"أسوأ من جائحة كورونا، هكذا وصف مختصون موجة الحر في أوروبا التي أدت لوفاة المئات، وسط تساؤلات بشأن أسباب معاناة بريطانيا تحديداً من حرارة تبلغ الأربعين درجة مئوية، بينما تعد درجة معتادة في دول أخرى عديدة خلال فصل الصيف.
وتشهد أغلب أنحاء أوروبا موجة حارة شديدة، منذ أكثر من أسبوع، بلغت فيها درجات الحرارة نحو 45 درجة مئوية في بعض المناطق، وانتشرت حرائق الغابات في البرتغال وإسبانيا وفرنسا، مما أجبر السلطات على إجلاء الآلاف، لاسيما المناطق الجنوبية، وسط تحذيرات من حدوث تغير دائم لمناخ القارة، وتحول جزء من أراضيها لمناطق قاحلة
مخاطر موجة الحر في أوروبا تشبه الجائحة
وتخطت درجة الحرارة الأربعين للمرة الأولى ببريطانيا، ما تسبب بحرائق والتواء قضبان قطارات.
وفقدت أوروبا مساحات كبيرة من الأفدنة، وخسرت الكثير من المحاصيل بسبب اندلاع عشرات الحرائق التي يواجه المختصون صعوبة بالغة في إخمادها بعدة بلدان أبرزها إسبانيا، والبرتغال، وفرنسا.
وستؤدي تداعيات خسارة المحاصيل الزراعية في هذا الوقت إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية، المدفوعة بالحرب الروسية ضد أوكرانيا"، حسب الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، بيتيري تالاس.
موجة الحر في أوروبا ربما سيكون لها تأثير مشابه لجائحة "كورونا"، حسبما يرى الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، بيتيري تالاس، خاصة في ظل التقارير عن حالات وفيات كبيرة مرتبطة بارتفاع الحرارة.
وأردف: "نتوقع أن نشهد زيادة في الوفيات بين كبار السن والمرضى، فهذه الفئات كانت الأكثر عرضة لخطر فيروس كورونا، وهي اليوم من أكثر الفئات ضعفاً أمام موجات الحر".
بريطانيا تحترق
وللمرة الأولى منذ بدء تسجيل درجات الحرارة، سجلت بريطانيا أعلى درجات على الإطلاق، الإثنين والثلاثاء الماضيين، بتخطيها الأربعين درجة مئوية.
والإثنين، أطلق مكتب الأرصاد الجوية تحذير الحرارة باللون الأحمر لأول مرة منذ أن بدأ العمل بهذا النظام العام الماضي.
ويشير التحذير باللون الأحمر إلى إمكانية حدوث آثار صحية عكسية ضارة جراء درجات الحرارة بالغة الارتفاع، ما قد يتطلب "تغيرات مستدامة في ممارسات العمل، والروتين اليومي".
واعترف رئيس بلدية لندن صادق خان بأن العاصمة تشهد "ارتفاعاً هائلاً" في عدد الحرائق بسبب موجة الحر.
قد يكون هناك ما يصل إلى 1000 حالة وفاة زائدة في البلاد بسبب موجة الحر، حسب صحيفة الغارديان البريطانية.
وأعلن مطار لندن"لوتون" الإثنين تعليق الرحلات، على خلفية أضرار لحقت بمدرجه، بعد تجاوز الحرارة 37 درجة مئوية، كما أوقفت القوات الجوية الملكية جميع الرحلات من وإلى "بريز نورتون"، وهي أكبر قاعدة جوية لها في مقاطعة أوكسفوردشاير (جنوب شرق بريطانيا) بعد تقرير صحفي كشف عن "ّذوبان" مدرج القاعدة الجوية.
كما فرضت سلطات النقل قيوداً على سرعة القطارات وزمن التقاطر لحماية خطوط السكك الحديدية، بالإضافة إلى تخفيض ساعات عمل الحافلات، لا سيما في خلال النهار.
إنها ليست مجرد موجة
ستستمر تداعيات موجة الحر الشديد التي تضرب القارة الأوروبية حتى عام 2060 على الأقل، وذلك بغض النظر عن أي نجاحات تتحقق في جهود التخفيف من الآثار السلبية للتغير المناخي، حسبما يتوقع الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس.
وأشار تالاس، إلى أن هذه التغيرات المناخية "ستكون أكثر شيوعاً على مدار السنوات المقبلة".
وقد تشهد بريطانيا تشهد درجات حرارة مماثلة كل ثلاث سنوات "إذا ظلت انبعاثات الكربون مرتفعة"، حسبما قال رئيس قسم العلوم والتكنولوجيا في مكتب الأرصاد الجوية البروفيسور، ستيفن بيلشر.
وهذا ما أكدته دراسة أجرتها مجموعة بحثية بقيادة باحثين في المملكة المتحدة وهولندا تسمى World Weather Attribution العام الماضي حول موجة الحر التي حدثت في غرب الولايات المتحدة، وهي منطقة مشابهة في مناخها بشكل كبير لغرب أوروبا.
كانت مثل هذه الموجات يعتبرها الباحثون في مجال المناخ مستحيلة قبل سنوات قليلة فقط.
خلال هذه الموجة التي استمرت نحو تسعة أيام، أبلغ عن درجات الحرارة غير المسبوقة كانت "شبه مستحيلة" دون تغير المناخ. جعلتها غازات الدفيئة أكثر احتمالاً بما لا يقل عن 150 ضعفاً.
في غضون ست سنوات، حللت مجموعة "WWA" البحثية أكثر من 40 موجة حرارة، وفيضانات، وجفاف، وحرائق، وحتى نوبات البرد في جميع أنحاء العالم.
جمعت WWA التاريخ المناخي لمنطقة غرب الولايات المتحدة وكندا، وجمعت معاً سجلات درجات الحرارة التي تعود إلى عام 1950 لرصد مدى ندرة أو انتشار موجة الحر في المنطقة.
النتيجة كان مفاجئة، إنه لا توجد سابقة تاريخية لموجة الحر في غرب أمريكا الشمالية كالتي وقعت في عام 2021، حسبما نقل تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية عن مجموعة WWA لأبحاث المناخ.
قال الباحث المؤسس للمجموعة، فان أولدينبورغ: "لم نشهد قفزة في درجات الحرارة القياسية مثل تلك التي حدثت في موجة الحر هذه".
يبدو أن درجات الحرارة القصوى لها حدود، تقدر WWA مقدار زيادة هذا الحد منذ القرن التاسع عشر بـ1.2 درجة مئوية، اتضح أن موجة حر بهذا الحجم كانت مستحيلة فعلياً قبل الوقت الحالي.
من خلال فهم التاريخ المناخي للمنطقة، يقوم أعضاء "WWA" بعد ذلك بمحاكاة الحدث نفسه في عالمين افتراضيين مختلفين، مع أو دون تلوث غازات الاحتباس الحراري. تتيح لهم مقارنة نتائج النموذج استنتاج شيئين: إلى أي مدى ستكون موجة الحرارة اليوم أكثر احتمالية مما كانت عليه، ومدى دور تغير المناخ في ارتفاع درجات الحرارة.
وجدت الدراسة أن موجة الحر في أمريكا الشمالية في يونيو/حزيران 2021 كانت استثنائية حتى بالنسبة لمناخ العالم الأكثر دفئاً في السنوات الأخيرة.
جعلت غازات الدفيئة من احتمال حدوث هذه الموجات أكثر 150 مرة على الأقل، ودفعت درجة الحرارة القصوى بمقدار درجتين مئويتين أعلى مما كان يمكن أن تكون عليه.
قد تصبح موجة الحر مثل هذه أكثر حدة وتكراراُ إذا زاد المتوسط العالمي بمقدار 0.8 درجة مئوية أخرى.
هذه عتبة يمكن تجاوزها بحلول منتصف القرن إذا استمرت الانبعاثات بمعدلاتها الحالية. في هذه الحالة، سيضيف تغير المناخ 3 درجات مئوية إلى أعلى درجة حرارة لموجة الحر، بزيادة درجتين مئويتين التي تم إضافتها خلال موجة ساحل المحيط الهادئ غرب أمريكا في يونيو/حزيران الماضي.
سيزداد تكرار مثل هذه الموجات أيضاً، حيث سيزداد معدل حدوثها من مرة واحدة كل 1000 عام إلى مرة أو مرتين كل عقد!
إلى جانب الحرارة هناك حالات الجفاف، التي تتميز بالحرارة والجفاف، أو فيضانات ما بعد الجفاف، والتي تحدث عندما يأتي هطول الأمطار في النهاية، ولكنها تغمر الأرض الجافة بدلاً من تغذيتها.
لماذا تتأثر أوروبا بدرجات حرارة تبدو عادية في الدول العربية؟
وأصيب كثيرون في أنحاء العالم بالدهشة وهم يتابعون صور احتراق حافلات وسيارات في شوارع بريطانيا وهرب سكان، بحثاً عن ملجأ من درجات الحرارة المرتفعة، رغم أن درجة مثل 40 مئوية تتكرر في الصيف في العديد من بلدان العالم من بينها بلدان عربية دون حدوث نفس التأثيرات الصادمة هذه.
المشكلة أن الدول الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية ليست مستعدة لمثل هذه التغيرات المناخية القاسية، التي يبدو أنه أصبحت حتمية حتى لو قلل العالم من الانبعاثات الحرارية.
تبدو بريطانيا الجزيرة الواقعة في مسافة ليست بعيدة عن القطب الشمالي، نموذجاَ واضحاً، لهذه الأزمة، فبريطانيا تعد معياراً لما يعرف باسم المناخي المحيطي المعتدل، والذي يطلق عليه أحياناً المناخ البريطاني، حيث أدى وقوعها في غرب أوروبا بين المحيط الأطلنطي وبحر الشمال، إلى أن المسطحات المائية المحيطة بها تقلل البرودة في الشتاء، فالعاصمة لندن أقل برودة من معظم المدن الأوروبية التي تقع على نفس خط العرض.
وفي الصيف تقلل هذه المسطحات من الحرارة، الأمر الذي جعل البريطانيين، لا يكاد يعرفون الصيف الحار بالمعنى الذي تعرفه مناطق كثيرة في العالم مثل العالم العربي.
ولهذا انهارت البنى الأساسية البريطانية بما في ذلك انصهار قضبان السكك الحديدية بسبب تسجيل درجة حرارة تبلغ 40 أو 37، وهي درجات الحرارة العادية أو أقل من العادية في الصيف في العديد من البلدان العربية والآسيوية والإفريقية.
ولكن مثل هذه الموجات تعد أمراً غير مسبوق، بالأخص في منطقتي شمال غرب أوروبا وغرب أمريكا الشمالية (شمال غرب الولايات المتحدة، وجنوب غرب كندا)، وهما المنطقتان الأكثر اعتدالاً في مناخهما الصيفي في العالم.
الأمر يحتاج لفترة طويلة لتتكيف هذه الدول مع هذه الحرارة
وفي هذا الإطار، اعترف وزير النقل البريطاني غرانت شابس بأن "البنية التحتية، التي يعود الكثير منها إلى العصر الفيكتوري (بدأ في العقد الرابع من القرن التاسع عشر)، لم تكن مبنية لتحمل هذا النوع من درجات الحرارة، ما ضاعف إحساس السكان بموجة الحر ودفع بعضهم للجوء إلى سياراتهم للاحتماء بالمبردات الهوائية.
وأفاد بأن التكيف مع التغير المناخي "سيستغرق سنوات" حتى تتمكن بريطانيا من تحديث بنيتها التحتية بالكامل للتعامل مع درجات الحرارة المرتفعة.
فالمباني في بلدان أوروبية عديدة، بينها بريطانيا "لم تُصمَّم بطريقة تتحمل درجات تفوق الـ25 درجة مئوية"، حسبما كشفت مريم زكريا، عالمة المناخ في الكلية الإمبريالية للعلوم والتكنولوجيا والطب في لندن.
وأوضحت زكريا، في تصريحات نقلها موقع يورونيوز الأوروبي، أن هذه المشكلة الهندسية تأتي من أن بناء معظم المنازل جاء بهدف الحفاظ على الحرارة لمساعدة السكان على تحمل البرد بشكل أفضل، ما يتسبب في ارتفاع درجات الحرارة في الأماكن المغلقة أثناء موجة الحر.
وجزء ضئيل من المباني في أوروبا بشكل عام "مجهز بمكيفات الهواء".
أوروبا مهدَّدة بالجفاف
ولكن الأمر لن يقتصر على مشكلة الحرارة في مباني المدن غير المجهزة للحرارة العالية، فلقد حذر باحثون لدى المفوضية الأوروبية من أن حوالي نصف أراضي التكتل "باتت معرضة لخطر الجفاف".
وكشف مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية، في تقرير صدر يوليو/تموز الجاري، أن 46% من أراضي الاتحاد الأوروبي "معرضة لجفاف بمستوى يستدعي التحذير منه"، مشدداً على أن المحاصيل أصبحت تعاني من نقص حاد في المياه.
وأفاد الاتحاد الأوروبي بأن البلد الأكثر تأثراً "هو إيطاليا، حيث يواجه حوض نهر بو في شمال البلاد أعلى مستوى من الجفاف الشديد".
وحذر باحثو الاتحاد الأوروبي أيضاً من أن نقص المياه وشدة الحرارة يتسببان بتراجع المحاصيل في فرنسا، ورومانيا، وإسبانيا، والبرتغال وإيطاليا.
رغم أن التغير المناخي سوف يصيب العالم كله، ولكن مناخ أوروبا والولايات المتحدة التقليدي يضيف عبئاً إضافياً على السكان، فمنذ قرون تأقلمت هذه الشعوب على المناخ البارد شتاءً، المعتدل صيفاً، وقامت حضارتها على مياه الأمطار الوفيرة، ولكن التغيرات المناخية الحادة تعني الحاجة لإعادة تأهيل البنى الأساسية للتأقلم، مع ارتفاع درجات الحرارة، وقلة الأمطار، وهي مهمة عسيرة ومكلفة، ولكن الأصعب منها أن تتهيأ أجسام البشر وثقافاتهم لمثل هذا التغير المناخي، وهو أمر قد يحتاج لفترات طويلة.