بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمع أعضاء وفود 44 بلداً في "بريتون وودز" بولاية نيوهامبشير الأمريكية، وتحديداً في يوليو/تموز 1944، وذلك لإنشاء مؤسستين تحكمان العلاقات الاقتصادية الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث كان الهدف هو وضع نظام مالي عالمي جديد، يسهم في تجنب تكرار ما حدث عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. فما هو صندوق النقد الدولي؟ وما أهدافه وأنشطته؟ وبماذا يختلف عن البنك الدولي؟
ما هو صندوق النقد الدولي؟
صندوق النقد هو مؤسسة مالية دولية مقرّها العاصمة الأمريكية واشنطن، ويعمل تحت منظومة الأمم المتحدة، ويشغل حوالي 2600 موظف. ويتألف أعضاء صندوق النقد الدولي من 190 دولة.
وأنشئ الصندوق "للعمل على رعاية التعاون النقدي الدولي، والحفاظ على الاستقرار المالي، وتسهيل التجارة الدولية، والحثّ على رفع معدلات التوظيف والنمو الاقتصادي المستدام، وتقليص الفقر في مختلف أنحاء العالم"، وهذه هي الأهداف المعلنة لهذه المؤسسة الدولية.
تأسس صندوق النقد الدولي عام 1944، وبدأ عمله في 27 ديسمبر/كانون الأول عام 1945 في مؤتمر "بريتون وودز" انطلاقاً من أفكار الاقتصاديّيَن هاري ديكستر وايت (مدير الخزانة الأمريكية)، وجون مينارد كينز (عالم الاقتصاد الإنجليزي الشهير). ثم بدأ الوجود الرسمي لصندوق النقد الدولي عام 1956، عندما شاركت 29 دولة في تأسيسه بهدف "إعادة هيكلة النظام المالي الدولي".
ما أهمية صندوق النقد وما الآلية التي يعمل بها؟
يلعب صندوق النقد دوراً مركزياً اليوم في إدارة مشكلات ميزان المدفوعات والأزمات المالية العالمية؛ حيث تساهم الدول في تمويل احتياطات الصندوق عبر نظام الحصص، الذي يسمح للدول باقتراض المال عندما تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات.
وتدفع الدول 25% من اشتراكات حصصها بحقوق السحب الخاصة (الذهب الورقي)، و75% بالعملة الوطنية، لأغراض الإقراض حسب الحاجة. وتحدد الحصص ليس فقط مدفوعات الاشتراك المطلوبة من البلد العضو، وإنما أيضاً عدد أصواته وحجم التمويل المتاح له من الصندوق ونصيبه من مخصصات حقوق السحب الخاصة.
والهدف من الحصص عموماً هو أن تكون بمثابة مرآة لحجم البلد العضو النسبي في الاقتصاد العالمي، فكلما ازداد حجم اقتصاد العضو من حيث الناتج، وازداد اتساع تجارته وتنوعها، ازدادت بالمثل حصته في الصندوق.
وبحسب الموقع الرسمي للصندوق، فإن من قروض الصندوق إعطاء البلدان الأعضاء فرصة لالتقاط الأنفاس، حتى تنتهي من تنفيذ سياسات تصحيحية منظمة، تستعيد بها الظروف الملائمة لاقتصاد مستقر ونمو مستدام. وتختلف هذه السياسات باختلاف الظروف في كل بلد.
فالبلد الذي يواجه هبوطاً مفاجئاً في أسعار صادراته الأساسية قد يحتاج إلى مساعدة مالية حتى ينتهي من تنفيذ إجراءات تقوية اقتصاده وتوسيع قاعدة صادراته. والبلد الذي يعاني من خروج التدفقات الرأسمالية بشكل حاد، قد يحتاج إلى معالجة المشكلات التي أدت إلى فقدان ثقة المستثمرين، فربما تكون أسعار الفائدة شديدة الانخفاض أو عجز الموازنة ورصيد الدين يتناميان بسرعة كبيرة، أو النظام المصرفي غير كفء أو ضعيف التنظيم.
ما آلية اتخاذ القرار داخل صندوق النقد؟
الهيكل التنظيمي للصندوق يشمل مجلس المحافظين، ويضم ممثلين لكل البلدان الأعضاء، وهو صاحب السلطة العليا في إدارة الصندوق، ويجتمع في العادة مرة واحدة سنوياً خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويقوم كل بلد عضو بتعيين محافظ (عادة ما يكون هو وزير المالية أو محافظ البنك المركزي في ذلك البلد) ومحافظ مناوب.
ورغم أن مجلس المحافظين يبت في قضايا السياسات الكبرى، فإنه يفوض المجلس التنفيذي في اتخاذ القرارات المتعلقة بأعمال الصندوق اليومية. ويجري النظر في قضايا السياسات الأساسية المتعلقة بالنظام النقدي الدولي مرتين سنوياً في إطار لجنة من المحافظين، يطلق عليها اسم اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية، (وهي التي كانت تعرف باسم اللجنة المؤقتة حتى سبتمبر/أيلول 1999).
أما لجنة التنمية، وهي لجنة مشتركة بين مجلس محافظي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فهي تقدم المشورة إلى المحافظين، وترفع إليهم تقاريرها حول سياسات التنمية والمسائل الأخرى التي تهم البلدان النامية.
ويتألف المجلس التنفيذي من 24 مديراً، ويرأسه المدير العام للصندوق، ويجتمع المجلس التنفيذي عادة ثلاث مرات في الأسبوع في جلسات يستغرق كل منها يوماً كاملاً، ويمكن عقد اجتماعات إضافية إذا لزم الأمر، وذلك في مقر الصندوق في واشنطن العاصمة.
وتخصص مقاعد مستقلة في المجلس التنفيذي للبلدان المساهمة الخمسة الكبرى، وهي: الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة إلى جانب الصين وروسيا والمملكة العربية السعودية. أما المديرون الستة عشر الآخرون فتتولى انتخابهم مجموعات من البلدان تُعرف باسم الدوائر الانتخابية لفترات مدتها عامان.
ما الدول التي لها حق الفيتو في صندوق النقد؟
تسهم الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر اقتصاد في العالم، بالنصيب الأكبر في صندوق النقد الدولي حيث تبلغ حصتها 17.6% من إجمالي الحصص، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك حق تعطيل قرارات صندوق النقد الدولي أو حق الفيتو.
ما الفرق بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟
كما ذكرنا سابقاً، فقد تأسست مجموعة البنك الدولي (WBG) وصندوق النقد الدولي (IMF) في مؤتمر بريتون وودز في عام 1944، ولهما رسالتان تكمل كل منهما الأخرى، بحسب موقع البنك الدولي.
الفرق الأساسي بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أهداف كل منهما ومهامهما، إذ إن صندوق النقد الدولي يهدف إلى استقرار النظام النقدي العالمي، بينما يهدف البنك الدولي إلى محاربة الفقر بتقديم المساعدة للدول ذات الدخل المتوسط والمنخفضة.
وفي حين تعمل مجموعة البنك الدولي مع البلدان النامية على الحد من الفقر وتعزيز الرخاء المشترك، فإن صندوق النقد الدولي يعمل على تحقيق استقرار النظام النقدي الدولي، ورصد حركة العملات في العالم.
وتقدم مجموعة البنك الدولي التمويل والمشورة بشأن السياسات والمساعدة الفنية للحكومات، كما تركز على تدعيم القطاع الخاص في البلدان النامية. ويتتبع صندوق النقد الدولي الاقتصاد على الصعيد العالمي وفي البلدان الأعضاء، ويقدم قروضاً للبلدان التي تواجه مشاكل في ميزان المدفوعات، ويقدم المساعدة العملية للبلدان الأعضاء. ويجب على البلدان أن تنضم أولاً إلى الصندوق كي تتأهل للانضمام إلى مجموعة البنك؛ واليوم يبلغ عدد أعضاء كل منهما 189 بلداً عضواً.
وتُعرف مجموعة البنك الدولي بأنها من بين أكبر مصادر التمويل والمعرفة للبلدان النامية في العالم. وتشترك المؤسسات الخمس التي تتألف منها مجموعة البنك في: الالتزام بالحد من الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك، وتشجيع التنمية المستدامة.
ويقدم البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) والمؤسسة الدولية للتنمية (IDA)، اللذان يشكلان معاً البنك الدولي، التمويل والمشورة بشأن السياسات والمساعدة الفنية إلى حكومات البلدان النامية. وينصبّ تركيز المؤسسة الدولية للتنمية على بلدان العالم الأشد فقراً، أما البنك الدولي للإنشاء والتعمير فيساعد البلدان متوسطة الدخل والبلدان الأفقر المتمتعة بالأهلية الائتمانية.
وتركز مؤسسة التمويل الدولية (IFC) والوكالة الدولية لضمان الاستثمار (MIGA) والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) على تدعيم القطاع الخاص في البلدان النامية. ومن خلال هذه المؤسسات، تقدم مجموعة البنك الدولي التمويل والمساعدة الفنية والتأمين ضد المخاطر السياسية، وتسوية المنازعات للشركات الخاصة، ومن ضمنها المؤسسات المالية.
ما أبرز الانتقادات الموجَّهة لصندوق النقد الدولي؟
يُتهم صندوق النقد الدولي بأنه "أداة لتعزيز تبعية الدول النامية والفقيرة للدول المتقدمة"، ويقول الكاتب الألماني وأستاذ الفلسفة، أرنست فولف، معلقاً على الأهداف المعلنة للصندوق بأنها "ترن في أذن السامع كأن صندوق النقد مؤسسة حيادية، يكمن هدفها الرئيسي في ترك العالم الاقتصادي يعمل بأكبر قدر ممكن من النظام وفي تصحيح الاختلالات بأسرع وقت متاح. ولكنها إحدى المؤسسات التي أنشأتها القوة العظمى الجديدة لتفرض ليس هيمنتها العسكرية فحسب، بل هيمنتها الاقتصادية أيضاً على العالم".
وقد عرفت أدوار الصندوق في مراحله المختلفة جدلاً واسعاً حول نجاعتها من جهة وحول مدى ارتباطها بأجندات سياسية توجهها من جهة أخرى. فيقول عالم الاقتصاد الكندي ميشيل تشوسودوفيسكي إن "برنامج صندوق النقد الدولي قد يترك البلد في بعض الأحيان فقيراً كما كانَ من قبل، لكن مع مديونية أكبر وصفوة حاكمة أكثر ثراء".
من جانبه، يقول الاقتصادي الأمريكي، جوزيف ستيغليتز، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي، وأحد أهم مساعدي الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، إنه توصل في أحد أبحاثه إلى أن "القروض التي يقدمها صندوق النقد إلى الدول تكون ضارة في حالات كثيرة خاصة التي توجَّه إلى الدول النامية ودول العالم الثالث".
ومن الانتقادات الموجهة للصندوق، الحديث عن سطوة الولايات المتحدة الأمريكية وتحكمها وقدرتها على إعطاء القرض من عدمه لأي دولة، حيث إنها الدولة الوحيدة التي تمتلك حق الفيتو من بين الدول الأعضاء.
كما أن صندوق النقد الدولي يتعرض للانتقاد؛ لأنه يتبنى سياسات رأسمالية بحتة تشجع قواعد السوق الحر ويرفض أية قيود من الدول المقترضة على النقد الأجنبي، وضد الرقابة على الصرف، وضد أي تدخل من الحكومات في السياسات النقدية، ويشجع أيضاً بشكل مباشر القطاع الخاص واقتصاد السوق الحر، ويقدم نفس التوصيات والنصائح لكل الدول، ما لا يعطي أية مساحات للدول التي قد يكون وضعها الاقتصادي والاجتماعي مختلفاً إلى حد كبير مع نظيرتها من الدول المقترضة الأخرى.
ورغم أنّ صندوق النقد الدولي التابع للأمم المتحدة، دوره دعم الاقتصاد العالمي، والمعاملات التجارية بين البلاد المختلفة، فإنّه عادة ما يتم اتهامه بكونه أحد أدوات الشركات العالمية لبناء إمبراطورية تسيطر على اقتصاد العالم، وتهزم الدول، "ونهب وتدمير اقتصاد الدول النامية"، وفقاً لـجون بيركنز، مؤلف كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" الذي تُرجم إلى 30 لغة، بما فيها اللغة العربية، التي صدر فيها تحت عنوان: "الاغتيال الاقتصادي للأمم".