"لا يتسع الأمر إلا إذا ضاق"، حكمة أطلقها الشيخ جمال الدين الأفغاني، يمكن إسقاطها على الشعب الليبي، الذي خرج منه متظاهرون في العديد من المدن شرقاً وغرباً، للمطالبة برحيل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وحتى حكومتي فتحي باشاغا وعبد الحميد الدبيبة، بعد أن وصلت الأوضاع السياسية والاقتصادية إلى حد لا يطاق.
ففشل اجتماع عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في طبرق، وخالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) في التوصل إلى توافق بشأن المسار الدستوري، كان القشة التي قصمت ظهر البعير.
وعبر المتظاهرون عن غضبهم من فشل اجتماع جنيف بحرق مقر مجلس النواب في طبرق، بينما كانت مظاهرات طرابلس أكثر سلمية ولم تمس مقر مجلس الدولة، الذي خرج رئيسه مساء الخميس، في كلمة مصورة، كشف فيها تفاصيل لقائه مع عقيلة، وبالأخص تراجع الأخير عن شرط منع مزدوجي الجنسية من الترشح للرئاسة، في إشارة إلى خليفة حفتر، قائد قوات الشرق.
هل سيتحرك الرئاسي؟
مظاهرات الجمعة، كانت منتظرة، لسببين أولهما توقع فشل اجتماع عقيلة والمشري، بناء على تجارب كثيرة سابقة، والثاني أن العديد من الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي دعوا لها حتى قبل انتهاء اجتماع جنيف.
لكن الأهم من كل ذلك أن المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، وجه تحذيراً غير مسبوق للطبقة السياسية باستخدام "سلطته السيادية" في حال فشل اجتماع جنيف، وهو ما وقع فعلاً.
وتلقى المجلس الرئاسي دعماً من شيوخ القبائل وقادة الأحزاب السياسية والمترشحين البرلمانيين والرئاسيين لاتخاذ قرار حاسم بحل مجلسي النواب والدولة، والأخذ بزمام المبادرة لقيادة البلاد نحو الانتخابات، ووقف حالة "التمديد والتمطيط"، التي اتبعها "البرلمان للبقاء في السلطة"، بحسب انتقادات العديد من السياسيين والناشطين الإعلاميين.
لكن أكبر دعم تلقاه المجلس الرئاسي، جاء من المتظاهرين والمحتجين، خاصة في طبرق، مسقط رأس عقيلة والمنفي أيضاً، والذين طالبوا بحل البرلمان وجميع الحكومات، وأن يتولى المجلس الرئاسي الإشراف وتنفيذ الانتخابات.
وأول خطوة اتخذها المجلس الرئاسي في هذا السياق، إعلانه أنه "في حالة انعقاد مستمر ودائم حتى تتحقق إرادة الليبيين في التغيير، وإنتاج سلطة منتخبة يرضى عنها الليبيون".
"وحالة الانعقاد الدائم" مصطلح طالما تردد في بلدان الربيع العربي قبيل اتخاذ قرارات مصيرية تنتهي بإسقاط رأس النظام.
وفي هذه الحالة من المرتقب أن يعلن المجلس الرئاسي، في أي لحظة، "تطبيق قانون الطوارئ"، وإسقاط مجلسي النواب والدولة.
لكن هذه الخطوة تحتاج استمرار الضغط الشعبي الداعي إلى إسقاط المجلسين، ودعم من الدول المؤثرة في الملف الليبي للمجلس الرئاسي.
لكن الولايات المتحدة تعارض خطوة حل المجلس الرئاسي لمجلسي النواب والدولة، وحذرت "من أيّ جهد لتحقيق مكاسب سياسية من خلال المخاطرة باللجوء إلى العنف".
وفي خطوة داعمة لعقيلة والمشري، حثت السفارة الأمريكية لدى ليبيا، في بيان، "مجلسي النواب والدولة، على سد فجوة الخلافات القليلة المتبقية حول الأساس الدستوري".
وهو ذات الموقف الذي تبنته المستشارة الأممية، الأمريكية ستيفاني وليامز، التي عبرت عن أملها في أن "تستمع الطبقة السياسية لهذه الاحتجاجات، وعليها تنحية خلافاتها جانباً لإجراء الانتخابات التي يريدها الليبيون".
أي أن واشنطن والأمم المتحدة لا تريدان أن تذهب هذه الاحتجاجات أبعد من مجرد الضغط على مجلسي النواب والدولة للتوصل إلى اتفاق، بدل إسقاطهما.
قربان الاحتجاجات
في صيف 2020، وبعد أن وضعت حرب حفتر في طرابلس أوزارها، خرجت احتجاجات عنيفة غير مسبوقة في ليبيا منذ 2011، بسبب أزمة انقطاع الكهرباء وتردي الأوضاع الاقتصادية؛ ما دفع الطبقة السياسية بمختلف أوجهها لخفض رؤوسها أمام العاصفة وتقديم تنازلات وقربان لتهدئة غضب الشارع.
وكان القربان حينها الإطاحة بالمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فائز السراج، والحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء (شرق) برئاسة عبد الله الثني، وإنهاء حفتر قفل الحقول والموانئ النفطية، واتفاق مجلسي النواب والدولة على تشكيل حكومة وحدة وطنية، ومجلس رئاسي منفصل.
ويتكرر ذات المشهد في صيف 2022؛ الموالون لحفتر يقفلون المنشآت النفطية، وأزمة الكهرباء تعود بقوة، والغضب الشعبي يزداد بسبب الانسداد السياسي، ليتفجر في احتجاجات، أعنفها انفجر في وجه مجلس النواب.
أول القرابين التي تم التخلي عنها لمواجهة عاصفة الغضب الشعبي، كان مجلس إدارة الشركة العامة للكهرباء، الذي أوقفه الدبيبة وأحال أعضاءه للتحقيق، قبل أن تندلع الاحتجاجات بأيام قليلة.
وحتى بعدما طالب المحتجون بإسقاط حكومته رفقة حكومة باشاغا والبرلمان بمجلسيه، فإن الدبيبة، اختار التماهي مع مطالبهم بدل الاصطدام بها، ولكن بشكل مشاكس، قائلاً: "أضم صوتي للمتظاهرين في عموم البلاد، على جميع الأجسام الرحيل بما فيها الحكومة، ولا سبيل لذلك إلا عبر الانتخابات".
فهو وضع بذلك شرطين؛ الأول أن حكومته لن ترحل وحدها إلا برحيل حكومة باشاغا ومجلس النواب ومجلس الدولة معها.
والثاني أن حكومته لن ترحل إلا عبر الانتخابات، ما يعني أن الدبيبة يرفض المطلب الشعبي الذي يدعو إلى فرض قانون الطوارئ وتشكيل حكومة مصغرة يقودها رئيس المجلس الأعلى للقضاء محمد الحافي، أو النائب العام الصديق الصور.
وضمنياً، يستعد الدبيبة، لرفض أي قرار من المجلس الرئاسي بتشكيل حكومة جديدة للإشراف على الانتخابات.
وفي خطوة أخرى، حاول رئيس حكومة الوحدة توجيه غضب المحتجين نحو من أسماهم "الأطراف المعرقلة للانتخابات.. التي عرقلت الميزانيات، وأغلقت النفط، والتي ساهمت في تفاقم الأزمة المعيشية".
فالدبيبة، يرفض أن يكون قربان هذه الاحتجاجات كما وقع للسراج قبله في 2020، بل يدعو إلى أن يكون عقيلة وحفتر، هما قربان هذا الغضب الشعبي، لأنهما كانا سبباً رئيسياً في منع إجراء الانتخابات، بحسبه؛ فالأول منع على الحكومة الميزانية التي بإمكانها تحسين معيشة الناس، والثاني قطع عليهم النفط ما فاقم أزمة الكهرباء.
حفتر ينجد عقيلة
أكبر متضرر من احتجاجات الجمعة، كان بدون شك عقيلة صالح، بعد أن هدم المحتجون بوابة مقر مجلس النواب، وأحرقوا مكاتبه ومزقوا وثائقه ورموها من النوافذ والشرفات، وطالبوا بإسقاط المجلس الذي يترأسه منذ 2014.
فلطالما شكلت طبرق رمزية لنفوذ عقيلة أمام خصومه في الغرب، بل وحصناً من محاولات حفتر التغوّل عليه وإقصائه من المشهد السياسي في الشرق، لكن أن ينتفض سكان المدينة ضده وضد المجلس الذي يترأسه، فيعبر ذلك عن تراجع نفوذه حتى في مسقط رأسه بمحافظة طبرق.
لكن الأسوأ من ذلك، أن عقيلة اضطر للاستنجاد بحفتر، الذي أرسل قوات إلى طبرق، للسيطرة على الأوضاع الأمنية هناك، ما سيزيد من نفوذه في المنطقة التي كان لعقيلة سلطة تتجاوزه.
هذا الوضع الجديد، سيجعل عقيلة أكثر تبعية لحفتر، رغم أنه سبق وأن تحداه عندما ترشح ضده للانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، قبل أن يتم إلغاؤها.
وفي 2020، عارض عقيلة إعلان حفتر نفسه رئيساً لليبيا، وحظي بدعم شيوخ قبائل أقصى الشرق، بالإضافة إلى روسيا، واستطاع إجباره على التراجع عن قراره.
وفي اجتماع جنيف الأخير، كشف المشري، أن عقيلة من اقترح منع مزدوجي الجنسية من الترشح للرئاسة، قبل أن يتراجع في اليوم الموالي.
فحفتر، قد لا يمانع من تقديم باشاغا قرباناً للغضب الشعبي، لكنه ما زال بحاجة إلى عقيلة كحليف سياسي، أثبت ولاءه في أكثر من جولة حوار.
حيث وجه تحذيراً ضمنياً للمجلس الرئاسي من الانفراد بالقرار فيما يتعلق بإسقاط مجلس النواب، بدعم من جهة أجنبية لم يحددها، في البيان الذي أصدرته قواته مساء السبت.
وذكر البيان أن قوات حفتر "ستتخذ الإجراءات الواجبة لصيانة استقلال القرار الليبي، إذا ما حاول أي طرف الانفراد به تماشياً مع أي إرادة خارجية تسعى لفرض مشاريعها وقرارها على الليبيين".
لكن حفتر، قد يتخلى عن عقيلة إذا طالب المحتجون بإسقاطه هو الآخر، حينها لن يكون أمامه من سبيل سوى التخلي عن الجناحين معا (باشاغا وعقيلة) لإنقاذ نفسه.
فاحتجاجات الجمعة، منحت الضوء الأخضر للمجلس الرئاسي لإسقاط مجلسي النواب والدولة، وكذلك حكومتي الدبيبة وباشاغا، لكن المنفي قد يجد صعوبة في تنفيذ هذا القرار مع رفض حكومة الوحدة وقوات حفتر، صدوره بتلك الصورة، ناهيك عن الموقف الأمريكي والأممي الداعم لاستكمال نفس المسار السياسي.