"لجأت تونس لمخزونها الاستراتيجي من المحروقات"، في مؤشر يُنذر بقرب حدوث نقص في الوقود يُفاقم الأزمة الاقتصادية التونسية القائمة، ولكن المفارقة أن هذا يأتي في ظل تشديد الرئيس قيس سعيد قبضته على السلطة، رغم أنه مسؤول عن تدهور الاقتصاد.
ويمضي الرئيس التونسي قيس سعيد قدماً على طريق تشديد قبضته على السلطة من خلال استفتاء دستوري تقرر في يوليو/تموز، رغم إخفاقه في الملف الاقتصادي، حتى الآن، فيما قد تهدد عملية توسيع صلاحياته، بأن تمتنع الدول الغربية من دعم الاقتصاد المترنح أو تأخير مساعدة صندوق النقد للبلاد.
الأزمة الاقتصادية التونسية تتفاقم بعد عام من نفراد الرئيس بالسلطة
وازدادت الأزمة الاقتصادية التونسية تدهوراً بعد مرور عام على استحواذ الرئيس التونسي قيس سعيد على السلطة، عبر إجراءات يقول نقاده إنها مخالفة للدستور، بدأت في 21 يوليو/تموز 2021، بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة والتدخل في شؤون القضاء، وصولاً لحل البرلمان ومحاولة صياغة دستور بدون التوافق مع القوى السياسية.
وتلوح في الأفق أزمة وقود، مع ندرة المواد البترولية والظرف المالي الحالي الذي تشهده تونس والأزمة الأوكرانية، وهي كلها ضغوط ترزح تحتها خزينة الدولة، حسبما قال المدير العام لإدارة المحروقات بوزارة الطاقة التونسية، رشيد بن دالي، الأربعاء 29 يونيو/حزيران 2022.
وكالة الأنباء التونسية نقلت عن دالي قوله إن استهلاك المنتجات البترولية يبلغ نحو 90 ألف برميل يومياً، في حين تبلغ الطاقة الإنتاجية للشركة التونسية لصناعات التكرير 32 ألف برميل يومياً، وأوضح أن 58 ألف برميل يومياً يجب تغطيتها عن طريق الاستيراد.
يأتي هذا بينما سجلت المالية العامة لتونس، التي يقول مسؤولون إنها تواجه أسوأ أزمة لها، حيث تعاني خسائر إضافية بنحو ملياري دولار، بسبب تداعيات الحرب بين أوكرانيا وروسيا على أسعار الحبوب والطاقة، تضاف للتأثير المتراكم لجائحة كورونا.
وأعلن البنك الدولي، الأربعاء 29 يونيو/حزيران 2022، أنه سيمنح تونس قرضاً مالياً بقيمة 130 مليون دولار؛ لمواجهة التداعيات الغذائية لحرب أوكرانيا، وتعزيز الأمن الغذائي للبلاد.
سعيد يتجه للسيطرة على كل السلطات
وبعد قرابة عام على بدء سعيد عملية الاستئثار بالسلطة، يُتوقع على نطاق واسع أن يعزز استفتاء 25 يوليو/تموز من سلطاته، فيما يعتبره منتقدون مساعي لترسيخ حكم الرجل الواحد، في ارتداد عن المكاسب الديمقراطية لانتفاضة الربيع العربي في تونس عام 2011، حسبما ورد في تقرير لوكالة رويترز.
لكن من وجهة نظر سعيد، فإن إعادة كتابة دستور 2014 هي إصلاح للعجز السياسي الذي أصاب تونس، منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي. ويتعهد سعيد، الذي انتُخب عام 2019، بحماية الحريات، ويقول إنه ليس ديكتاتوراً على الرغم من حله البرلمان وتحوله إلى الحكم بمراسيم.
وسيقاطع خصومه التصويت في خطوة احتجاجية تزيد من احتمال إقرار الدستور. ويتوقع المعارضون خطوات لاحقة يتخذها سعيد لتعزيز سلطة الرئاسة والإمعان في إضعاف البرلمان الذي تم حله والقضاء.
البعض كان يراهن على أنه سينقذ الاقتصاد
وبينما ركز سعيد جل جهوده على إعادة تشكيل معالم المشهد السياسي التونسي، يقول منتقدون إن أستاذ القانون السابق فشل في معالجة المشكلة الأكثر إلحاحاً، وهي الاقتصاد.
فقد دفع الغضب من الأزمة الاقتصادية والمشاحنات السياسية العديد من التونسيين إلى الترحيب باستحواذ سعيد على السلطة العام الماضي.
لكن المصاعب تفاقمت منذ ذلك الحين، إذ أصبح خُمس القوة العاملة يعاني البطالة، وزادت نسبة الفقر إلى أعلى مما كانت عليه قبل انتفاضات الربيع العربي.
كما كشف التأخير في دفع رواتب القطاع العام وصعوبة سداد ثمن شحنات القمح عن وطأة الضغوط التي ترزح تحتها خزانة الدولة.
وسجل التضخم مستوى قياسياً بلغ 7.8%.
وقال نجيب الشابي الذي يرأس جبهة الخلاص، التحالف الرئيسي المناهض لسعيد، لرويترز "الأزمة تتفاقم سياسياً واجتماعياً… وإذا استمرت فالانفجار وشيك".
وأضاف أن عزلة سعيد تتزايد محلياً ودولياً، معتبراً أن "كل المؤشرات توحي بمزيد من التأزم"، وحثّ على إجراء حوار وطني لمنع "انهيار وشيك".
وسبق أن قال سعيد إنه يحاول إنقاذ الاقتصاد، وألقى باللوم على الفساد في تراجع المؤشرات الاقتصادية، ووعد باسترداد الأموال التي قال إن النخب سرقتها، وهي تصريحات رفضها المعارضون باعتبارها خطاباً شعبوياً.
الدستور قد يمرر رغم المقاطعة الشعبية
ورغم الضغوط التي يتعرض لها سعيد، فإنه يتوقع أن يمضي الاستفتاء قدماً، وأن يتم إقرار الدستور، مشيراً إلى عدم وجود حد أدنى للمشاركة المطلوبة، حسبما قال طارق المجريسي من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهي مؤسسة بحثية.
وأضاف: "سعيد سيواجه حينها كارثة اقتصادية تلوح في الأفق، ليس لديه الدعم أو مستوى الإدارة الكافية لبناء نظام سياسي جديد، وعندما ينهار الاقتصاد فلن يكون لديك نظام سياسي يمكنه إنقاذه".
ومع تبقي أسابيع قليلة على الاستفتاء، ليس هناك ما يشير إلى اقتراب حدث سياسي كبير على هذا النحو. فلا توجد لوحات إعلانية تدعو للمشاركة في الاستفتاء. ومن المقرر نشر مواد الدستور المقترح، اليوم الخميس، في إطار جدول زمني وضعه سعيد.
وبينما لا تظهر معارضة شعبية كبيرة لخطوات سعيد، باستثناء القوى السياسية التقليدية والمجتمع المدني، فإنه لا يبدو أيضاً أن هناك اكتراثاً شعبياً بخطواته، ولم تحظَ ما سمّاها بالاستشارة الإلكترونية حول الدستور، التي عقدت في يناير/كانون الثاني 2022، بإقبال شعبي يذكر، حيث أفادت تقارير بأن الأيام الأولى للاستشارة شهدت مشاركة نحو 244 ألف مواطن من بين عدد سكان البلاد البالغ 12 مليوناً، نحو صفهم لا يملكون مصدراً للإنترنت.
وأعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 27 يناير/كانون الثاني 2022، أن 82% من مواطني بلاده يفضّلون النظام الرئاسي، في النتائج التي كشفت عنها الاستشارة الوطنية الإلكترونية.
وقال: "89% من المواطنين ليست لديهم ثقة بالقضاء، و81% يؤيدون أن الدولة هي التي تتولى تنظيم الشؤون الدينية". ومضى سعيد مؤكداً: "هذه الأرقام ليست مزيفة، ولم يضعها أشخاص من مكاتب أو جهات".
تضمنت الاستشارة ثلاثين سؤالاً، وكان تعديل دستور 2014 والقانون الانتخابي الحالي من بين أبرز المسائل التي سيتضمنها الاستفتاء.
لم يُخفِ الرئيس التونسي رغبته في السيطرة على كل السلطات، بما فيها القضائية والبرلمانية، حيث قال إن مبدأ الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو بشأن الفصل بين السلطات ليس وحي من الله.
وقام قيس سعيد بفصل عدد من القضاة.
لا مساعدات من الخليج وأمريكا تقلل دعمها
لم تصل المساعدات المالية من دول الخليج، التي ألمح إليها سعيد وحكومته منذ يوليو/تموز 2021، ويبدو أن واشنطن ضغطت عليهم للتأجيل لتفادي تعزيز موقف سعيد، حسب تقرير لموقع SWP البحثي الألماني.
كما خفضت الولايات المتحدة دعمها بسرعة كبيرة، وأعلنت عن خفض مساعدتها العسكرية إلى النصف، في أبريل/نيسان 2022. كما أرسلت واشنطن إشارات دبلوماسية واضحة، حيث حذف وزير الخارجية أنطوني بلينكين تونس من رحلته إلى المغرب العربي، في نهاية مارس/آذار 2022.
ولن تقدم ألمانيا دعماً للاقتصاد الكلي حتى يتم تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي.
من ناحية أخرى، دفع الاتحاد الأوروبي 300 مليون يورو من المساعدات المالية الكلية، في نهاية مايو/آذار 2022. ولم تتم الموافقة على البرنامج الجديد، الأكثر سخاء، ومدته سبع سنوات حتى خريف 2022. جارة تونس كما قدمت الجزائر دعماً كبيراً للميزانية.
برنامج اقتصادي عفى عليه الزمن، والحكومة تراهن على قرض صندوق النقد
أظهر سعيد القليل من الاهتمام أو المعرفة بالأمور الاقتصادية. قراراته في هذا المجال عفى عليها الزمن، ومركزية: حملات ضد المضاربين المزعومين، والعفو في قضايا الفساد، وتعزيز التعاونيات، لكنه لم يتقدم بأية خطوات لمنع تونس من الانزلاق نحو التخلف عن السداد، حسب الموقع الألماني.
وتأمل الحكومة في الحصول على قرض حجمه أربعة مليارات دولار من خلال محادثات من المقرر أن تبدأ في غضون أسابيع مع صندوق النقد الدولي، وذلك مقابل إصلاحات تشمل تجميد زيادة الأجور. وقالت وزيرة المالية إن تونس قد لا تتمكن من سداد ديونها من دون تنفيذ الإصلاحات.
وتتضمن خطة الإصلاح الحكومية ومراجعة سياسة دعم بعض المواد الأساسية، وإعادة هيكلة شركات عامة تمر بوضع مالي.
ورحب صندوق النقد الدولي في بيان صدر مؤخراً ببرنامج الإصلاحات الاقتصادية الذي أعلنته الحكومة التونسية هذا الشهر، مضيفاً أنه جاهز لبدء مفاوضات مع تونس في الأسابيع المقبلة حول برنامج قرض.
معارضة شعبية للخطة
لكن خطة الإنقاذ قوبلت بمعارضة الاتحاد العام التونسي للشغل، القوي التأثير، والذي جاهر برفضه الإصلاحات وشل تونس بإضراب في 16 يونيو/حزيران، وتعهد بمزيد من الخطوات.
وشدَّد الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي، في تصريح للصحفيين، على أن الحكومة الحالية لا تمتلك الشرعية "لفتح النقاش في الإصلاحات".
ولم يتخذ الاتحاد العام التونسي للشغل موقفاً بعد بشأن الاستفتاء، لكن أمينه العام نور الدين الطبوبي دعا إلى "نظام مدني جمهوري يوجد فيه فضاء مفتوح للجميع، نعبر فيه جميعاً عن إرادتنا. لا نريد العودة إلى العصور الوسطى والعصور الحجرية".
وكان لافتاً أن بيان صندوق النقد الدولي أكد أهمية زيادة توضيح السياسات والإصلاحات المحددة ومناقشتها مع جميع أصحاب المصلحة، حتى يتحدوا حول برنامج الحكومة ويُسهموا في هذا الجهد، وذلك في إشارة على ضرورة الحوار مع القوى السياسية والمجتمع المدني مثل الاتحاد العالم للشغل.
المعارضة تحاول حماية نفسها
وبالنسبة لخصوم سعيد، ومن بينهم حزب النهضة الإسلامي، فإن الاستفتاء بصدد تسديد ضربة أخرى لهم على ما يبدو. وباتوا منذ العام الماضي في وضع دفاعي، كل ما تمكنوا من فعله خلاله هو التنديد مراراً بتحركات سعيد، باعتبارها انقلاباً، دون أن يمتلكوا القدرة على مواجهته.
ومما زاد التكهنات بأن الدستور الجديد سيقوض صلاحيات البرلمان والقضاء، قال سعيد إنه سيحدد "الوظائف" وليس "السلطات"، ما يشير إلى تقليص نفوذ كلتيهما.
كما ألمح إلى تغييرات في الصياغة فيما يتعلق بدور الإسلام، وتحديداً بخصوص عبارة طالما ارتكن إليها الإسلاميون، تعرف الإسلام على أنه دين الدولة، لتحل محلها عبارة تقول إن الإسلام هو دين "الأمة".
وبعد عام 2011، انتقلت حركة النهضة، التي كانت المحظورة في عهد بن علي، إلى مقاعد السلطة. لكنها الآن ترى مؤشرات أولية على شن نظام سعيد حملة قمع أمنية، وهو تحرك يخشاه معارضو الرئيس منذ فترة طويلة، لكنه لم يحدث بشكل كبير.
واحتُجز رئيس الوزراء السابق حمادي الجبالي، الذي كان عضواً في حركة النهضة، لمدة أربعة أيام، في يونيو/حزيران، بسبب ما قال محاميه إنها اتهامات بغسل أموال، في حين قال الجبالي إن الاعتقال له دوافع سياسية.
كما احتج قضاة على إقالة سعيد عشرات القضاة المتهمين بالفساد وبحماية إرهابيين مزعومين.
وقال علي العريض، رئيس وزراء سابق وقيادي بحزب النهضة، لرويترز "تونس كانت بالفعل في أزمة العام الماضي"، لكن مع "انعدام الديمقراطية" وتفاقم الفقر والتضخم "نحن في كارثة الآن".
ما حقيقة موقف الاتحاد العام للشغل من الأزمة؟
وتأمل المعارضة التونسية في أن يقود التحرك ضد إنهاء سعيد للديمقراطية التونسية، الاتحادُ العام التونسي للشغل.
لكن هناك مؤشرات على أن الاتحاد وغيره من النقابات قد تختار بدلاً من ذلك التركيز أكثر على تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية، أحد المطالب المركزية لإضرابها العام، في منتصف يونيو/حزيران 2022، هو جعل الحكومة تتفاوض بشأن زيادة الأجور.
منذ البداية كان موقف الاتحاد متذبذباً تجاه إجراءات سعيد، حيث أيد كثير منها واعترض على أخرى، لأنه من الواضح أن الاتحاد الذي يسيطر عليه اليسار كان يرى في الإجراءات فرصة لتهميش الإسلاميين وحلفائهم الذين كانوا يسيطرون على البرلمان.
ولكن مع توسيع سعيد لسلطاته، وعزمه إبرام اتفاق مؤلم مع صندوق النقد، بدأ الاتحاد العام للشغل يتحرك.
ماذا سيكون موقف أوروبا وأمريكا؟
أثارت تحركات سعيد القلق في الغرب، الذي كان ينظر إلى تونس على أنها النموذج الناجح الوحيد للربيع العربي، الذي أفضت انتفاضاته في أماكن أخرى إلى صراعات وتجدد حملات القمع.
ترى تقارير المؤسسات البحثية الغربية أنه لم يعد هناك أي شك في أن الرئيس التونسي قيس سعيد يقود البلاد لنظام سلطوي.
أعرب الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه عن قلقهم بشأن التطورات، منذ 25 يوليو/تموز 2021، لكنهم لم يبدوا أي مؤشر على أنهم يرون أنفسهم أطرافاً يمكنها اتخاذ إجراءات.
تعود التحفظات الأوروبية على ربط المساعدة المالية بشكل صريح بالحفاظ على الديمقراطية في البلاد، إلى مخاوف من أن يتحول الرئيس التونسي بدلاً من ذلك إلى جهات فاعلة غير غربية، مثل الصين أو دول الخليج أو روسيا، أو حتى إيران. في الواقع، يُظهر سعيد القليل من التعاطف مع الغرب. كان على شركائه الغربيين أن يعملوا بجد لإقناعه بدعم قرار الأمم المتحدة الذي يدين روسيا لغزوها أوكرانيا.
كانت الولايات المتحدة أكثر وضوحاً في دعم الديمقراطية التونسية، ولكن خلال الأشهر الأخيرة تراجع اهتمامها الذي بات ينصبّ بشكل أساسي على الأزمة الأوكرانية ومشكلات الوقود والتضخم.
يبدو الغرب قلقاً من الضغط على سعيد، في اتجاه الديمقراطية، خوفاً من تحوله للصين أو دول الخليج، كما أن هناك شعوراً بأن القوى الديمقراطية والمجتمع المدني قد ترفض شروط صندوق النقد الدولي القاسية، ولذا قد يكون البعض في الغرب يفضل إبرام اتفاق مع سعيد حتى لو أصر على توسيع سلطته.
وفي الوقت ذاته، فإن مثل هذا الاتفاق من شأنه دفع القطاعات الشعبية التي كانت محايدة حتى الآن في الصراع للانحياز للمعارضة.
كما أن اقتصار الإصلاحات الاقتصادية على جوانب تقليل الإنفاق قد يعني أن تأثيرها سيكون محدوداً، في ظل غياب رؤية كاملة لدى سعيد في المجال الاقتصادي.
فمن دون توافق من القوى السياسية والمجتمع المدني، فإن البلاد مرشحة إما لانهيار اقتصادي أو محاولة تنفيذ خطة اقتصادية تزيد الضغوط على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بطريقة قد تؤدي لحدوث اضطرابات.