قبل شهرين فقط، بدا كما لو أن الرئيس إيمانويل ماكرون أكثر زعماء أوروبا سيطرة وشعبية، لكن الصورة انقلبت رأساً على عقب بعد الانتخابات البرلمانية، فكيف وضع الرجل فرنسا في مفترق طرق؟
صحيفة The Telegraph البريطانية تناولت القصة في تحليل عنوانه "كيف خلقت إخفاقات ماكرون فرنسا غير قابلة للحكم؟"، رصد كيف تحول ماكرون من "سيد أوروبا" إلى "بطة عرجاء" في أقل من شهرين، وما قد يعنيه ذلك لفترته الرئاسية الثانية.
فمع مغادرة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل منصبها، وفقدان خليفتها أولاف شولتز مصداقيته بسبب موقفه المتذبذب من الهجوم الروسي على أوكرانيا، كان الرئيس الفرنسي قادراً على أن يحظى لنفسه بلقب سيد أوروبا، بصورة مشروعة. فمن بين أولى الخطوات التي اتخذها في أعقاب إعادة انتخابه، جاءت مهاتفة الرئيس الروسي، مما جعله يبدو وسيطاً صادقاً.
ماكرون.. من جوبيتر إلى هيفيستوس!
لكن الخيلاء يسبق السقوط، وعوقبت غطرسة ماكرون بسرعة. فتجسد عدوه في هيئة هزيمة ساحقة خلال الانتخابات البرلمانية التي عُقدت الأحد 19 يونيو/حزيران، لتتركه مع برلمان معلق وحكومة أقلية في فرنسا لأول مرة منذ عقدين.
بعد أن حرم اليمين المتطرف واليسار المتطرف ماكرون من أغلبيته بصورة غير متوقعة، تبدو فرنسا الآن أقل استقراراً مما كانت عليه على مدى أجيال. ولا تقتصر المسألة على أن ائتلاف الرئيس لا يحوز سوى 254 مقعداً في الجمعية الوطنية الفرنسية، أي أقل بكثير من الوصول إلى أي أغلبية، بل إنه يمتد كذلك إلى الحقيقة التي تقول إنه لم يحصل على الكثير من التصويت التكتيكي الذي اعتمد عليه ماكرون لهزيمة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية.
وهذه المرة، حصل حزب التجمع الوطني الذي تتزعمه لوبان على 89 مقعداً، بينما حصل التحالف اليساري المختلط المعروف بـ"الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد (NUPES)"، الذي يقوده جان لوك ميلونشون، على 131 مقعداً. حصل حزب ماكرون على القليل من المقاعد، لدرجة أن ثلاثة وزراء فقدوا مقاعدهم.
تجلت الإهانة التي تعرض لها ماكرون عندما عرضت إليزابيث بورن، رئيسة وزرائه الجديدة، تقديم استقالتها هذا الأسبوع بعد أقل من شهر من توليها المنصب. صحيحٌ أنه رفض عرضها، لكن قليلين يشكون في أن هذه البيروقراطية السابقة الصارمة سوف تُستبدل في الوقت المناسب بشخصية تمتلك كاريزما أفضل.
والأرجح أن ماكرون، الذي بدأ مسيرته المهنية اشتراكياً، سوف يُجبَرُ على تعيين رئيس وزراء أكثر ميلاً لليمين المتطرف من أجل خطب ود الديغوليين، الذين يُعرفون الآن بـ "الجمهوريين". كان الرئيس الأخير الذي اضطر لتحمل "التعايش" مع حكومة معارضة هو فرنسوا ميتران في عام 1988، عندما كان ماكرون طالباً في المدرسة.
الحكم في فرنسا نظام رئاسي يعطي للرئيس سيطرة شبه كاملة على كافة النواحي التنفيذية في البلاد، ويجعله صاحب القرار الأول في قضايا السياسة الخارجية والأمن والقوات العسكرية، بالإضافة إلى السياسات الداخلية، لكن في حالة انتماء الرئيس لتيار سياسي وفوز تيار سياسي آخر بالأغلبية في الجمعية الوطنية أو البرلمان الفرنسي، تتقلص كثيراً صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الحكومة الذي ينتمي للأغلبية البرلمانية.
ومن هنا يأتي مصطلح "التعايش السياسي"، حيث يكون الرئيس مضطراً لأن "يتعايش" مع رئيس الوزراء المنتمي للأغلبية البرلمانية، وهو ما يعني ببساطة أن يكون الرئيس مجبراً على التخلي عن بعض من الوعود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، وربما أغلبها، أي أنه يصبح بمثابة البطة العرجاء سياسياً.
وقد يكون الجمهوريون قد تخبطوا في السباق الرئاسي، لكنهم لديهم في البرلمان الجديد أكثر من 60 نائباً. وبدون دعمهم، سوف يستحيل على ماكرون تمرير أي شيء من برنامجه التشريعي.
انتهى يومان من المحادثات المكثفة في قصر الإليزيه هذا الأسبوع بدون تشكيل حلف أو ائتلاف. رُفضت عروض ماكرون من جميع أحزاب المعارضة، بما في ذلك كريستيان جاكوب، زعيم الجمهوريين في البرلمان. وفي الوقت الراهن، تفضل قيادة الديغوليين البقاء في صفوف المعارضة.
وليس الاشتراكيون أقل تعنتاً، صحيحٌ أن حملتهم في التصويت انهارت، لكنهم لا يزالون يتمتعون بنفوذ في المؤسسة الفرنسية. لم ينس الاشتراكيون والجمهوريون ما فعله ماكرون لتحطيم منظومة الحزب التقليدية بدون أدنى فكرة عما يمكن أن يحل محلها. وفي واقع الأمر، كانت سياساتٌ أشد استقطاباً يهيمن عليها المتطرفون من طيفي اليمين واليسار، هي ما حلت محل هذه المنظومة. ولا يستطيع الوسط إذاً أن يصمد.
بينما كان يحاول ماكرون تشكيل ائتلاف، كان يخبر أصدقاءه بأنه لم يعد يُعرف نفسه بأنه "جوبيتر"، كبير الآلهة في الأسطورة الرومانية، بل إنه صار هيفيستوس، إله الحدادة في هذه الأساطير.
ظهر ماكرون الأربعاء 22 يونيو/حزيران ليلقي خطاباً على شاشات التلفاز، وفي خطاب مقتضب استمر لثماني دقائق فحسب، أقر ماكرون بـ "الانقسامات العميقة" في المجتمع الفرنسي وناشد مواطنيه بأن يكونوا مثل الألمان، الذين اعتادوا على التسويات والتفاوض وحكومات الائتلاف.
كان المغزى من الخطاب المتلفز تدشين عهد جديد أكثر توافقاً. غير أن القناع سقط عندما أصر الرئيس، الذي يُفترض أن يبدو متواضعاً، على أنه سوف يواصل مساعيه بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، مما يعني أنه سوف يفرض إصلاحاته عبر البرلمان على أساس تدريجي مخصص. كانت الرسالة واضحة: "بغض النظر عن الطريقة التي تصوتون بها، سوف تحصلون على ما هو جيد لكم"، من وجهة نظر ماكرون بطبيعة الحال.
لكن إرادة الفرنسيين لاحظت أن رئيسهم لا يزال لم يستوعب الرسالة الموجهة إليه: ومفادها أن ضَجَرَ المصوتين من غرور ماكرون برز في استطلاع رأي أُجري هذا الأسبوع، وأظهر أن ثلثي الناخبين يرون هزيمته انتصاراً للديمقراطية.
"لقمة العيش" المحرك الأول في فرنسا
بموجب بنود الدستور، لا يحق للرئيس أن يشارك في أي حملات تخص الانتخابات البرلمانية، لكن رؤساء فرنسيين سابقين أظهروا نشاطاً أكبر في دعم زملائهم الحزبيين، وغالبيتهم نجح في الظفر بأغلبية في الجمعية الوطنية.
قبل أيام من الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، بذل ماكرون جهداً كبيراً من أجل إقناع نظيريه الألماني والإيطالي للانضمام إليه في الصعود على متن قطار متوجه إلى العاصمة الأوكرانية كييف. وبينما أصر ماكرون سابقاً على أن بوتين لا يجب "إهانته"، يظهر الرئيس الفرنسي الآن في صور بينما يحتضن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فلعله كان يأمل أن ينتقل إليه بعض من نجومية نظيره الأوكراني. وإن كان هذا هو المغزى، فإن الحيلة أخفقت في إبهار النقاد الفرنسيين، الذين يرون أن باريس أقل تقديماً للدعم العسكري لكييف من لندن وواشنطن.
على الجانب الآخر، يمكن القول إن ماكرون نجح في استعادة كرامة الرئاسة في بلاده، وهو منصب تعرض للسخرية في ظل رؤساء مثل نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. فقد خدمته قدرته على ملاحظة التحركات الرمزية، على سبيل المثال رسالته البليغة إلى الملكة إليزابيث في احتفالات اليوبيل البلاتيني. لكن الرمزية لم تعد كافية بالنسبة لماكرون.
بعد 5 سنوات في منصب الرئيس، نسي ماكرون أن ما تحدد نتائج الانتخابات في نهاية المطاف هي قضايا لقمة العيش؛ إذ يميل الرئيس الفرنسي إلى نسيان الحقيقة الأعمق التي تُنطق في دوائر السياسة الفرنسية منذ أكثر من 4 قرون. فقد أعلنها الملك هنري الرابع، الذي كان براغماتياً بما يكفي لأن يبدل دينه كي يصير الملك: "لا أريد أن يكون هناك قروي في مملكتي فقيراً للغاية لدرجة أنه يعجز عن امتلاك دجاجة في وعائه كل يوم أحد".
وتعاني فرنسا حالياً من أزمة تكاليف معيشية تحتاج إلى سياسات نقدية ضاغطة، لكن تلك السياسات مرفوضة بشدة بين أغلبية الفرنسيين. وبعد أن أضاع سنوات من ولايته الرئاسية الأولى عندما عرقلت الجائحة إصلاحاته، يأمل ماكرون الآن أن يستخدم ولايته الثانية في الدفع ببرنامج التحرير الذي سيعيد التوازن إلى الاقتصاد، ويزيل الأعباء عن كاهل الشركات ويحفز العمال كي يتقاعدوا متأخراً. لكن آمال ماكرون صارت ركاماً الآن.
الأرجح أن الخطوة الساحقة سوف تأتي من جانب إصلاح نظام التقاعد، وهي مسألة تسببت بالفعل في خروج ملايين المحتجين إلى الشوارع في احتجاجات عيد العمال. إذ يريد ماكرون أن يرفع سن التقاعد من 62 إلى 65.
وما لا يساعده في مساعيه أن فرنسا كانت دائماً مجتمعاً منقسماً انقساماً عميقاً: بين الأغنياء والفقراء، وبين باريس والمحافظات والمناطق الإدارية من حولها، وكذلك بين المجموعات الدينية والعرقية. توضح دراسة للمؤرخ الألماني راينر زيتلمان أن فرنسا لديها مستوى أعلى بكثير من "الحقد الطبقي" من بريطانيا، مما يعني أن المصوتين أقرب إلى دعم الضرائب الجزائية على الأغنياء، أو أنهم أقرب حتى إلى الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على النخب الحضرية.
خلل الجمهورية الخامسة
كشفت انتخابات العام الحالي، مثل الانتخابات الأخرى على مدى الأعوام الـ15 الماضية، أيضاً عن أن الانقسامات بين الأقلية المسلمة، وهي أكبر جالية في أوروبا، وبين بقية فرنسا هي أعمق بكثير من أي وقت مضى. ولأول مرة، سوف تكون مارين لوبان قادرة على السعي وراء مطالبها الرامية إلى قمع أي إظهار معلن للهوية الإسلامية بوصفها زعيمة حزب كبير في البرلمان.
قد تكون العواقب محرضة. في مناظرتهما على التلفاز، اتهم ماكرون لوبان بأنها تثير "حرباً أهلية" بمقترحها الرامي إلى حظر الحجاب بالنسبة للمسلمين، ولكن في مناطق كبيرة من فرنسا العميقة، ولا سيما في الجنوب المطل على البحر المتوسط، تتفق الأغلبية معها، بحسب تحليل الصحيفة البريطانية.
يكمن أحد الأسباب التي تجعل فرنسا غير قابلة للحكم في أن ماكرون لم يتخل قط عن نفوره العميق من السلوكيات التي يعدها رجعية، التي تخص قطاعات كبيرة من السكان. فمن آن لآخر، يعبر عن ازدراء النخبة الباريسية العلمانية لمحافظات فرنسا الكاثوليكية.
يعود هذا الانقسام إلى الثورة الفرنسية عام 1789 على أقل تقدير، عندما ذُبح الفلاحون في فونديه. وعاد مرة أخرى في العصور الديكتاتورية لفرنسا الفيشية، ثم عاد مرة أخرى في حرب استقلال الجزائر في أعقاب الحرب العالمية الثانية. استطاع الجنرال شارل ديغول تجنب انقلاب عسكري، وهو الذي فرض تسوية دستورية جديدة صُممت لتعزيز سلطته.
برغم اتجاهاته اليسارية، يبدي ماكرون تبجيلاً لـ"الجنرال"، لكن الجمهورية الفرنسية التي ورثها لديها عيب رئيسي: إنها لا تسير على ما يرام إلا حينما يكون على رأسها رئيس قوي ذو قاعدة دعم عريضة.
لا تحل الخطابات البلاغية محل البسالة والإقدام في المعارك. في خطابه المتلفز في أعقاب الانتخابات حذر ماكرون، تحذيرا لم يخلُ من التنازل، من "المناورات السياسية" لأحزاب المعارضة داخل الجمعية الوطنية. لكنه لم يمكث طويلاً حين هبط من عليائه، حتى حلّق ثانية ليومين خلال قمم الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الصناعية السبع والناتو، مما يشير إلى أنه لم يبارح أوهام جوبيتر بشكل فعلي.
وبصرف النظر عن إعطاء انطباع بصورة غير حصيفة بأنه ينأى بنفسه بعيداً عن البلد الذي انتخبه، يبدو ماكرون قريباً على نحو خطير من حالة إنكار المخاطر التي تحوم حول سلطته الشخصية. وما يراه بدون أدنى شك بأنه ترْكَ الحلفاء والأعداء على السواء يعانون من أفعالهم، يراه شعبه كأنه ربان يتخلى عن سفينته.
يحمل ماكرون فكرة فريدة حول كسب الأصدقاء والتأثير على الناس: تجاهل المصوتين، وتنفير الخصوم، ورعاية الحلفاء. وإصراره على الإجراءات الجديدة الطموحة التي تستهدف التصدي للتغير المناخي في وقت وصلت فيه أسعار الوقود إلى مستويات قياسية، يعيد إلى الأذهان نظرية ماري أنطوانيت حول السياسات: إذا لم يجدوا الخبز، فليأكلوا البسكويت.
وقد تعلم ماكرون من احتجاجات حركة السترات الصفراء في 2018 و2019 أن فرنسا قادرة على الدخول في حالة فوضى بسرعة إذا أغلق مئات الآلاف الطرق وزحفوا نحو باريس.
تبدو باريس هادئة، نظراً إلى أن العائلات تستعد للمغادرة بأعداد كبيرة لقضاء العطلة في 7 يوليو/تموز. لكن الدلائل ليست جيدة. مثلما هو الحال مع بقية دول أوروبا وأمريكا، تعصف بفرنسا رياح اقتصادية غير مواتية، وليس لديها إلا سيطرة محدودة عليها. ولكن على عكس كثير من البلاد الأخرى، لدى الفرنسيين تاريخ طويل من احتجاجات الشوارع العنيفة، التي كلفت الحكام في كثير من الأحيان مناصبهم أو حتى كلفتهم حياتهم؛ إذ إن أرض الثورة تبدو غير قابلة للحكم أكثر من أي وقت مضى. فهل سيصمد ماكرون لخمس سنوات أخرى؟