مثّلت الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية "القوة الروحانية" المهيمنة داخل أوكرانيا طيلة قرون. لكن الكنيسة أصبحت اليوم موضع شك على نحوٍ متزايد، ويرجع السبب بشكلٍ أساسي إلى تبعيتها الروحانية لقيادة البطريركية الروسية بدلاً من أوكرانيا، حتى مايو/أيار الماضي على الأقل، كما تقول صحيفة New York Times الأمريكية. وبالتالي، أصبح قساوسة أوكرانيا الذين تحالفوا مع روسيا في الماضي موضع شك في كييف اليوم، فما القصة؟
"أكبر خطر يهدد أمننا القومي".. قصة قساوسة أوكرانيا الموالين للبطريركية الروسية
تقول "نيويورك تايمز"، إن المسؤولين في الحكومة الأوكرانية اعتادوا التودد إلى قادة هذه الكنيسة في الماضي. لكنهم يتحدثون اليوم علناً عن شكوكهم في تعاون بعض القساوسة الأوكرانيين مع موسكو، ويخشون من تحول الكنيسة عموماً إلى ما يُشبه حصان طروادة بالنسبة للأفكار المؤيدة لروسيا، وربما أكثر من ذلك.
إذ قال سيرهي كوندراشوك، رئيس المجلس المحلي لمدينة ريفنا وسط أوكرانيا: "عندما يأتي الحديث عن الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية، فنحن لا نتحدث عن الله، أو الإيمان، أو التطور الروحاني. بل نتحدث فقط عن أكبر خطر يهدد أمننا القومي".
ولا شك أن تحوّل الكنيسة إلى موضع شك رسمي الآن يُعد مثالاً آخر على الكيفية التي قوّضت بها الحرب كل جوانب الحياة داخل أوكرانيا. وحتى قبل الحرب، كانت مسألة علاقات الكنيسة مع روسيا سبباً للانقسام بين مؤيدي الكنيسة الموالية لموسكو، وبين أنصار الكنيسة الجديدة التي يقع مقرها في كييف، وتحمل اسماً مشابهاً: الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية.
وتضغط الكنائس الموالية لكييف اليوم بشكلٍ نشط على قساوسة الكنيسة الأخرى من أجل تحويل ولائهم. وأسفرت تلك الضغوطات عن اندلاع مواجهات عنيفة. وسادت التوترات لدرجة أن الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية عدّلت لوائحها الداخلية في مايو/أيار؛ لتمنح نفسها "الحكم الذاتي والاستقلال الكامل" عن بطريركية موسكو، في خطوةٍ أدت لانهيار العلاقة القائمة منذ قرون.
القساوسة الأوكرانيون أصبحوا موضع شك
لكن هذه الخطوة لم تضع حداً للشكوك الرسمية. إذ عقدت مدينة لفيف الغربية مثلاً تصويتاً رمزياً بالإجماع لحظر الكنيسة أواخر يونيو/حزيران.
كما عقد النائب ميكيتا بوتوراييف جلسةً رسمية للحديث عن تأثير الكنيسة داخل البرلمان الأوكراني. ثم أجرى مقابلةً أكّد خلالها أن السلطات تحقق في أمر القساوسة المتحالفين مع كنيسة موسكو بتهمة تزويد المدفعية الروسية بالأهداف، والوشاية بالنشطاء الأوكرانيين، وإرسال بيانات حول مواقع القوات الأوكرانية.
وأُلقي القبض في إحدى القضايا على قس داخل أحد الحقول بضواحي كييف، بعد إسقاط مروحيةٍ روسية هناك خلال اليوم الأول من الهجوم في 24 فبراير/شباط. ويعتقد مسؤولو الشرطة أنه كان يحاول مساعدة الطيارين على الفرار بعد سقوط المروحية.
لكن المحاكم وأجهزة الاستخبارات تحتفظ بالمعلومات المتوافرة عن قضايا القساوسة طي الكتمان، وتحاول تحويل بعض القساوسة المشكوك في أمرهم إلى مخبرين سريين. ولم تجرِ إدانة أي من رجال الدين علناً حتى الآن.
بينما يضغط كوندراشوك من أجل حظر الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية في منطقته ريفنا. وقال إن رعايا الكنيسة يناصرون الآراء المؤيدة لروسيا علناً في المناسبات التعليمية والدينية.
قساوسة أوكرانيا حلفاء قدماء لروسيا
يُذكر أن الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية حافظت على ولائها لموسكو بعد خروج أوكرانيا من الاتحاد السوفييتي عام 1991، بينما تأسست الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية حتى تدين بالولاء لكييف. وتوجد اليوم نحو 8,000 أبرشية موالية لكنيسة كييف، وقرابة الـ12,000 أبرشية تابعة لبطريركية موسكو. ومع ذلك، قررت العديد من الكنائس التحوّل لموالاة كنيسة كييف منذ بداية الحرب.
ونفى المطران كليمنت، المتحدث باسم الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية، تقديم أي مساعدة لجهود الحرب الروسية. وأشار إلى أن قائد الكنيسة أدان الهجوم الروسي منذ اليوم الأول على نحوٍ غير متوقع. ومع ذلك ظل ولاء الكنيسة غير واضح؛ لأنها ظلت خاضعةً لسلطة البطريرك كيريل (75 عاماً)، قائد الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وحليف بوتين المقرب، وأحد أنصار الحرب.
وقررت الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية قطع علاقاتها بموسكو أخيراً في نهاية مايو/أيار، بعد أن حولت مئات الأبرشيات ولاءها لكييف. وأوضح المطران سبب تحوّل الأبرشيات، قائلاً إن "دوافعها كانت التهديدات في المقام الأول".
لكن المسؤولين الأوكرانيين قالوا إن القساوسة إجمالاً لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من بين أكثر من 1,400 قضية مرفوعة ضد مواطنين بتهمة التعاون مع روسيا. فيما أقر النائب بوتوراييف بأن مسألة الخيانة داخل الكنيسة تتعلق بحالات فردية، أكثر من كونها "مشكلةً منهجية في المؤسسة بالكامل".
انعدام الثقة بالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية
رغم ذلك، يظل انعدام الثقة مشكلةً حقيقية. إذ قال مسؤولٌ في جهاز أمن أوكرانيا، أصر على عدم كشف هويته لحساسية الموضوع، إن هناك نحو 200 قس من الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية في "كافة مناطق" البلاد يخضعون حالياً لمراقبةٍ شديدة؛ للاشتباه في تعاونهم مع روسيا. وبخلاف هؤلاء القساوسة، يخضع "جميع قساوسة الكنيسة تقريباً" لدرجةٍ من درجات المراقبة. ولم تتمكن صحيفة New York Times الأمريكية من تأكيد صحة المعلومة بشكلٍ مستقل، لكن المطران كليمنت أقر بوجود ضغوطات. وقال: "من المؤكد أن جميع أساقفة الكنيسة على الأقل يخضعون للمراقبة".
ولم تمنع هذه المزاعم الحجيج من زيارة دير الكهوف، الذي يُعد من أقدس الأماكن بالنسبة لأتباع الأرثوذكسية حول العالم. إذ احتفظت بطريركية موسكو بوصولها إلى الموقع بعد عام 1991، لكن الحكومة الأوكرانية تمتلكه رسمياً كمتحف أثري. وقد اجتمع المصلون مع الجنود لحضور قداس بالدير في أحد أيام الآحاد مؤخراً.
وقال سيرهي شيرباك، الجندي المقاتل من مدينة ماريوبول، إنه سمع عن الأفراد المتعاونين مع روسيا من قساوسة الكنيسة. لكنه أشار إلى أن "نظام الكنيسة نفسه ليس مذنباً".
ومع ذلك يشعر أهالي قرية هيلشا دروها، التي تبعد ساعة ونصف الساعة بالسيارة جنوب ريفنا، بشكوكٍ أكبر. حيث أطلقت مجموعة من السكان المحليين حملةً لتحويل ولاء كنيستهم إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية.
إذ حشدت كاتيا توشكوفتس رعايا الكنيسة لتحويل ولائها بعد أن وضع قسٌ محلي شعار عائلة رومانوف، آخر الأسر الملكية الروسية، داخل الكنيسة قبل بضع سنوات. وقالت كاتيا: "نُدرك أن دولتنا لن يكون لها وجود دون كنيستنا الأوكرانية وجيشنا". وبمجرد بدء الهجوم الروسي، وجدت كاتيا حشوداً من الناس المستعدين لتحويل الولاء.
لكن قس الكنيسة لم يوافقهم الرأي. وعندما واجهته المجموعة بطلب التحويل الذي وقعه غالبية رعايا الكنيسة، حضر الكاهن المشرف من بطريركية موسكو مع القس المحلي لإزالة ممتلكاتهم من الكنيسة. وأضافت كاتيا: "ركع الكاهن المشرف على ركبتيه، ثم لعن قريتنا. وقال إنه يأمل ألا يبقى منها شخصٌ واحد على قيد الحياة. فكيف لقسٍ أن يفعل ذلك؟!".