية اللازمة لإقناع الدول العربية أو الإسلامية بهذه الفكرة.
فعلى سبيل المثال، أشعل التطبيع الإسرائيلي المغربي التوترات مع الجارة الجزائر؛ إذ أعلنت الجزائر الاتفاقيات سبباً رئيسياً لقطعها العلاقات الثنائية مؤخراً مع الرباط، وبالتالي أصبحت عاملاً في الصراع، وليست الدبلوماسية، في منطقة المغرب العربي. وبالمثل طغى رفض الدولة الخليجية الأبرز والأكبر، السعودية، الانضمام إلى الاتفاقيات على انضمام البحرين لها بُعيد انضمام أبوظبي. وكان مبرر الرياض بسيطاً: تجنُّب مفاقمة التوترات مع طهران.
وفي ضوء ذلك، من المرجح أن تصبح اتفاقيات أبراهام بالنسبة للبلدان العربية ترتيباً خطيراً مبنياً على حقول ألغام جيوسياسية، مثل الصراع الإيراني- الإسرائيلي، أكثر منها محركاً لتعددية شرق أوسطية حديثة.
وفي هذا السياق، دشَّن العراق "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة"، في أغسطس/آب 2021. وحضر المؤتمر كل الأطراف المعنية بدبلوماسية العراق الإيرانية- العربية تقريباً. وحضره كذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ودعمته الولايات المتحدة مبدئياً كمنصة دبلوماسية إقليمية بقيادة عراقية.
وبالمقارنة مع الاستقطاب الجيوسياسي المرتبط باتفاقيات أبراهام، تبدو الدبلوماسية العراقية أكثر أماناً وشمولاً. ولا تعتمد أيضاً على الولايات المتحدة لتقديم نتائج للمشاركين بها، على عكس اتفاقيات أبراهام، حيث أعطت واشنطن الضوء الأخضر لمشتريات إماراتية من مقاتلة F-35، واعترفت بالمطالب المغربية على الصحراء الغربية المتنازَع عليها، كي تدفع الدولتان العربيتان للتوقيع على اتفاقي تطبيع مع إسرائيل.
وقد سلَّط تريتا بارسي، المؤسس المشارك لمعهد كوينسي الأمريكي، الضوء على هذا باعتباره ميزة رئيسية للدبلوماسية العراقية على اتفاقيات أبراهام بسبب رغبة الولايات المتحدة المتزايدة للانسحاب من الشرق الأوسط. وقد وصف مؤتمر بغداد واتفاقيات أبراهام بأنَّهما نموذجان دبلوماسيان إقليميان متباينان.
موقف العراق من إسرائيل
لم يُقِم العراق علاقات ثنائية مع إسرائيل قط، ونظر إليها تاريخياً باعتبارها عدواً. ويعزز دعم إسرائيل للعناصر الانفصالية في إقليم كردستان العراق وجهة نظر بغداد حيال تل أبيب، باعتبارها تمثل تأثيراً مزعزعاً للاستقرار للعراق والمنطقة ككل.
وتوضح الاستراتيجية الدبلوماسية الإقليمية للعراق رغبته في ردع إسرائيل. فبالتوازي مع توسيع نطاق دبلوماسيته، زاد العراق تضييقه على الفاعلين الداخليين الذين يرتبطون بعلاقات مع إسرائيل.
ففي مايو/أيار 2022، مرَّرت بغداد قانوناً يُجرِّم العلاقات مع إسرائيل، رداً على فعالية مؤيدة لإقامة علاقات عراقية إسرائيلية عُقِدَت في أربيل بكردستان العراق قبل شهر من مؤتمر بغداد. وهذا، بطبيعة الحال، يعادل حقيقة أنَّ العراق لن يشارك في دبلوماسية تشمل إسرائيل والتطبيع العربي الإسرائيلي.
وستُؤخَذ تحفُّظات العراق على إسرائيل على محمل الجد، في ظل توطيد بغداد لمركزيتها في الهيكل الدبلوماسي الناشئ للشرق الأوسط، إذ بات الإجماع في أرجاء المنطقة على الحاجة لدبلوماسية مستدامة متعددة الأطراف الآن أكبر من أي وقتٍ مضى، ويمنح هذا الدول سبباً للإقرار بخط العراق الأحمر بشأن إسرائيل، لضمان بقاء بغداد مستعدة لتصبح الوسيط الدبلوماسي المُفضَّل لها.
علاوة على ذلك، تسهم حقيقة أنَّ كردستان العراق تحوَّلت إلى بؤرة ساخنة للتوترات الإيرانية الإسرائيلية في منح العراق ذريعة لإدخال المعارضة لدور إسرائيل الإقليمي ضمن استراتيجيته الدبلوماسية. في الواقع يمكن أن تشدد بغداد على أنَّ إسرائيل تمثل نفوذاً خارجياً يُخِلُّ بالهدوء النسبي في العراق، الذي تمكَّنت كلٌّ من طهران والدول العربية من الاستفادة منه، رغم خلافاتهما الكثيرة.
وسواء أثار العراق مشكلاته مع إسرائيل على مستوى متعدد الأطراف أو أثار الأمر على مستوى ثنائي مع نظرائه الإقليميين، ستكون لديه وجاهة قوية من زاوية الاستقرار وعدم التصعيد الإقليمي.
سواء تحدت دبلوماسية العراق الإيرانية- العربية اتفاقيات أبراهام صراحةً أم لا، فإنَّها مُهيَّأة لترك انطباع قوي ومستمر على النموذج الناشئ للدبلوماسية متعددة الأطراف في الشرق الأوسط.
واتفاقيات أبراهام تهدف تحديداً لفعل ذلك، لكنَّها ستواجه تحديات صلبة من التقدُّم الذي تحرزه مبادرات العراق الدبلوماسية والأسس المستقرة لها.