في خطوة من شأنها تهديد سيطرة الدولار على التجارة الدولية، قررت البنوك المركزية في عدد من جنوب شرق آسيا ربط أنظمة الدفع الخاصة، بشكل يسمح للأشخاص بشراء السلع والخدمات في جميع أنحاء المنطقة عن طريق الهواتف المحمولة بالعملات المحلية، فيما قد يعد بداية لتأسيس نظام مالي مستقل عن الدولار في المنطقة.
وقال محافظ بنك إندونيسيا المركزي بيري وارجيو، في جلسة على هامش اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين ومحافظي البنوك المركزية مؤخراً، إنه في نوفمبر/تشرين الثاني، من المقرر أن توقع خمسة من أكبر اقتصادات المنطقة اتفاقاً لدمج شبكتها للدفع عبر المحمول، وسيتم سداد المدفوعات بالعملات المحلية دون التحويل عبر الدولار، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وهذه الدول هي إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند، وهي أعضاء في تجمع الآسيان "ASEAN" الذي يضم خمس دول أخرى هي لاوس وبروناي وكمبوديا وميانمار وفيتنام ويبلغ إجمالي عدد سكان دول هذا التجمع نحو 670 مليون نسمة، ويقدر حجم الناتج المحلي لدول الرابطة بأكثر من ثلاثة تريلونات دولار، تمثل نحو 3.5 % من حجم اقتصاد العالم.
وستستخدم المدفوعات التي يتم إجراؤها من خلال النظام تسويات بالعملة المحلية بين الدول، مما يعني أن المدفوعات التي تتم في تايلاند باستخدام تطبيق إندونيسي سيتم تبادلها مباشرة بين الروبية الإندونيسية والباهت التايلاندي، متجاوزين الحاجة إلى الدولار الأمريكي كوسيط، مع تخطيطهم لتوسيع هذا النظام ليشمل دولاً مجاورة وتجمعات إقليمية أخرى.
الصين سعت مع بعض الدول المنطقة لإيجاد منافس لصندوق النقد الدولي
ونهاية الشهر الماضي، أعلنت الصين عن تأسيس نظام لتجميع احتياطات نقدية باليوان الصيني (الرنمينبي)، وتضم الخطة البنوك المركزية في الصين وهونغ كونغ التابعة لبكين وثلاثة من دول رابطة الآسيان هي إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة إضافة إلى تشيلي من أمريكا الجنوبية.
ويمكن أن يمهد صندوق النقد الصيني هذا الطريق أمام العملة الصينية للعب دور أساسي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كما يعتقد أنه على المدى الأبعد يمكن أن يكون صندوق النقد الصيني هذا منافساً أو بديلاً لصندوق النقد الدولي، الذي يهيمن عليه الدولار، حسب موقع Business Insider الأمريكي.
كل دولة ستُسهم بـ15 مليار يوان، أي حوالي 2.2 مليار دولار، في هذا الصندوق، "وعند الحاجة إلى السيولة فإن البنوك المركزية المشاركة لن تتمكن من سحب مساهماتها فحسب، بل ستتمكن أيضاً من الحصول على تمويل إضافي من خلال نافذة سيولة مضمونة" لمواجهة تقلبات الأسواق، حسبما قال البنك المركزي الصيني.
ويمكن أن يجذب صندوق النقدي الصيني المزيد من الأعضاء للانضمام في المستقبل، حسبما قال دينغ شوانغ، كبير اقتصاديي الصين في بنك ستاندرد تشارترد.
سياسات الاحتياط الفيدرالي تدفع دول المنطقة للبحث عن نظام مالي مستقل عن الدولار
تأتي هذه الخطوات وسط قلق متزايد بشأن هيمنة الدولار الأمريكي، مع بحث المستثمرين العالميين عن ملاذات آمنة، بينما تشرع الولايات المتحدة في محاولة ترويض التضخم المرتفع عبر رفع أسعار الفائدة.
بالإضافة للعوامل السياسية، وقلق كثير من الدول التعرض لحصار مماثل للحصار الغربي ضد روسيا وإيران، فإن الصين وكثيراً من دول العالم قلقة من وضع الدولار الذي وصل في الأسابيع الأخيرة لأعلى مستوى له منذ في 20 عاماً، الأمر الذي جهود إيجاد نظام مالي مستقل عن الدولار.
فالارتفاع الحاد في قيمة الدولار جراء استمرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة بشكل صارم وغير مسبوق، منذ ما يقرب من 30 عاماً، يفرض تحديات على العملات والبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم.
ويشعر العالم كله حتى حلفاء أمريكا أن واشنطن تستغل وضع الدولار كعملة احتياط وتداول رئيسية، بطريقة تخدم أهدافها الاقتصادية فقط، حيث قام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتسريع تشديد الأنظمة النقدية، وأطلق عملية انكماش الميزانية العمومية في يونيو/حزيران، أدت إلى مخاوف من إطلاق موجة ركود تضخمي في العالم كله، وتسببت في تراجع معظم عملات العالم أمام الدولار.
وتتعرض الاقتصادات الآسيوية، التي ضعفت بالفعل بسبب جائحة COVID-19، لضربة أخرى مؤخراً جراء هذا الوضع أدت إلى تراجع العديد من العملات، فلقد انخفض البيزو الفلبيني إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من 16 عاماً، بينما وصل الوون الكوري الجنوبي إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار الأمريكي منذ ما يقرب من 13 عاماً. كما شهدت اقتصادات جنوب شرق وجنوب آسيا الأخرى انخفاضاً كبيراً في قيمة العملات.
عملية الربط بين أنظمة الدفع عبر المحمول بدأت بالفعل في المنطقة
في الوقت الحالي ترتبط أنظمة الدفع في كل من ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند، بالفعل فيما ترتبط سنغافورة بتايلاند وتسعى الدول الخمس لإضافة المزيد من الدول إلى نظام الدفع بالمحمول المقترح.
بعد ذلك، ستسعى البنوك المركزية المشاركة في نظام الدفع الإلكتروني هذا إلى ربط هذه الشبكة بالتجمعات الإقليمية الأخرى حول العالم، وإدخال نفس الهيكل للتحويلات المصرفية، وحتى العملات الرقمية للبنك المركزي في نهاية المطاف.
قال رافي مينون العضو المنتدب لهيئة النقد السنغافورية في الجلسة نفسها في جزيرة بالي الإندونيسية: "يمكن أن تكون هذه خطوة مؤثرة للغاية يمكننا أن نبنيها على بقية العالم". "إنها بنية تحتية للصالح العام تعمل على تحسين الشمول المالي، وتعزز الكفاءة وتخلق فرصاً تجارية جديدة لجميع المواطنين".
المنطقة تشهد توسعاً للدفع عبر الخليوي على حساب المصارف
أصبحت محافظ الدفع عبر الهاتف المحمول جزءاً حيوياً من المشهد الاستهلاكي في جنوب شرق آسيا، مما يتيح الوصول المالي لملايين الأشخاص المستبعدين من النظام المصرفي.
لدى المنطقة نسبة استخدام جيدة لأنظمة الدفع بالمحمول، مقابل نسبة أقل من استخدام النظام المصرفي التقليدي، في ظل نسبة سكان الريف والفقر المرتفعة بكثير من دول المنطقة، فاستخدام هذه التكنولوجيا يفوق بكثير استخدام بطاقات الائتمان في الأسواق الناشئة في المنطقة.
ومع ارتفاع الإنفاق عبر الإنترنت خلال جائحة COVID-19، شهدت محافظ الدفع عبر المحمول زيادة في المستخدمين المسجلين حديثاً.
لقد تغير مفهوم المحافظ الرقمية، حيث أصبحت سريعاً قناة تفاعل أمامية، تم تمكينها من خلال العديد من شبكات الدفع المفتوحة وشبه المفتوحة. وتظهر في بعض الحالات على أنها "تطبيقات فائقة" أو متاجر مالية عملاقة ومحاور للاتصال المالي.
على الرغم من الزيادة الكبيرة في استخدام هذه الأدوات، لم يقم أي مزود من جنوب شرق آسيا بتكرار نجاح الشركات الصينية العملاقة مثل Ant المالكة لمجموعة علي بابا، وتعتبر هذه الشركة عملاقاً في مجال تطبيقات الدفع والإقراض عبر المحمول وهو المجال الذي شهد توسعاً فائقاً في الصين.
في العديد من دول جنوب شرق آسيا، فإن التجار يستخدمون تطبيقات المحمول لتلقي المدفوعات من العملاء، ودفع الفواتير، والحصول على الائتمان أو القروض، خاصة خلال COVID-19. ويتفاعل الناس مع هذه الابتكارات في جميع أنحاء المنطقة.
في جنوب شرق آسيا، أكثر من ستة من كل عشرة أشخاص لا يتعاملون مع المصارف، مما يجعل التعاملات النقدية عبر المحمول وسيلة مفضلة، وعلى غرار الصين، فإن المنطقة يبدو أنها تتجه من التعامل النقدي المباشر، إلى التعامل عبر الهواتف الذكية دون الوقوف كثيراً في مرحلة المصارف، وبطاقات الإئتمان.
أول نظام للدفع عبر المحمول يربط بين دولتين يوجد بهذه المنطقة
في أبريل/نيسان 2021، أطلقت سلطة النقد في سنغافورة (MAS) وبنك تايلاند (BOT) الربط بين نظامي PayNow في سنغافورة و PromptPay التايلاندي بشكل لحظي (في الوقت الفعلي لصدور الأمر من المشغل).
ويعتبر هذا الربط الأول من نوعه على مستوى العالم، ويأتي تتويجاً لعدة سنوات من التعاون المكثف بين MAS و BOT ، ومشغلي أنظمة الدفع في كلا البلدين، وجمعيات المصرفيين، والبنوك المشاركة.
بموجب النظام يستطيع عملاء البنوك المشاركة في سنغافورة وتايلاند من تحويل أموال تصل إلى 1000 دولار سنغافوري أو 25000 بات تايلاندي يومياً عبر البلدين، باستخدام رقم هاتف محمول فقط. بدون حاجة لملء حقول المعلومات مثل الاسم الكامل للمستلم وتفاصيل الحساب المصرفي، كما هو الحال مع حلول التحويلات العادية.
فائدة ثلاثية
مع ارتفاع أسعار الدولار أمام أغلب عملات العالم، فإن منطقة جنوب شرق آسيا تعاني مثل غيرها من تراجع قيمة عملاتها.
وهناك حاجة إلى تعزيز التجارة البينية في آسيا، وقد يكون ارتفاع الدولار بمثابة محفز يمكن أن تتسارع فيه دفعة إزالة الدولرة العالمية الناشئة بالفعل. وفي الوقت نفسه، تتم إعادة تشكيل سلاسل التوريد في آسيا بسرعة بعيداً عن الغرب، مع ضعف دور الولايات المتحدة إلى حد كبير بسبب تباطؤ الطلب المحلي والحمائية التجارية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Global Times الصينية.
كما أن الاستغناء عن الدولار كوسيط في التسويات بين المعاملات التجارية بين عملات المنطقة، يؤدي إلى تقليل تكلفة عمليات التحويل والشراء.
ولذا فالنظام الجديد يحمل ثلاث ميزات، الربط المباشر بين أنظمة الدفع بالمحمول وعدم استخدام الدولار المتضخم في قيمته كوسيط، وتوفير الرسوم التي تدفع مقابل التحويل من عملة المشتري للدولار ثم عملة البائع.
مثل هذه الأنظمة تقلل من هيمنة الدولار على أنظمة الدفع والتبادل التجاري في العالم بشكل كبير، خاصة أنها تأتي من منطقة لديها ارتباط اقتصادي وثيق الصين التي يبدو أنها تتحرك بدورها تدريجياً نحو منافسة الدولار، ويأتي كل ذلك في إطار ما يمكن وصفه بجهود متعددة الأطراف لإيجاد نظام مالي مستقل عن الدولار أو حتى أكثر من نظام مالي من هذا النوع.
إحدى الإشكاليات في النظام المنتظر في جنوب شرق آسيا، هي احتمالات حدوث تغييرات كبيرة في أسعار العملات المحلية مقارنة بالدولار الذي يتسم بثبات نسبي، ولكن بصفة عامة عملات هذه الدول مرتبطة ببعضها البعض بشكل كبير، مما يعني أنها في حال انخفضت إحداها فإن الأخريات قد يتبعنها، كما حدث في الأزمة المالية الآسيوية في تسعينيات القرن العشرين.