اختارت أغلب الدول النامية الوقوف على الحياد خلال حرب روسيا في أوكرانيا والصراع مع الغرب، فهل تؤدي الحرب الباردة الحالية بين أمريكا والصين خصوصاً إلى عودة حركة عدم انحياز جديدة؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت التداعيات الجيوسياسية للأزمة الأوكرانية في تحليل بعنوان "الحرب الباردة الجديدة ستؤذن بظهور حركة عدم انحياز جديدة"، أعده جيمس تراوب، الكاتب بالمجلة وزميل غير مقيم بمركز التعاون الدولي التابع لجامعة نيويورك الأمريكية.
ولم يكن الهجوم الروسي مفاجئاً لا لأوكرانيا ولا للغرب ولا للعالم، فالأزمة الأوكرانية مشتعلة منذ عام 2014، عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم ودعمت حركات انفصالية في دونيتسك ولوغانسك بإقليم دونباس شرق أوكرانيا، وكان اعتراف موسكو بتلك المناطق مقدمة للعملية العسكرية، التي أصبحت حرباً شاملة بالفعل.
والأزمة الأوكرانية بالأساس أزمة جيوسياسية تتعلق برغبة الحكومة الأوكرانية- المدعومة من الغرب- في الانضمام إلى حلف الناتو، بينما تعتبر روسيا ذلك خطاً أحمر، لأنه يمثل تهديداً مباشراً لأمنها، بحسب وجهة النظر الروسية.
لماذا فشلوا في توحيد العالم ضد روسيا؟
لماذا الآن؟ لماذا دفعت الحرب الروسية في أوكرانيا عدداً كبيراً جداً من البلدان النامية إلى الاختلاف مع الغرب والإصرار على موقف محايد بين طرفي الصراع، في حين يطالب الدبلوماسيون والباحثون بـ"حركة عدم انحياز" جديدة؟ في الوقت الذي فرضت فيه الديمقراطيات بالغرب عقوبات متصاعدة على روسيا وأدانت سلوكها في الأمم المتحدة، امتنعت اثنتان من أكبر الديمقراطيات في نصف الكرة الجنوبي، الهند وجنوب إفريقيا، عن التصويت بإدانة الهجوم الروسي، مثلما فعلت كثير من الدول في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرقي آسيا، وامتنعت 58 دولة عن التصويت على طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ورفضت كلها الانضمام إلى العقوبات، وأضعفتها في بعض الأحيان من خلال مزاولة التجارة مع روسيا.
وإن كان من مبدأ تعتز به كل الدول في العالم النامي، فإنَّه مبدأ حرمة الحدود وسيادة الدولة، المبدأ الذي يبدو أن روسيا لم تحترمه. لكنَّها لن تكون إلا مبالغة بسيطة إذا قلنا، مثلما قال خورخي هاينه، الدبلوماسي التشيلي السابق الذي يُدرِّس الآن في جامعة بوسطن الأمريكية، لمجلة فورين بوليسي مؤخراً، إنَّ "الانقسام الحقيقي حول أوكرانيا ليس بين الديمقراطية والاستبداد، بل بين شمال العالم وجنوبه". تلك فكرة مذهلة، وتمثل توبيخاً لحملة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإعادة تنظيم النظام الدولي حول المنافسة بين النظم الديمقراطية والاستبدادية.
بعد التحدث إلى دبلوماسيين سابقين وباحثين بضأمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب شرقي آسيا، فضلاً عن قراءة أدب عدم الانحياز الجديد، أصبح واضحاً بالنسبة لكاتب هذا التحليل أنَّ طلب الغرب توحيد الصفوف بشأن أوكرانيا لم يثر رد فعل معاكساً قوياً بقدر بلورة بعض طرق التفكير التي سبقت الحرب. فالدول الرائدة بالعالم النامي ليست غير راغبة في الاضطرار للانحياز إلى أحد الأطراف في حرب باردة وحسب، لكنَّها أيضاً- وهو الأهم بكثير- لا تشعر بأنَّها مضطرة إلى ذلك.
اجتمعت حركة عدم الانحياز لأول مرة في مدينة باندونغ بإندونيسيا عام 1955 في لحظة أكثر أيديولوجية بكثير من لحظتنا هذه. لم تكن حركة عدم الانحياز بالنسبة للشخصيات الرائدة مثل جواهر لال نهرو وكوامي نكروما، تعني فقط تجنُّب الخضوع لواشنطن أو موسكو، بل أيضاً اتباع مسار اشتراكي بين المياه الضحلة للرأسمالية والشيوعية. وأرضت الفكرة أيضاً التطلعات القومية للدول التي كانت مُستعمَرة سابقاً؛ من أجل تحرير نفسها بشكل كامل من القوى الغربية.
ماذا تعني حركة عدم الانحياز؟
مع ذلك، كانت الأيديولوجيا هي ما جعل حركة عدم الانحياز بلا أهمية، وقد أدى طلب إنشاء "نظام اقتصادي دولي جديد" و"نظام معلوماتي دولي جديد" في السبعينيات والثمانينيات إلى إقناع الغرب، في عصر مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في أمريكا، بأنَّ ما كان يُعرَف بـ"العالم الثالث" قد بات أسيراً لكوبا والدول الراديكالية الأخرى ويتعين مواجهته أو ببساطةٍ تجاهله. وسرعان ما بات يُنظَر إلى المسار الاشتراكي باعتباره ميتاً حتى من جانب معظم العالم النامي.
لم تختفِ الأيديولوجيا القديمة تماماً. فقبل عقد من الزمن، أصدرت مجموعة من المفكرين السياسيين البارزين في الهند ورقة بيضاء بعنوان "عدم الانحياز 2″، تنبَّأت بأن يُحدِّد نجاح الهند باعتبارها ديمقراطية مزدهرة متعددة الإثنيات، إمكانات المستقبل للجنس البشري.
ولا تزال الهند منبع نظرية عدم الانحياز، لكن من دون التطلعات العظيمة التي تلاشت إلى جانب ديمقراطيتها متعددة الإثنيات. ونشر وزير الخارجية الهندي، سوبرامنيام جايشانكار، في عام 2020، كتاباً بعنوان "طريق الهند" (The India Way)، الذي جادل بواقعية صريحة، بأنَّه في "عالم الكل ضد الكل"، يتعين على الهند السعي وراء مصالحها من خلال "الاستفادة" من التنافس بين القوى الكبرى للحصول على أقصى قدر من المزايا لنفسها.
وتُعَد روح عدم الانحياز الجديدة براغماتية وذاتية، على الرغم من أنَّها عادةً ما تكون مصحوبة بشكاوى مريرة بشأن غزو العراق وتقليص المساعدات التنموية والاتفاقيات التجارية المتحيِّزة وغيرها من خطايا الغرب الماضية والحالية. ولم تكن الحرب في أوكرانيا هي ما بلور المعادلة الجديدة، بل صعود الصين.
كانت هذه لازمة في جميع المحادثات مع المختصين، إذ أشار أديكيي أديباجو، مسؤول حفظ السلام السابق بالأمم المتحدة والباحث حالياً بجامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا، إلى أنَّ الصين أصبحت أكبر شريك تجاري لإفريقيا قبل عقد من الزمن، وأنَّ الفجوة بين الدور الذي تلعبه بكين والدور الذي يلعبه الغرب لا تزداد إلا اتساعاً بمرور الزمن. كما أشار خورخي هاينه إلى أنَّه على الرغم من أنَّ الوقوف إلى جانب الغرب في الحرب الباردة وفَّر مزايا رئيسية في التجارة والمساعدات، فإنَّ المزايا الآن تمضي في الاتجاه المعاكس.
ماذا تقدم أمريكا للدول كي "تبعدها" عن الصين؟
فقال هاينه: "حين يأتي مسؤولو بايدن إلى أمريكا اللاتينية، تكون الرسالة هي: (احذروا من الصين)". وحين يذهب المسؤولون الصينيون إلى أمريكا اللاتينية، فإنَّهم يتحدثون عن الجسور والأنفاق والسكك الحديدية. ويمكنك أن تتخيل أي النهجين يُستقبَل بشكل أفضل من الآخر.
ويبدو هنا أن دبلوماسيي إدارة بايدن يقدمون المطالب الصفرية نفسها التي كان يقدمها دبلوماسيو فريق الرئيس السابق دونالد ترامب، وقد أشار وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في خطابه الأخير عن الصين، بالقول إنَّ واشنطن لا "تسعى لمنع الصين عن ممارسة دورها كقوة رئيسية" ولا "تجبر الدول على الاختيار" في ما بين القوتين الكبيرتين.
لكن إذا كانت إدارة بايدن، مثلما قال بلينكن، تريد منح البلدان "خياراً"، فإنَّ الغرب لم يخدم قضيته من خلال التدافع المسعور لحبس لقاحات كوفيد 19 وعدم تقديم تمويل كبير لجهود التأقلم مع التغيُّر المناخي في العالم النامي. وقد أغدقت الصين على العالم النامي بعشرات المليارات في صورة تمويلات للبنية التحتية من خلال مبادرتها "الحزام والطريق". ولدى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الآن 105 أعضاء ويملك رأس مال بـ100 مليار دولار. ويحاول الغرب اللحاق بالركب متأخراً، فأعلن بايدن الأسبوع الماضي عن صندوق بنية تحتية عالمي بقيمة 600 مليار دولار بدعم غربي.
وفي لعبة الصين الطويلة، يوفر الصعود المتواصل للجنوب باعتباره مركز قوة اقتصادية والتراجع النسبي للغرب ضمانة ضد ذلك النوع من المواجهة التي يُنظِّمها الغرب حالياً ضد روسيا. ولطالما كانت الصين صديقة لحركة عدم الانحياز، ولو أنَّها ليست عضوة بها، وهي تشجع الآن بنشاط على نهوض الحركة.
ماذا يمكن أن يقدم الغرب لنصف الكرة الجنوبي؟
وبطبيعة الحال، من شأن عدم الانحياز الحقيقي أن يؤدي إلى الابتعاد عن كلٍّ من واشنطن وبكين. وتُعَد إحدى طرق التفكير بشأن المبدأ الجديد هي أنَّ كثيراً من الدول التي تخشى الصين باعتبارها فاعلاً جيوسياسياً وتستمر في السعي للحصول على الأمن من التحالفات الغربية، تعتبر في الوقت نفسه الصين شريكاً تجارياً لا يمكن الاستغناء عنه.
ولم يلقَ دعم الصين النشط لروسيا إعجاباً في العواصم التي رفضت الهجوم الروسي على أوكرانيا. فمن بين بلدان الأمم المتحدة الأعضاء البالغ عددهم 193، صوَّت 141 بلداً لصالح إدانة الهجوم، وجاء التصويت على إبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان بواقع 93 مقابل 24 صوتاً.
قد يكون الدرس الأهم لبايدن هو، على حد تعبير كانتي باجباي، الباحث بجامعة سنغافورا الوطنية، أنَّ "التمييز بين الديمقراطية والاستبداد لن يثير كثيراً من الدعم والصداقة في نصف الكرة الجنوبي". وقد اكتشف بايدن ذلك بنفسه حين رفض دعوة الدول التي تصفها واشنطن بالمستبدة -كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا- إلى قمة الأمريكيتين التي عُقِدَت في مدينة لوس أنجلوس الشهر الماضي (يونيو/حزيران).
إذ حضر فقط 23 من أصل 35 رأس دولة، وشمل الغائبون رؤساء المكسيك وبلدان المثلث الشمالي والعديد من البلدان الكاريبية. قال بايدن للحضور إنَّ "الديمقراطية ليست فقط سمة مميزة لتاريخ الأمريكيتين، بل أيضاً مكون مهم لمستقبلهما". وربما اختلف معه مستمعوه الديمقراطيون بصمت.
ما رأيناه منذ بدء الهجوم الروسي هو التحام الغرب وتشرذم البقية، فالبلدانُ التي تنظر إلى نفسها باعتبارها ضحايا للنظام العالمي، بقدر ما هي مستفيدة منه لا يمكن أن نتوقع منها أن تشاطر الغرب ذلك الرأي. أو ربما يجب أن تشاطره، لكنَّها لا تشاطره. فكما كتب مستشار الأمن القومي الهندي السابق، شيف شنكار مينون، في مجلة Foreign Policy الأمريكية: "النظام القائم لا يعالج احتياجاتها الأمنية، أو مخاوفها الوجودية بشأن الغذاء والماليات، أو التهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل التغيُّر المناخي".
وإن لم يستطع الغرب نيل ولاء نصف الكرة الجنوبي من خلال مناشدات التضامن الديمقراطي، فسيتعين عليه أن يناله من خلال تقديم السلع. لكنَّ المناشدة الديمقراطية أرخص بكثير. ومن شبه المؤكد أنَّ نوع الإنفاق الذي من شأنه أن يُظهِر التزاماً حقيقياً برفاه الدول الفقيرة والمتوسطة لن يأتي في أي وقتٍ قريب، كما لن يأتي، على سبيل المثال، إصلاح مجلس الأمن ليكون أكثر عدلاً في تمثيل توزيع القوة العالمية. ستواصل الدول الصاعدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية السعي وراء مصالحها الاقتصادية الذاتية حتى في الوقت الذي تتطلَّع فيه للحصول على الحماية من الولايات المتحدة والغرب. وسيتعين علينا فقط أن نتعود ذلك.