يبدو أن الخوف من وقوع فضيحة تكنولوجية قد يكون هو سبب امتناع إسرائيل عن إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا، وليس التبرير الشائع بأن تل أبيب تتجنب تزويد كييف بهذه المنظومة لأنها لا تريد إغضاب روسيا.
وتعرضت إسرائيل للتوبيخ مراراً وتكراراً بسبب عدم مشاركتها بدورٍ نشط في الجهود الغربية لتسليح أوكرانيا ضد روسيا. وانتُقِدَت تحديداً بسبب حظرها بيع نظام دفاعها الصاروخي الشهير، القبة الحديدية، إلى أوكرانيا. وعُزِيَ الحظر بنسبةٍ كبيرة إلى المخاوف الإسرائيلية من إغضاب موسكو في خضم محاولتها لإخضاع أوكرانيا عسكرياً.
لكن هناك بعض الحسابات الأخرى التي قد تُبرر امتناع إسرائيل عن إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا، مرتبطة بخوفها من نتائج استخدام هذا النظام في المعارك بأوكرانيا، حسب ما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
سبب امتناع إسرائيل عن إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا ليس روسيا
أرجعت العديد من التعليقات قرار امتناع إسرائيل عن إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا وغيرها من الأسلحة إلى جهودها المبذولة لتجنب إغضاب روسيا، التي تتمتع بوجودٍ عسكري داخل سوريا. وتقول هذه الحجة إن إسرائيل بحاجة للحفاظ على الوفاق مع الكرملين إذا كانت تريد مواصلة شن غارات قصف دون مخاطر ضد الأصول العسكرية الإيرانية في سوريا. بينما فسّر محللون آخرون تردد إسرائيل بالإشارة إلى الصعوبات الفنية واللوجستية لشحن نظام الدفاع الجوي إلى أوكرانيا.
ولا شك أن هذه التفسيرات تحمل شيئاً من الصواب، لكن قد يكون هناك سببٌ آخر وراء عدم حماس قادة إسرائيل لرؤية القبة الحديدية في أوكرانيا، وهو مخاوفهم من أن تقنية القبة الحديدية ليست مضمونةً بالدرجة المعلنة، حسب المجلة الأمريكية.
فلقد احتفت صناعة الدفاع الإسرائيلية بالقبة الحديدية على أنها أيقونةٌ متفردة للابتكار التقني، وأضفت عليها مكانةً شبه أسطورية لأنها نجحت، حسب المفترض، في حماية الاحتلال من القذائف المتفجرة التي يطلقها الفلسطينيون من قطاع غزة.
هل نجحت القبة الحديدية في حماية الاحتلال؟ إليك ما تقوله الأرقام
ويُقاس نجاح القبة الحديدية حتى الآن باستخدام معيارين مترابطين: عدد المدنيين الإسرائيليين الذين قُتِلوا بالصواريخ، ومعدل اعتراض النظام للصواريخ.
ونسمع كثيراً أن القبة الحديدية أنقذت أرواحاً "لا تُحصى" من صواريخ قطاع غزة، لكن مقارنة أعداد ضحايا الاحتلال قبل وبعد نشر القبة الحديدية تكشف عن قصةٍ مختلفة.
إذ إن نسبة الصواريخ التي وصلت إسرائيل إلى عدد الضحايا المدنيين أثناء الحرب على غزة بين 2008 و2009، قبل نشر القبة الحديدية، بلغت 300 إلى 1. والأهم هو أن هذه النسبة ظلت ثابتة أثناء الحرب على غزة عام 2012، بعد نشر القبة الحديدية؛ ما يعني أن القبة الحديدية لم يكن لها أثرٌ كبير على معدلات الضحايا. ويرى ثيودور بوستول، الأستاذ الفخري بمعهد ماساتشوستس للتقنية، أن سبب انخفاض معدل الضحايا يرجع إلى منظومة الإنذار المبكر الإسرائيلية المذهلة وتواضع حجم الرؤوس الحربية التي يطلقها قطاع غزة. بينما كشفت الحرب على غزة عام 2014 أن أكبر تهديد لجيش الاحتلال ومدنييه لا يتمثل في نيران الصواريخ الفلسطينية، بل في القتال داخل المناطق الحضرية بين جنود الاحتلال ومسلحي المقاومة في غزة.
وقد يقول المدافعون عن القبة الحديدية إن سبب عدم تغير الأرقام الخاصة بنسبة عدد الصواريخ للضحايا مرتبط بتحسن قدرات الصواريخ الفلسطينية، وبالتالي لو لم تظهر القبة الحديدية مع تطور هذه الصواريخ نسبياً لزاد عدد الضحايا.
ولكن ثاني الإشكاليات المرتبطة بالقبة الحديدية هي مسألة نسبة إسقاطها واعتراضها للصواريخ.
حيث يقول مطورو القبة الحديدية إن نسبة نجاح النظام تصل إلى 90%. وبدأ هذا الرقم الضخم في التحول تدريجياً إلى حقيقة مقبولة. لكن خبراء الصواريخ أعربوا عن شكوكهم الكبيرة في مدى صحة هذا الادعاء. ويرى بوستول أن نسبة نجاح القبة الحديدية "لا تتجاوز 5%، أو ربما أقل". أما موتي شيفير، مهندس الفضاء المتخصص في اعتراض الصواريخ والحائز على جائزة الدفاع الإسرائيلية، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ووصف القبة الحديدية بأنها "خدعة، وليست أكثر من عرض صوت وضوء، ولا تستطيع اعتراض شيء سوى الرأي العام الإسرائيلي، وربما يمكنها اعتراض نفسها بالطبع. ولم يسبق لأي صاروخ من القبة الحديدية أن اصطدم بصاروخٍ واحد آخر على الإطلاق".
ولا عجب في أن القادة الإسرائيليين نفوا هذه المزاعم تماماً.
ولكن الأهم أن هذه النسبة أوقعت الإسرائيليين في معادلة خادعة؛ لأن فصائل المقاومة الفلسطينية تعمد في مواجهة هذه النسبة المزعومة لعمليات الإسقاط لإطلاق عدد كبير من الصواريخ، بعضها قليل التكلفة، وأغلبها تكلفته أقل من تكلفة اعتراضه من قبل القبة، وبالتالي فإن النتيجة وجود عدد هائل من الصواريخ التي تطلق في سماء مناطق الاحتلال، كما نراها في الصور، لدرجة أن نسبة الـ5 أو الـ10% التي تسقط من قبل القبة، تظل كبيرة بشكل يجعلها تمثل إزعاجاً للإسرائيليين، وتشل الحياة المدنية، وتدفع إسرائيل للتفكير في وقف إطلاق النار.
هل تستطيع مواجهة صواريخ روسيا المتطورة؟ ولماذا فشلت في إيجاد أي زبائن؟
ولكن حتى إذا استبعدنا النظرة السلبية إلى فعالية القبة الحديدية وقررنا الاقتناع برواية إسرائيل عن نجاح النظام، فنحن لا نعرف شيئاً عن مدى فاعليتها في مواجهة قوات روسيا الجوية التي تعمل بكامل طاقتها ومخزونها الواسع من الصواريخ المتطورة، التي يمكن إطلاقها من مختلف منصات الإطلاق.
وربما يفسر هذا الأمر تواضع نجاح القبة الحديدية على صعيد التصدير، رغم معدلات نجاحها المذهلة على أرض المعركة، حسب الأرقام الإسرائيلية.
إذ قال تقرير وكالة Reuters البريطانية عن النظام في 2014: "إن ظهور نظام أسلحة جديد ومتطور بنسبة نجاح 90% على أرض المعركة سينتج عنه في الوضع الطبيعي محاولة وكالات المشتريات الدفاعية العالمية الحصول عليه بشكلٍ عاجل، لكن القبة الحديدية لم تثبت نجاحها في صفوف المشترين حتى الآن".
وظل التقييم السابق على حاله بنسبةٍ كبيرة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.
الولايات المتحدة شريكة في المشروع ولكنها لم تشترِ سوى بطاريتين
وانتشرت تقارير إعلامية دورية على مدار السنوات الماضية حول اهتمام بعض الدول بالقبة الحديدية، لكنّ نجاحها على صعيد التصدير ظل محدوداً، أو لا وجود له فعلياً؛ إذ إن الولايات المتحدة التي شاركت في تمويل القبة الحديدية هي الوحيدة التي اشترت النظام ونشرته حتى الآن، لكنها لم تحصل سوى على بطاريتين كاملتين فقط رغم مزاعم كبار المسؤول الأمنيين الإسرائيليين باحتمالية شراء الجيش الأمريكي لـ"30 أو 40 بطارية".
وخير شاهد على عدم اهتمام الولايات المتحدة بالقبة الحديدية هو رفض الجيش الأمريكي شراء هذا النظام في البداية، حتى لو كان غرض الشراء هو نشره لحماية قواته في العراق وأفغانستان. ولا شك أن الهواجس الواضحة حول النظام خلقت انطباعاً عاماً بأن الجيش الأمريكي لم يرغب مطلقاً في الحصول على القبة الحديدية، وأن الكونغرس هو من فرض نظام الأسلحة على الجيش.
وأعلن الجيش الأمريكي أنه لن يشتري المزيد بعد حصوله على أول بطاريتين في نهاية المطاف، وأرجع السبب جزئياً إلى رفض إسرائيل تزويد الجيش الأمريكي بالشفرة المصدرية للقبة الحديدية. ومن المؤكد أن الشفرة المصدرية كانت ستكشف طريقة عمل التقنية (أو ربما فشلها). ولم تُستخدم القبة الحديدية لحماية "القوات الأمريكية من مختلف التهديدات الباليستية والجوية"، بل نشر الجيش الأمريكي إحداها في جزيرة غوام لتقضي غالبية وقتها في جمع الأتربة بدلاً من اعتراض القذائف المعادية.
علماً بأن طبيعة التهديدات التي كانت تواجهها القوات الأمريكية في أفغانستان، من الصواريخ الخفيفة الموجودة لدى طالبان، وكذلك التهديدات المحتملة للقوات الأمريكية في منطقة الخليج العربي من صواريخ وطائرات إيران المسيرة، تشبه في الحالتين أسلحة المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي يجعل نظام القبة الحديدية لو كان ناجحاً فعلاً، كما تقول إسرائيل، في مواجهة المقاومة الفلسطينية فإنها يجب أن تكون مناسبة للأمريكيين في أفغانستان والشرق الأوسط، خاصة من حيث ضآلة تكلفته مقارنة بالأنظمة الأمريكية، حسب المزاعم الإسرائيلية.
ولكن لا يبدو أن القبة الحديدية أثارت إعجاب الجيش الأمريكي، رغم أنها تمثل نظام دفاع جوي يُوصف بأنه "صاحب اليد الطولى".
كل الأنظمة الدفاعية تبدو عاجزة أمام الصواريخ
وليس هناك على أرض الواقع أي نظام دفاع صاروخي يستحق مثل هذا الوصف، بما في ذلك القبة الحديدية. وسيظل هذا الوضع قائماً حتى نشهد نقلةً تقنية هائلة تُحدث تغييراً نوعياً أساسياً في مجال الدفاع الصاروخي. وحتى ذلك الحين، يتفق كبار خبراء الأسلحة على أن كل الدول يجب أن تتعايش مع حقيقة إمكانية هزيمة أي نظام دفاع صاروخي بالعدد الكافي من الصواريخ ذات الكفاءة.
ورغم ذلك فإن خطابات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الناقدة لإسرائيل، بسبب القبة الحديدية، منحت العديدين انطباعاً مغلوطاً حول أنانية إسرائيل في منع أوكرانيا من الحصول على تقنية دفاعية يمكنها قلب موازين اللعبة؛ إذ تقول المجلة الأمريكية إن واقع الأمر أن نجاح تلك التقنية في تقديم مساعدةٍ كبيرة لأوكرانيا داخل ساحة المعركة هو أمرٌ مستبعدٌ تماماً.
حيث قال تال إنبار، المسؤول الإسرائيلي البارز في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، إن مطلب تصدير النظام إلى أوكرانيا "يرقى إلى كونه مطلباً نظرياً وحالماً من أوكرانيا"، وليس حلاً عملياً لمشكلتها. وأرجع إنبار أحد أسباب ذلك إلى مساحة الأراضي الأوكرانية الشاسعة. أما السبب الآخر على حد تعبيره فهو أن "القبة الحديدية لن تكون الحل في مواجهة الصواريخ الباليستية التي يستخدمها الروس".
ويعي المخططون العسكريون الإسرائيليون تماماً أن الأسطول الروسي المتنوع من الصواريخ المتطورة سيكشف كامل أوجه قصور سلاحهم الدفاعي، الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى مصدرٍ للفخر الوطني المزعوم والبراعة العسكرية؛ ما قد يزيد جرأة أعداء إسرائيل وخاصةً إيران، التي تمتلك برنامج صواريخ باليستية وجوالة مدمرة، ودقيقة، وبعيدة المدى؛ ما سيكون له تأثيره السلبي بالتبعية على قدرة الردع الإسرائيلية في مواجهة إيران وحلفائها.
ويبدو أن قادة إسرائيل خلصوا في الوقت الراهن إلى أنه من الأفضل أن تظل القبة الحديدية مُغلّفةً بالسرية للحفاظ على فعاليتها، بدلاً من كشف عيوبها بشحنها إلى أرض معركةٍ مشتعلة مثل أوكرانيا.