لا تتوقف الحياة المصرية القديمة عن البوح بأسرارها بين الحين والآخر من خلال الاكتشافات الأثرية التي لا تنضب في كل محافظات مصر، إلا أن منطقة الأهرامات لديها سر خاص.
تجربة مفعمة بالفرح نقلها تانفير بادال، المصور الفوتوغرافي الأمريكي أثناء زيارته لمصر، ونشرها في صحيفة New York Times الأمريكية.
قال بادال كنت في زيارةٍ إلى أهرامات الجيزة في مصر بصحبة مارك لينر، عالم المصريات الشهير، عندما انفجرت فجأة سلسلة من الصيحات التي تردد صداها في الموقع بأكمله. فحوّلت مجموعتنا الصغيرة أنظارها صوب الضجيج، متسائلين عما حدث، وما إذا كانت مشكلةٌ قد وقعت.
لكننا شاهدنا بدلاً من ذلك وجوهاً مبتهجة لمجموعة رجال يقتربون وهم يركضون حفاة الأقدام فوق الرمال، بينما يحمل بعضهم الحقائب وغيرها من المعدات المقطورة. وغطى العرق وجوههم وهم ينقلون حمولتهم الثقيلة تحت أشعة الشمس الحارقة، لكن صيحاتهم المتكررة أعطت المشهد مظهراً احتفالياً.
وتبيّن أن دخولهم الاحتفالي تصادف مع وصولنا إلى موقع حفر الدكتور لينر، حيث يعمل مع فريقه من جمعية أبحاث مصر القديمة على استكشاف مدينة الأهرامات المفقودة.
ووصل العمال النشطاء بقيادة سيد صلاح، الذي ينادونه بـ"الريس"، بينما وصف الدكتور لينر أعمال التنقيب التي يقومون بها بأنها منهكةٌ وشاقة، لكن لها مستويات أكثر عمقاً ودقة.
إذ ينحدر أولئك الرجال من قرية أبوصير، بالقرب من سقارة، وينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم جزءاً من فريقٍ موقر، يربطهم بالمصريين القدماء الذين بنوا الأهرامات في البداية.
بناء الأهرام لم يكن بالسخرة!
تُشير الأدلة المكتشفة في العقود الأخيرة إلى أن العاملين الذين بنوا الأهرامات لم يكونوا عمالاً بالسخرة، كما كان معتقداً على نطاقٍ واسع. ومن المرجح في الواقع أن بناء الأهرامات جرى على يد عمال مدفوعي الأجر، وكانوا يقيمون داخل ثكنات قريبة. وتكشف أجزاء البردية التي اكتشفها بيير تاليه، عالم المصريات الفرنسي، أن العمل في البناء كان يعتبر مهنةً محترمة ونبيلة.
ويمكن القول إن أوجه الشبه بين الروح العالية لعمال اليوم وبين الصورة الجديدة المرسومة لعمال الماضي كانت واضحةً للعيان. وبعيداً عن المكافآت والاحتفالات التي ترافق الوظيفة، يؤمن أولئك الرجال بأنهم يواصلون العمل المهم الذي بدأه أسلافهم المبتكرون.
وكنت في حضرة الدكتور لينر وفريقه الموقر كجزءٍ من جولة خاصة تاريخية لأهرامات الجيزة، من تنظيم شركة Your Private Africa للسفر، إذ يتعاون الدكتور لينر مع المجموعة حتى يقود رحلات تاريخية بطول مصر وعرضها، لضيوف ورعاة مشاريعه الأثرية والبحثية، التي يمتد تاريخها على مدار قرابة الـ40 عاماً.
وأذكر أن آخر مرة زرت فيها الأهرامات كانت منذ نحو 10 سنوات، أي قبل اندلاع ثورات الربيع العربي مباشرة. وربما شهدت مصر سيلاً من التغييرات السياسية وغير السياسية على مدار العقد الماضي، لكن عجائب العالم القديمة ظلّت محافظةً على كامل هيبتها وطابعها الخارج عن المألوف في عالمنا، مع أن أعمال لينر تُثبت أنه لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه عن تلك الأهرامات والأشخاص الذين شيّدوها واستخدموها. وساعدت خبراته الواسعة، وتعليقاته المستمرة، ومكانته المطلعة على بواطن الأمور، في جعل تجربتي مع الأهرامات في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أكثر ثراءً دون شك.
ومن المؤكد أن رؤية أهرامات الجيزة مرةً أخرى مثّلت تجربةً أكثر ثراءً بالنسبة لي كمصورٍ أيضاً. ويرجع الفضل في ذلك إلى ورقةٍ رابحة غير متوقعة صادفت الزيارة، وهي أن السماء أمطرت.
إذ يُعتبر المطر عملةً نادرة في مثل هذا الجزء من العالم، لكن الطقس "السيئ" يسمح عادةً بالتقاط صور فوتوغرافية جيدة، حيث تسمح لك خطوط الضوء أو السُّحب الرائعة بالنظر إلى المشهد من زاويةٍ مختلفة، وهو ما سيفيدك بشدة عندما تحاول التقاط صور لمواقع يجري تصويرها بكثافة.
لهذا شعرت بأنني محظوظ عندما قررت الطبيعة الأم توفير خلفيةٍ دراماتيكية نادرة الحدوث مع اقترابنا من الهرم المنحني في دهشور، على بعد نحو 40 كيلومتراً جنوب القاهرة. وعلمت أن هذا الهرم البارز كان ثاني الأهرامات التي بناها سنفرو، الفرعون المؤسس للأسرة المصرية الرابعة. في حين بنى خليفته خوفو الهرم الأكبر الشهير بالجيزة، وينظر علماء المصريات الآن للهرم المنحني باعتباره خطوةً مهمة صوب بناء الهرم المخصص كقبر.
رياح الخماسين
ولم ينته عرض الطبيعة الأم أيضاً، حيث ضربت الأجواء عاصفةٌ رملية قوية حول هرم زوسر المدرج، الذي يعتبر جزءاً من مدينة سقارة الجنائزية، التي تقع على بعد نحو 30 كيلومتراً جنوب القاهرة. فأخرجنا الأقنعة والأوشحة مع وصولنا، بينما احتمى البعض من جدار الرمال الهوائي الذي سدّ الأفق.
ويُعرف موسم العواصف الرملية والرياح التي تسببها باسم الخماسين، في إشارة إلى أيام العواصف الـ50 التي تبدأ في أواخر الشتاء أو أوائل الربيع، لكن النظر إلى هذه الكنوز الأثرية الشهيرة متقنة البناء، وسط هذه الظروف الدرامية، جعلها تبدو وكأنها من عالمٍ آخر.
وأواصل متابعة أعمال التنقيب الرائعة للدكتور لينر من خلال رسائل منتظمة يبعث بها لأنصار أعماله البحثية. ويستكشف حالياً خبايا الرمال في موقع حفر داخل مستعمرة حيط الغراب بالجيزة. حيث يبلغ عمر المستعمرة 4500 عام، وتضم بلدتين قديمتين مختلفتين، وبعض المخازن، وعدداً من الشوارع الرئيسية. وتتراوح اهتماماته اليومية بين وضع الافتراضات حول الطريقة التي استطاعت بها الماشية العبور بين فتحات معينة في الجدران القديمة، وبين الاستخدام المحدد لمنطقةٍ من المستعمرة يُطلق عليها اسم "حظيرة المملكة القديمة".
ولهذا أتطلع بكل حماس إلى اكتشافاته، وأنا على ثقة من أن العاملين بجواره في مواقع التنقيب سيكونون على الموعد للاحتفال بكل معلومةٍ جديدة يكشفها فريقها، كما شهدت بأم عيني أثناء زيارتي.