كان لدى بوريس جونسون علاقة خاصة مع الشرق الأوسط، فالمنطقة ساحة لسياساته الراديكالية باعتباره يمينياً شعوبياً يراهن على الخوف من العرب والمسلمين لجلب الأصوات الانتخابية، وفي الوقت ذاته فإنها شكلت مجالاً له لتوسيع علاقات بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، ولذا فإن سياسة جونسون تجاه الشرق الأوسط تظهر تقلباً لافتاً.
وبعد مسيرة قاربت على ثلاث سنوات، وتضمنت سلسلة من الفضائح والاستقالات، أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أخيراً استقالته من منصبه يوم الخميس 7 يوليو/تموز.
شهدت ولاية جونسون إشرافه على مجابهة البلاد لبعض من أشد الأزمات التي شهدتها في السنوات الأخيرة: أبرزها جائحة كورونا، وعملية إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تضمنت ولاية جونسون أيضاً أزمات كبرى على صعيد السياسة الخارجية، فكان لبريطانيا تحت إدارته مشاركة بارزة في مواجهة الحرب على أوكرانيا، وأبدت البلاد دعماً واضحاً لمقاومة الغزو الروسي.
أما في الشرق الأوسط، فإن مسيرة جونسون جاءت ملتبسة. فقد تولى رئاسة الوزراء بعد عامين من قيادته لوزارة الخارجية، وشهدت تلك السنوات في المجمل تعزيزاً كبيراً لعلاقات بريطانيا في المنطقة، لكن مسيرته اتَّسمت أيضاً بما يمكن وصفه بأنه زلَّات جاءت طوعاً ولم يضطره إليها شيء، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
موقع Middle East Eye عرض أكثر المواقف إثارة للجدل في سياسة جونسون تجاه الشرق الأوسط.
غرائب سياسة جونسون تجاه الشرق الأوسط
1- تصريح له أدى إلى محاكمة مواطنة بريطانية مجدداً في إيران
ربما ترتبط علاقة جونسون بالشرق الأوسط في أذهان معظم البريطانيين بما فعله في قضية البريطانية من أصل إيراني نازانين زغاري راتكليف.
أُلقي القبض على نازانين زغاري، عاملة الإغاثة البريطانية الإيرانية، في إيران عام 2016 أثناء إجازتها مع عائلتها، واتُّهمت بالتآمر للإطاحة بحكومة طهران، وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات.
أصبح احتجاز نازانين، الذي طالت مدته لاحقاً، فضيحة يتناولها عموم الناس في بريطانيا، ولم يهدأ الحديث حولها إلا بعد أن أُطلق سراح المواطنة البريطانية أخيراً في مارس/آذار 2022، وعادت إلى بريطانيا.
تعرض جونسون، عندما كان وزيراً للخارجية، لانتقادات شديدة بعدما زعم في عام 2017 خلال اجتماع للجنة الشؤون الخارجية، أن نازانين زغاري كانت "تعلِّم الناس الصحافة" في إيران.
هذه التصريحات، التي أقرَّ جونسون بعد ذلك بأنها جاءت عن زلة منه، أدت إلى مثول نازانين زغاري أمام المحكمة مرة أخرى، واتهامها بتهمة "بث دعاية مضادة للنظام الإيراني". ثم ظل التهديد بتمديد العقوبة المقررة عليها قائماً، وإن لم يوجه إليها اتهام آخر في النهاية.
بعد الإفراج عن نازانين زغاري وعودتها إلى بريطانيا، انتقدت بشدة طريقة تعامل جونسون مع القضية، وقالت: "أنا لا أتفق مع ريتشارد [زوجها] في استحقاق وزير الخارجية للشكر؛ لأنني شهدت تتابع خمسة وزراء خارجية على مدار ست سنوات من احتجازي.. كم وزير خارجية يلزم أن ينتظرهم المحتجز للعودة إلى وطنه، خمسة؟ أظن أن الإجابة واضحة. أنا سعيدة أيما سعادة لأنني هنا [في بريطانيا]، لكن ذلك لا يمنعني من القول إن الإفراج عني كان يجب أن يحدث منذ ست سنوات".
2- من تخويف البريطانيين من انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي لتوثيق العلاقة بها
أشار جونسون أكثر من مرة إلى أصوله التركية. وتباهى في مناسبات عدة بأن جده الأكبر، علي كمال، كان مصلحاً ليبرالياً، وأنه تولى وزارة الداخلية -وإن لمدة قصيرة- في عهد الإمبراطورية العثمانية.
المفارقة أنه في عام 2016، كان جونسون يتزعم حملة الدعوة إلى مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، واستخدم قضية مطالبة تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحصول ملايين الأتراك على حرية التنقل في دولِه، فزاعةً لتخويف الناس، وربما تكون تلك المسألة مما أسهم في ترجيح التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي العام نفسه، فاز جونسون في مسابقة أجرتها مجلة Spectator بقصيدة مسيئة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
مع ذلك، تمكّن جونسون لاحقاً من تحسين صلات بريطانيا بتركيا وتعزيزها، واشتدت أهمية ذلك في وقت كانت فيه علاقات البلدين مع جيرانهما في الاتحاد الأوروبي آخذة في التدهور في ظل خروج لندن من الاتحاد الأوروبي وتدهور علاقة أنقرة به.
كشف تقرير صادر عن موقع MEE في عام 2018، أن بريطانيا باعت إلى تركيا أسلحة تزيد قيمتها على مليار دولار بعد حادثة القصيدة المسيئة لأردوغان. وقد شهدت ولاية جونسون زيادة اعتماد البلدين على بعضهما في التجارة والسياحة.
التقى جونسون الرئيسَ التركي في اجتماع زعماء الناتو الذي عقد منذ وقت قريب، وأظهر مقطع فيديو صادر عن الاجتماع أردوغان وهو يخاطب جونسون مازحاً، ويقول له: "هذا من جلب لنا العار"، في إشارة على ما يبدو إلى أصله التركي. ويرد جونسون بالتركية: "جميل جداً، لطيف جداً".
تمثل العلاقة الوثيقة بين بريطانيا وتركيا حالياً نموذجاً فجاً لتقلبات سياسة جونسون تجاه الشرق الأوسط، وتلاعبه بمصالح بلاده من أجل الوصول للسلطة.
3- طرد اللاجئين العرب إلى رواندا الواقعة بقلب إفريقيا
دارت في وسائل الإعلام البريطانية وبين النخب السياسية نقاشات استمرت سنوات عديدة بشأن كيفية التعامل مع المهاجرين الذين يلتمسون اللجوء إلى بريطانيا عن طريق عبور القناة الإنجليزية من فرنسا.
ولمَّا كان الخطاب الذي حمل جونسون إلى السلطة مستنداً في بعض أسسه إلى خطاب كراهية مُعادٍ للأجانب ومرتبط بالحملة المناهضة للاتحاد الأوروبي، فقد حاول جونسون أن يحصد أكبر قدر ممكن من الشعبية والتمكين السياسي له من هذه القضية.
وفي عام 2022، كشفت حكومة جونسون عن خطتها: نقل طالبي اللجوء الذين يصلون بريطانيا بوسائل "غير قانونية" على متن طائرة باتجاه واحد إلى رواندا، ويمكنهم التقدم بطلب اللجوء من هناك.
أفزعت خطة جونسون مختلف العاملين في مجال حقوق الإنسان، وتمكنوا من إيقافها حتى الآن بعدة أحكام قضائية، منها الاستئناف المقدم إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
تعد خطة ترحيل اللاجئين من الشرق الأوسط إلى قلب إفريقيا أشد فصول سياسة جونسون تجاه الشرق الأوسط قتامة.
ادَّعى جونسون أن هذه السياسة غرضها مكافحة تهريب البشر وردع المهرِّبين، لكن معارضين يزعمون أن غايتها الوحيدة هي صرف اللاجئين عن محاولة القدوم إلى بريطانيا.
بعض اللاجئين الذين عبروا إلى بريطانيا، ومنهم سوريون وعراقيون وإيرانيون، ما زالوا رهن الاحتجاز والتهديد بالترحيل إلى رواندا، وقد تملكهم الفزع من معاملتهم السيئة في بلد ظنوا أن يجدوا فيه ملاذاً لهم.
4- أدرج حماس كحركة إرهابية وحاول تجريم مقاطعة إسرائيل
كانت مناهضة جونسون لسياسات سلفه في قيادة حزب المحافظين، جيرمي كوربِن، وتصريحه بالعداء لها، مِن أبرز عوامل صعوده إلى السلطة.
ولمَّا كان كوربِن يوصف كثيراً بأنه مناصر للفلسطينيين وقد عانى بالفعل أزمة طويلة الأمد بسبب الاتهامات بمعاداة السامية، فإن جونسون جعل من هذه القضية سبيلاً لإظهار اختلافه عن كوربِن، ومن ثم سارعت حكومته إلى بذل المساعي لإبراز دعمها لإسرائيل.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعلنت حكومة جونسون أنها ستدرج حركة "حماس" الفلسطينية، بشقيها السياسي والعسكري، في قائمة المنظمات الإرهابية في المملكة المتحدة، بعد أن كان الحظر مقصوراً على الجناح العسكري للحركة.
وتضمن القانون الجديد احتمال "المعاقبة بالسجن مدة تصل إلى 14 عاماً لمن يثبت انتماؤه إلى حماس، أو مناصرته لها". وادَّعت وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، إن هذه الخطوة ضرورية لمحاربة معاداة السامية في المملكة المتحدة.
تعهد جونسون بسن تشريع آخر مناهض للفلسطينيين، وإن لم يُمهله بقاؤه في المنصب لإقراره، وهو حظر "حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (BDS) التي تعمل بحشد المناهضة غير العنيفة لإسرائيل وتسعى إلى إلزامها مقتضيات القانون الدولي.
5- واصل بيع السلاح للخليج رغم حرب اليمن
عمل جونسون خلال ولايته لوزارة الخارجية، ثم لرئاسة الوزراء، على الحفاظ على الصلات التقليدية لبريطانيا بدول الخليج.
وعندما أعلنت السعودية والإمارات والبحرين مقاطعة قطر في عام 2017، حثَّ جونسون على إنهاء المقاطعة مع التصريح بأن قطر يجب أن تتصدى لـ"المتطرفين"، متماشياً مع إدعاءات دول الحصار التي نفتها قطر، وحاول لاحقاً التوسط بين مختلف الأطراف لحل الأزمة.
انتقدت جماعات حقوق الإنسان علاقات حكومة جونسون الودية مع دول الخليج، لا سيما استمرار دعم الحكومة البريطانية للحرب التي شنها التحالف الذي تقوده السعودية على اليمن.
وكشفت تقارير أن بريطانيا باعت إلى دول التحالف المشاركة في تلك الحرب معدات وأسلحة بقيمة مليارات الدولارات، حتى بعد أن أنزلت تلك الحرب باليمن ما وصفته الأمم المتحدة بأشد الكوارث الإنسانية وطأة في العالم.
علاوةً على ذلك، فإن آخر رحلة قام بها جونسون إلى المنطقة قبل استقالته، كانت زيارة إلى السعودية شهدت في اليوم نفسه إعدام المملكة أكثر من 80 سجيناً.