حقق يائير لابيد حلمه بأن يكون رئيس وزراء لإسرائيل، حتى ولو لفترة مؤقتة، والآن بات على هذا السياسي الذي يوصف بالليبرالي أن يخوض معركة ضارية مع بنيامين نتنياهو الطامح للعودة لرئاسة الحكومة، فهل يستطيع لابيد هزيمته؟
والانقسام حول رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد يائير لابيد بدأ قبل دخوله معترك السياسة، فقد تباينت آراء وسائل الإعلام الإسرائيلية فيه منذ وقت طويل، بين من استبشروا به وعدُّوه وجهاً جديداً صاعداً ومن كرهوه وتحيَّنوا كل فرصة للقضاء عليه، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
تولى لابيد منصبَ رئيس الوزراء في إسرائيل يوم الخميس 30 يونيو/حزيران. وقد كان يشغل منصب وزير الخارجية في حكومة ائتلافية شكَّلها العام الماضي ليتغلب على بنيامين نتنياهو، أطول زعماء إسرائيل خدمةً في منصب رئيس الوزراء. انهارت الحكومة الائتلافية الأسبوع الماضي، وتولى لابيد زمام الأمور مؤقتاً لحين إجراء الانتخابات المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني.
طُرد من الدكتوراه بسبب عدم نيله الثانوية فتحول إلى صحفي مشهور
يبلغ لابيد من العمر الآن 58 عاماً، وقد كانت مقالاته الصحفية المنشورة في عطلة نهاية الأسبوع سبيلَه الأول إلى مكانة اجتماعية مستقرة ووظيفة مربحة وهو لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره، ثم أصبح مضيف أكثر برامج الحوار شعبيةً في البلاد، وحاز لنفسه ثروة صغيرة من الدعاية في إعلانات البنوك. وتضمنت مجالات عمله الأخرى كتابة أغاني البوب الناجحة، وسلسلة من الروايات التي جاءت بين الأكثر مبيعاً.
انتشر مقطع فيديو مجهول المصدر على موقع يوتيوب في عام 2011 يظهر فيه لابيد وهو يتعرض للضرب في حلبة ملاكمة، ولم يكن ذلك إخفاقه الوحيد، فقد أُجبر في عام 2012 على ترك برنامج الدكتوراه في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد أن كشفت الصحافة أنه لم يكمل دراسته الثانوية، ومن ثم فهو غير مؤهل لهذه الدرجة العلمية.
تتشابه سيرة لابيد في بعض ملامحها مع كاتب صحفي وشخصية تلفزيونية أخرى استثمر شهرته لبلوغ أعلى منصب سياسي في بلاده: بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا.
صبي مدلل طامح في السلطة
في عام 2005، كتب رون مايبرغ، الصحفي الإسرائيلي المخضرم والمحرر السابق لمقالات لابيد، مقالاً يتكون مما يزيد على 3 آلاف كلمة، بعنوان "يائير الأفضل"، ووصفه فيه بـ"الصبي الذي نشأ مدللاً يأتيه كل شيء دونما تعب"، وتعرض له فيه بالنقد الشديد، وسرد أخطاء مزعومة له، قائلاً إنه لا يُدلي برأيه في شيء إلا بعد فوات الأوان، وإنه كثيراً ما يقع في الخطأ عن جهل أو إغفال لتفاصيل معينة.
وعاب مايبرغ على لابيد "كونه الصحفي الأكثر طلباً للسلامة في البلاد"، فهو لا يكتب أبداً أي شيء مثير للجدل أو يستدعي غضباً من أحد. وتوقع أن "لابيد سيشكل حزباً يكتسح المقاعد ويحمله إلى السلطة".
لم يكن منتقدو لابيد وحدهم من تنبأوا بأنه مقدر له أن يمارس السياسة. فقد وُلد لعائلة من الصحفيين والكتاب، وكان والده يوسف "تومي" لابيد مراسلاً بارزاً لصحيفة معاريف اليومية، والمدير العام لهيئة البث العام الإسرائيلية، وقد اتخذ لابيد الأب المسارَ نفسه الذي اتخذه ابنه من بعده، فقد عُرف بمعاركه في البرامج الحوارية السياسية، ثم جمحت به الأمور إلى مسيرة سياسية عاصفة لم تدُم طويلاً، فقد تولى وزارة العدل مدة وجيزة، قبل أن ينهار حزب "شينوي" (التغيير) العلماني المتطرف الذي كان يتزعمه.
كان والد يائير أول مرشد سياسي له، إلى جانب إيهود أولمرت، صديق العائلة المقرب ورئيس الوزراء السابق. وقال أولمرت في لقاء إذاعي الأسبوع الماضي، إن صعود لابيد إلى سدة الحكم "كان أمراً متوقعاً. لطالما قال تومي [والد يائير لابيد] منذ سنوات عديدة إن يائير سيكون شخصاً مهماً للغاية يوماً ما".
إليك موقفه من قضية فلسطين وكيف حاول نتنياهو منعه من السياسة؟
كان نتنياهو أيضاً أحد السياسيين المتمرسين الذين توقعوا بروز لابيد في مجال السياسة. وقد حاول نتنياهو تمرير قانون من شأنه إجبار الصحفيين على اتخاذ "مدة من اعتزال الشأن العام" قبل الدخول في عالم السياسة.
بعد 30 عاماً في مجال الإعلام، انغمس لابيد أخيراً في عام 2012 في بحر السياسة الذي طالما تُنبِّئ له بالخوض فيه.
وكان حزب "يش عتيد" (هناك مستقبل) الذي أسَّسه وسطياً بالفعل قدر الإمكان بمعايير السياسة الإسرائيلية. فقد أيَّد بيان برنامج الحزب تسوية حل الدولتين، وهي التسوية المفضلة للتيار اليساري في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومع ذلك غمز البيان القيادة الفلسطينية باتهامها بسوء نية في التفاوض، واستبعد احتمال انتهاء الصراع في المستقبل المنظور.
يائير لابيد أعطى الأولوية للاقتصاد في برنامج حزبه
وعلى غير المعتاد من الأحزاب الإسرائيلية، وضع بيان الحزب فصلَ شؤون الاقتصاد والمجتمع قبل الفصل المتعلق بالأمن والشؤون الدبلوماسية. ومال الحزب بخطابه إلى جمهور لابيد ممن قرأوا مقالاته واعتادوا مشاهدته خلال مسيرته المهنية السابقة في الإعلام، ومعظمهم علمانيون من الطبقة الوسطى، تعنيهم تكلفة المعيشة وشؤون الاقتصاد أكثر من الصلابة الإيديولوجية وأفكار السياسة.
حملت مشاركة يائير لابيد الأولى في الانتخابات نجاحاً كبيراً له مثل معظم مسيرته، فقد حصل حزبه في انتخابات عام 2013 على 19 مقعداً، ما جعله ثاني أكبر حزب في الكنيست المكوَّن من 120 مقعداً، والتالي بعد حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو. وقد صعد لابيد إلى المنصة عشية فوزه، وأخذ يعزف على الغيتار الكهربائي، ويتفاخر بين الصحفيين بأنه سيصبح رئيساً للوزراء يوماً ما. لكن قبل ذلك، كان عليه الانضمام إلى ائتلاف نتنياهو والعمل ضمن حكومته.
تورط في وزارة المالية فخسر ثلث مقاعده
أبدى لابيد تفوقاً ملحوظاً في حملته الانتخابية، لكن دروب الحكم كانت أوعر عليه من المسالك التي عرفها من قبل. ولما كان عدد المقاعد التي فاز بها حزبه يسوِّغ له الحصول على منصب وزاري كبير، عرض عليه نتنياهو وزارة المالية، لكن العرض انطوى على فخ تبيَّن له بعد ذلك. افتقر لابيد للخبرة والمعرفة، فتعثرت به السبل بين مسؤولي المالية المتمرسين، وعطّلوا خططه الطموحة، مثل إلغاء ضريبة القيمة المضافة لمشتري المنازل أول مرة، علاوة على أن رئيس الوزراء تحيَّن الفرص لإزاحته. استمر لابيد في وزارة المالية أقل من عامين، حتى أقاله نتنياهو ودعا إلى إجراء انتخابات أخرى.
كان إخفاق لابيد في ولايته الأولى وصمةً لاحقته في الانتخابات الآتية، فخسر حزبه "يش عتيد" ثلث مقاعده في انتخابات عام 2015. وخابت الآمال التي كانت معقودة عليه طيلة السنوات الست التالية، فلم يعد الأمل المشرق للعلمانيين الإسرائيليين، ووجد نفسه يصارع سياسيين آخرين بحثاً عن سبيل لمنافسة نتنياهو. ثم آلت به الأمور في عام 2019 إلى دمج حزبه في ائتلاف مع قائمة "أزرق أبيض" بقيادة الجنرال السابق بيني غانتس، الذي بدا أنه الرجل الذي قد يُسقط نتنياهو عن سدة الحكم أخيراً.
شهدت إسرائيل حقبة من الشلل السياسي. فقد عجزت الأحزاب اليمينية والدينية الداعمة لنتنياهو عن الفوز بأغلبية في الانتخابات المتوالية، وأراد معظم الناخبين رحيل نتنياهو، لكن تفرقت آراؤهم، وظلوا مثل كثير من أحزاب المعارضة عاجزين عن العمل معاً.
تحول لزعيم معارضي نتنياهو المنقسمين
حنث غانتس بوعده مع الناخبين بعد الانتخابات الثالثة في عام 2020، ووافق على الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية مع نتنياهو. لكن لابيد رفض أن يتبعه، وانفصل بحزبه "يش عتيد" عن ائتلاف "أزرق أبيض"، وأصبح زعيم المعارضة المنقسمة.
لم تستمر الحكومة الجديدة إلا ستة أشهر، وبعد انتخابات رابعة في عام 2021، حصل لابيد أخيراً على فرصته في تولي الحكم، ثم نجح في الجمع بين ثمانية أحزاب مختلفة، ضمَّت قوميين يهوداً ويساريين علمانيين، وحزباً عربياً، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.
اتفق لابيد على تقاسم الولاية مع نفتالي بينيت، على أن يتولى الأخير رئاسة الوزراء أولاً مدة عامين، ورضي هو بمنصب وزير الخارجية. مع ذلك، لم يكد ائتلاف لابيد يكمل أسبوعاً واحداً بعد الذكرى السنوية الأولى لتأسيسه، وبمجرد حل الكنيست هذا الأسبوع، سلَّم بينيت السلطة إلى لابيد، الذي سيشغل منصب رئيس الوزراء حتى 1 نوفمبر/تشرين الثاني.
تمكن لابيد من الوصول إلى سدة الحكم بعد عقدِ من العمل في السياسة، لكن المؤكد أن أمد حكمه لن يزيد على أربعة أشهر، إلا إذا استطاع أن يوقف نتنياهو، الذي عاد إلى المنافسة بقوة. كان لابيد أول سياسي ينجح في هزيمة نتنياهو بعد 15 عاماً من هيمنة الأخير على الحكم في إسرائيل، فهل ينجح الآن في هزيمة نتنياهو مرة أخرى؟