تضرب العالم أزمة جوع غير مسبوقة، إذ أدى مزيجٌ سام يتألف من أزمة المناخ، والصراعات، وكوفيد إلى فرض ضغطٍ هائل على مجموعةٍ من أفقر دول العالم. لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا جاء ليرفع أسعار الحبوب والوقود أكثر. ويحذر اليوم برنامج الأغذية العالمي من أن عشرات الملايين من البشر، من أوروبا إلى آسيا، ومن إفريقيا إلى الشرق الأوسط، معرضون للمجاعة هذا العام. فما هي المجاعة وعلى أي أساس يتم تصنيفها، وما المناطق التي ستتأثر بها، وكيف يجب أن يتم الاستعداد لها؟
ما هي المجاعة؟
أنشأت منظمة الأغذية والزراعة "فاو" التابعة للأمم المتحدة، أداةً لتتبع معدلات الجوع العالمية، وهي التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. وأصبح التصنيف يمثل الوسيلة الأساسية لرصد المجاعات بمقياسٍ تدريجي يبدأ من المرحلة الأولى (أمن غذائي بشكل عام) وينتهي بالمرحلة الخامسة (مجاعة أو كارثة إنسانية).
وتُعرّف المنظمة المجاعة بأنها "الحرمان الشديد من الطعام بدرجةٍ تصبح معها آثار الجوع، والموت، والفقر المدقع، والارتفاع الشديد في معدلات سوء التغذية الحاد واضحةً أو مرجحة".
يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، إنه يجري تصنيف المناطق بناءً على معايير منها أن تواجه 20% على الأقل من الأسر المعيشية فيها نقصاً حاداً في الغذاء، وأن يعاني 30% على الأقل من الأطفال من سوء تغذية حاد، وأن يموت شخصان من كل 10 آلاف شخص يومياً نتيجة "الجوع المباشر أو المعاناة من سوء التغذية والأمراض".
وإذا لم يبلغ عدد الأسرة المعيشية التي تعاني من ظروف المجاعة المستوى المطلوب (20% من السكان)، أو لم تبلغ معدلات الوفاة المحلية نتيجة سوء التغذية الحد المطلوب لإعلان المجاعة؛ فسوف تجري إضافة تلك الأسر لتصنيف المرحلة الخامسة للكارثة حتى لو لم تكن المنطقة بأكملها مصنفةً في المرحلة الخامسة.
وتستخدم وكالات الأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة، ووسائل الإعلام مصطلح "المجاعة المحتملة" أيضاً. وينطبق هذا التصنيف على المناطق التي تتوافر عنها معلومات تشير إلى احتمالية حدوث مجاعة، لكن الأدلة ليست كافيةً لاستيفاء معايير تصنيفها بشكلٍ كامل.
ما أكثر المناطق التي يُرجّح أن تضربها المجاعة؟
أفاد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي بأنه لا توجد حالياً منطقةٌ تستوفي معايير تصنيف المجاعة من المرحلة الخامسة. لكن بعض الدول مثل إثيوبيا، والصومال، وجنوب السودان، واليمن، وأفغانستان لديها قطاعات من السكان تعاني من مستويات جوع كارثية من المرحلة الخامسة.
إذ واجه 352 ألف شخص يعيشون في شمال إثيوبيا هذا المستوى من الجوع العام الماضي، لكن تفاصيل الوضع الراهن لم تتضح بسبب ضعف الوصول إلى المعلومات.
وأورد التصنيف في توقعاته للصومال بين شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول أن هناك فرصةً معقولة لظهور المجاعة داخل ثماني مناطق بالبلاد في حالة تلف المحاصيل على نطاقٍ واسع، واستمرار ارتفاع أسعار الغذاء، وعدم زيادة المساعدات الإنسانية. ومن المتوقع أن يواجه 213 ألف شخص ظروفاً كارثية. وتظهر علامات سيئة في أحياء بعينها مثل الحي الجنوبي في بيدوا، الذي يستضيف عشرات الآلاف من النازحين، حيث تجاوزت الأرقام المحلية عتبة سوء التغذية الحاد المطلوبة لإعلان المجاعة.
ما حجم الخسائر البشرية المحتملة في حال حدوث المجاعة؟
من المستحيل التنبؤ برقمٍ محدد، لكن التاريخ يحمل لنا بعض الدروس. إذ يُعتقد أن مجاعة عام 1992 في الصومال قتلت نحو 220 ألف شخص، بينما أودت مجاعةٌ أخرى بين عامي 2010 و2012 بحياة نحو 260 ألف شخص نصفهم من الأطفال. وساد إجماعٌ بأن منظمات الإغاثة تحركت ببطء شديد، حيث توفي أكثر من 100 ألف شخص بالفعل حتى وقت إعلان المجاعة.
يُذكر أن آخر مجاعة أُعلِنَت رسمياً في جنوب السودان عام 2017 لم تستغرق سوى 3 أشهر فقط، ويُعتقد أن حصيلة الوفيات كانت أقل (لكننا لا نمتلك أي أرقام رسمية متاحة). وربما يرجع السبب جزئياً إلى الاستجابة الإنسانية.
من المسؤول عن إعلان المجاعة؟
يختص التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي بتصنيف مرحلة المجاعة. إذ تتشكل لجنةٌ من الخبراء المستقلين لمراجعة المجاعة بمجرد وجود مؤشرات على حدوث أو احتمالية حدوث مجاعة، وتفحص اللجنة الأدلة وتُجري تحقيقاتها الخاصة حتى تتأكد من وجود المجاعة. لكن إعلان المجاعة نفسها ليس من اختصاصات التصنيف، بل تقع هذه المهمة عادةً على عاتق الأمم المتحدة بالتعاون مع حكومة الدولة المعنية.
وربما تبدو المهمة بسيطة، لكنها مرهقةٌ للغاية عملياً كما تقول صحيفة الغارديان، ولا عجب في أننا لا نجد الإجماع داخل الدول المعنية دائماً لأن المجاعات ترافق النزاعات عادةً.
وشهدنا هذا الأمر تحديداً في إثيوبيا العام الماضي، حيث دخلت الحكومة في حرب مع المتمردين بمنطقة تيغراي منذ شهر نوفمبر/تشرين الأول 2020. واتهم مارك لوكوك، وكيل الأمين العام السابق للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة العاجلة بالأمم المتحدة، الحكومة الإثيوبية مؤخراً "بإبطاء منظومة إعلان المجاعة بالكامل" لأغراضها السياسية.
ما الذي يحدث عند إعلان المجاعة؟
ليست هناك آلية تمويل معينة تدخل حيز التنفيذ بمجرد إعلان المجاعة، لكن وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة تفترض بناءً على السوابق التاريخية أن إعلان الأزمة يؤدي لتحفيز المانحين المتباطئين. حيث تضخمت الاستجابة الإنسانية بشكلٍ واضح العام الماضي، عندما أصدر التصنيف المرحلي إنذاراً بـ"خطر المجاعة" في مدغشقر التي ضربها الجفاف.
لكن المشكلة تكمن في أن الأزمة ازدادت سوءاً وتحولت إلى مجاعةٍ كاملة بحلول وقت الإعلان، كما يتجلى بشكلٍ مأساوي في أحداث عام 2011. حيث يأتي الإعلان متأخراً بعد فقدان الكثير من الأرواح بالفعل. وكتب روب بايلي من مؤسسة Chatham House البحثية عام 2013 أن "الحكومات المانحة فشلت في زيادة الدعم، بينما فشلت منظمات الإغاثة في زيادة مطالباتها" عامي 2010 و2011 رغم عشرات التحذيرات. وأضاف: "لم تتحرك منظومة الإغاثة إلا بعد إعلان المجاعة، بعد أن فاتت فرصة تفادي الكارثة بالفعل".
فهل تعلّم العالم الدرس هذه المرة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بنعمٍ ولا معاً. إذ قال مايكل دانفورد، المتحدث باسم شرق إفريقيا في منظمة الأغذية العالمية، خلال يونيو/حزيران: "لا تكمن المشكلة في أننا لم نتعلم الدروس المستفادة من عام 2011. بل أعتقد أننا تعلمنا الكثير من تلك الأزمة في الواقع. لكننا لم نتمكن من تطبيق ما تعلمناه بالدرجة المطلوبة نتيجة قلة التمويل".
ولم تهدأ هذه المخاوف مطلقاً بعد قرار قادة مجموعة السبع في يونيو/حزيران بتقديم 4.5 مليار دولار من المساعدات لتخفيف انعدام الأمن الغذائي. وقالت منظمة Oxfam إن هذا الرقم يعد جزءاً بسيطاً من المبلغ المطلوب الذي يجب ألا يقل عن 28.5 مليار دولار، وأوضحت أن القرار يشبه قيام مجموعة السبع "بترك الملايين في مواجهة الموت جوعاً".
ما شكل المجاعة القادمة؟
يقول ديفيد بيزلي، مدير برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، في يونيو/حزيران: "ظننا أن الأمور لن تسوء أكثر. لكن آثار هذه الحرب الروسية الأوكرانية كانت مدمرة".
تقول الأمم المتحدة إن عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع- أو نقص التغذية المزمن- ارتفع إلى 828 مليون شخص العام الماضي، بزيادةٍ قدرها نحو 150 مليون شخص منذ تفشي الجائحة. وحذّر بيزلي يوم الأربعاء 6 يوليو/تموز 2022، من وجود "خطرٍ حقيقي" أن يؤدي التأثير المتموج لما يحدث في أوكرانيا إلى ارتفاع هذا الرقم أكثر خلال الأشهر المقبلة ودفع بعض الدول إلى المجاعة نتيجةً لذلك.
تتبادل روسيا وأمريكا الاتهامات بشأن المسؤولية عن أزمة الغذاء التي يعاني منها العالم وتهدد الملايين بالجوع، فالمؤكد هو أن الهجوم الروسي على أوكرانيا قد أدى إلى ارتفاعات قياسية في أسعار الغذاء عالمياً، وبات شبح المجاعة يتهدد مئات الملايين من الناس حول العالم، لكن تحديد المسؤولية عن اندلاع الأزمة يظل مهمة شبه مستحيلة.
من جهتها، تقول أوكسفام Oxfam، المؤسسة الخيرية التي تتخذ من نيروبي مقراً لها: "إن الوضع يتجه بطرق عديدة نحو الكارثة، وبدون مساعدة كبيرة وفورية، سيزداد سوءاً. لا يوجد نداء إيقاظ أفضل من اللحظة الحالية، مع الارتفاع الحاد لأسعار المواد الغذائية، والجوع الشديد، للتحدث بجديّة وإعادة التفكير في أنظمة الغذاء العالمية".
كما يقول رئيس برنامج الأغذية العالمي ديفيد بيسلي، إن المزيد من الناس في جميع أنحاء العالم أصبحوا معرّضين لخطر المجاعة، وإن الوضع سيكون شديد الفداحة وكأنه "الجحيم على الأرض"، بحسب تعبيره.
وكان العالم يتجه صوب هذه الأزمة لعدة أسباب، لكن حرب روسيا على أوكرانيا جعلت الكارثة على مرمى حجر. إذ إن الصراع بين بلدين ينتجان معاً ثلث إنتاج القمح في العالم، قفز بأسعار الحبوب العالمية بنسبة 21% في غضون 10 أيام فقط من بداية الحرب.
وازدادت أسعار القمح بنسبة 70% في شهر واحد، ويعتقد الخبراء أن الوضع مرشح للأسوأ. وقلصت روسيا صادراتها من القمح والذرة، وقال وزير الزراعة في أوكرانيا إن محصولها الربيعي قد لا يتجاوز نصف ما كانت تتوقعه البلاد قبل الحرب.
وأوقفت أوكرانيا تصدير اللحوم، والماشية، والملح، والسكر، والحنطة السوداء، والشوفان، وغيرها من الحبوب. وقال الخبراء إنه لا يمكن إيجاد بديل عن القمح الروسي والأوكراني بسهولة. وأكدت الأمم المتحدة أن المخزونات صغيرة في الولايات المتحدة وكندا، بينما تحد الأرجنتين والهند وغيرها من الصادرات.