أزمة أوكرانيا كانت بمثابة هدية انتخابية لزعماء الدول الغربية، وفرصة لتقديم أنفسهم بمظهر القادة الأقوياء أمام شعوبهم، ولكن مع مرور الوقت يخشى البعض أن تتحول الحرب للعنة انتخابية لهؤلاء الزعماء.
عندما اجتمع زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (G-7) في جبال الألب البافارية بألمانيا، لالتقاط صورة جماعية بعد يوم طويل من الاجتماعات، بدا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون متحمساً في هذه الصورة، كما لو كانت القمة التي استمرت ثلاثة أيام مغامرةً جامحة نظَّمها الحلفاء طلباً للمتعة، حسب وصف تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وبدا التهكم على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة السبع من قبل القادة، كأنه محاولة للتغطية على الهوان والعجز السياسي داخل بلاده، وهو ما يشي بأن جونسون ربما لن ينال من المتعة التي طلبها سوى التمني.
قادة أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا مهددون في عقر دارهم
تراجعت نسب التأييد للرئيس الأمريكي بايدن، وهو معرَّض لخسارة كبيرة محتملة في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني. وانتصر الرئيس الفرنسي ماكرون في حملته الانتخابية الأخيرة، لكنه ما لبث أن فقد السيطرة على البرلمان وسط مكاسب غير مسبوقة لليمين المتطرف وتقدم بارز لليسار. أما المستشار الألماني شولتس، الذي ما زال يكافح ليكسب موطئ قدم لنفسه بعد حلوله مكان المستشارة المخضرمة أنجيلا ميركل، فإنه يواجه انتقادات حادة في بلاده تصفه بأنه زعيم متردد يتعذر فهمه أو الإحاطة بما يفعل.
على المنوال ذاته، تراجعت نسب تأييد جونسون بعد الكشف عن أنه وموظفيه انتهكوا قواعد الإغلاق المرتبطة بجائحة كورونا وأقاموا حفلات في مقر إقامته. وهو أول رئيس وزراء بريطاني تغرِّمه السلطات وهو في المنصب. بالإضافة إلى ذلك، صوَّت 41 % من زملائه في حزب المحافظين لإزاحته في تصويت لحجب الثقة هذا الشهر، واستقال رئيس الحزب.
تعددت الأزمات التي يُجابهها كل واحد من الزعماء الأربعة، إلا أن خطراً مطابقاً يتهددهم جميعاً: صعود الشعبوية على أكتاف الاضطراب الذي ضرب الاقتصاد العالمي، والحصار الذي اشتدت وطأته على المؤسسات الدولية، والحرب المهلكة التي أشعلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بوتين يراهن على أن إطالة الحرب سوف تضعف قادة الدول الغربية داخلياً
يقول دبلوماسيون حاليون وسابقون إن من الصعوبة بمكان أن يحافظ هؤلاء الزعماء على هدفهم الموحد بدعم أوكرانيا بقوة في ظل هذا التداعي الذي ينال من استقرار بلادهم الداخلي.
ويراقب بوتين هذا كله، والغالب أنه يعوِّل على مرور الوقت لبلوغ غايته، و"ربما يرى بوتين نفسه أحسن حالاً إذا آلت حربه إلى صراع طويل مع فرنسا مشتتة، وأمريكا منقسمة، وألمانيا مجهولة المسلك"، حسبما يقول ريتشارد هاس، الدبلوماسي المخضرم ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
يقول تيم بيل، أستاذ السياسة في جامعة كوين ماري في لندن: "من الواضح أن جونسون فقد التأييد لسلطته في الوطن"، فدعم أوكرانيا ما زال يحظى بشعبية واسعة النطاق لدى البريطانيين، وهو ما أعطى جونسون، والزعماء الآخرين، قضية جديرة بالدفاع عنها على الصعيد العالمي. ومع ذلك، فإن الأمر متقلب، وقد يطول الأمد بتلك الحرب، فتصبح في وقت ما عبئاً سياسياً، لا يُرى منه إلا ارتفاع الأسعار ونقص الوقود. ويبدو أن الزعماء الغربيين واعون لهذا الخطر.
فكلما ارتفعت التكاليف السياسية والاقتصادية، ازدادت إدارة السياسة الداخلية صعوبةً، وهذا ما يعتمد عليه بوتين، حسبما قالت هيذر كونلي، رئيسة صندوق مارشال الألماني.
وتضيف قائلة: "وهكذا، فإنه كما يجدر بهؤلاء القادة أن يزوروا كييف ويساعدوها، فإنهم مطالبون أيضاً بتوضيح الأمور لجمهورهم وحشد التأييد الشعبي في الداخل، ولا شك في أن الحفاظ على هذا التوازن أمرٌ بالغ الصعوبة من الناحية السياسية".
ماكرون العاجز في الداخل يرفض تعزيز العقوبات على النفط الروسي
فقد ماكرون أغلبيته البرلمانية المطلقة هذا الشهر بفارق واسع، حتى وصف رئيس وزرائه المشهد الحالي للحكم بأنه "غير مسبوق" و"خطر على بلادنا". ومع أن ماكرون قال إنه عازم على تشكيل أغلبية جديدة له في البرلمان بحلول أوائل يوليو/تموز، فإنه من غير الواضح بعد ما إذا كان قادراً على إقناع عدد كافٍ من نواب المعارضة بدعمه.
بات ماكرون في حالة يوصف معها بالرجل العاجز سياسياً في وطنه، إلا أن ذلك لم يحبسه عن الإدلاء برأيه في بعض المسائل التي تناولتها اجتماعات مجموعة السبع، فقد خالف الاقتراح الأمريكي بالتوصل إلى إجماع بين كبار مستوردي النفط (لتقليص سقف أسعار صادرات النفط الروسية)، وحثَّ بدلاً من ذلك على التفاوض من أجل اتفاق مع الدول المنتجة للنفط.
وجونسون يواجه تمرداً داخلياً ومواجهة محتملة مع الاتحاد الأوروبي
وفي بريطانيا، يواجه مكتب رئيس الوزراء جونسون سلسلة من العواصف المتوالية، أبرزها التمرد على حكومته من داخلها، والمعركة الوشيكة مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية، علاوة على تباطؤ النمو الاقتصادي.
بلغ معدل التضخم في بريطانيا أكثر من 9%، وهو أعلى معدل بلغه التضخم في البلاد منذ 40 عاماً. ومثلما تتأهب الولايات المتحدة لركود محتمل، وتستعد فرنسا لموجة جديدة من احتجاجات "السترات الصفراء" على سوء الأوضاع الاقتصادية، فإن بريطانيا قد تكون في سبيلها إلى موجة من الإضرابات العامة هذا الصيف، والتي بدأت بوادرها تظهر مع تزايد الاضطرابات العمالية.
وشولتز متهم بالبطء والارتباك
أما في ألمانيا، فإن تعامل شولتس مع أزمة أوكرانيا لم يجتمع له التأييد العام الذي اجتمع لنظرائه في القوى الغربية، وقال منتقدون له إن سياسته جاءت مرتبكة، وإنه تباطأ في تسليم أسلحة ثقيلة إلى الأوكرانيين.
كانت الدروب السياسية لشولتس وعرة دائماً، فقد حلَّ محل زعيمة أسطورية مثل ميركل، وقد كانت تحظى بشعبية واسعة في العواصم الأجنبية ويُنظر إليها على أنها القائد الفعلي لأوروبا. لكن أداء شولتس في الأشهر الستة الأولى من توليه المنصب عززت من الانتقادات بأنه ليس أهلاً لهذه الوظيفة.
كما تواجه ألمانيا أكثر من غيرها من الدول الغربية خطر التعرض لأزمة طاقة كبيرة جراء اعتمادها بنسبة كبيرة على الغاز الروسي.
في الوقت الذي كان فيه شولتس يستضيف اجتماع مجموعة السبع هذا الأسبوع، وصلت أول شحنة أسلحة ثقيلة تُسلمها ألمانيا إلى أوكرانيا. لكن المستشار الألماني ما زال مُطالباً ببذل المزيد لدعم أوكرانيا، وقد زادت هذه المطالب إلحاحاً مع تواصل الخسائر الأوكرانية في ميدان المعركة، وبلغ الأمر أن تعالت أصوات الزعماء السياسيين في ألمانيا بالسؤال عن الأسباب التي تحجز شولتس عن تعزيز دعمه.
مراهنة بايدن على أزمة أوكرانيا لزيادة شعبيته قد تفضي لنتيجة عكسية
في الولايات المتحدة، يتعرض بايدن للهجوم من جبهات عدة، وللأسباب ذاتها التي يعانيها رفاقه في أوروبا، فقد فاقمت الحرب الروسية من التضخم وزادت الصعوبات السياسية في الداخل. ومع أن كثيراً من الأمريكيين يؤيدون بشدة مساعدة أوكرانيا، فإن استطلاعات الرأي تشير أيضاً إلى تصاعد القلق العام من الاضطراب الاقتصادي.
قد يواجه بايدن وحزبه الديمقراطي خسائر فادحة في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس نوفمبر/تشرين الثاني، ويذهب سياسيون من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى أن الحزب الديمقراطي أقرب إلى خسارة السيطرة على مجلس النواب، وربما مجلس الشيوخ أيضاً.
لطالما لجأ الرؤساء الأمريكيون إلى تعزيز مكانتهم في الخارج لصرف الأنظار عن أزماتهم السياسية في الداخل. وفي هذا السياق، تأتي زيارة بايدن المقررة إلى إسرائيل والسعودية بعد أسابيع قليلة من رحلته الحالية إلى أوروبا، باحثاً فيها عن بعض الإنجازات الدبلوماسية.
هل يلجأون لتخفيف الحصار على روسيا لتقليل التضخم؟
"الزعماء في معظم هذه البلدان لديهم فسحة أكبر بكثير من التحرك في السياسة الخارجية عما هو عليه الحال في السياسة المحلية. ومن ثم، فإن ماكرون وجونسون، وحتى بايدن في هذا الصدد، يمكنهم الحفاظ على المسار العام لسياستهم الخارجية"، حسب هاس، الدبلوماسي المخضرم من مجلس العلاقات الخارجية.
لكن مايكل ماكفول، السفير السابق لدى روسيا في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حذَّر زعماء الدول الغربية من التهاون مع موسكو، والانصراف عن العقوبات للسيطرة على التضخم.
وقال ماكفول: "يظن بعض السياسيين [من الحزب الديمقراطي الأمريكي] أن الأمر مقايضة، إما هذا وإما ذاك، وأن علينا التركيز على التضخم الآن وليس كسب الحرب. لكن هذا الاتجاه يستخف بالضرر الذي قد يلحق بالرئيس بايدن والحزب الديمقراطي نتيجة لذلك، فالأمر قد يبدو هزيمة لبايدن في أوكرانيا. وهكذا ستكون سردية الحزب الجمهوري عن حكم بايدن: (هزيمة في أفغانستان، وهزيمة في أوكرانيا، وضعف أمام الصين)، وهذه سردية لا يريدها بايدن لنفسه بطبيعة الحال".
وقد يؤدي انتصار روسيا في الحرب حتى ولو بثمن باهظ، مع استمرار الأزمات الاقتصادية في ضرب الاقتصاد العالمي إلى الإطاحة بقادة الدول الأربع من قبل شعوبهم عبر الصناديق، بينما قد يبقى بوتين في مقعده الوثير في الكرملين.