حمل بيان الدول الغربية الخمس، بشأن تحديد شرعية الحكومة الليبية والمؤسسات التي يحق لها قيادة العملية الانتخابية رسائل متباينة المعاني، إلى درجة دفعت حكومتي عبد الحميد الدبيبة، وفتحي باشاغا، المتنازعتين، إلى الترحيب به.
وحاول كل من الدبيبة وباشاغا قراءة نص البيان المشترك لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، من الجانب الذي يخدم وجهة نظر كل منهما ويدعم شرعيته.
ويعكس ذلك رغبة الدول الخمس في إمساك العصا من الوسط، وعدم حرق جميع أوراقها مع أي طرف.
فبينما أبدى الدبيبة ارتياحه "لتوافق البيان مع الموقف الأممي الذي حسم مسألة استمرار عمل الأطراف الليبية"، رحب باشاغا بفقرة تتحدث عن الدعوة إلى "حكومة ليبية موحدة، قادرة على الحكم، وإجراء الانتخابات في جميع أنحاء البلاد"، معتبراً أن حكومته هي من تتوفر فيها هذه الشروط.
الاعتراف بشرعية الدبيبة
مما لا شك فيه أن بيان الدول الغربية الخمس، الصادر في 24 يونيو/حزيران الجاري، حسم النقاش بشأن مطالبة باشاغا الأمم المتحدة بالاعتراف بحكومته، بحجة انتهاء المرحلة الانتقالية التي حددتها خارطة الطريق في 22 يونيو، وتأكيد الدبيبة عدم تسليمه السلطة إلا لحكومة منتخبة.
إذ أوضح البيان أن خارطة الطريق "حددت انتهاء المرحلة الانتقالية في 22 يونيو، بشرط إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، وهو ما لم يكن كذلك".
وهذا الموقف يعني شيئاً واحداً، الاستمرار في الاعتراف بشرعية حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة ورفض طلب باشاغا؛ لأن تاريخ انتهاء المرحلة الانتقالية مرتبط بإجراء الانتخابات بالضرورة.
وهذا الموقف يتماهى مع ما أعلنته الأمم المتحدة قبل ذلك، من رفضها "محاولات التلاعب السياسي" بخارطة الطريق.
فالموقف الأممي مدعوم بالدول الغربية الخمس المعنية بالملف الليبي، يؤكد استمرار اعترافها بشرعية حكومة الدبيبة.
وباستثناء مصر، لا يوجد أي دولة أخرى أعلنت عدم اعترافها بحكومة الدبيبة ابتداءً من 22 يونيو.
البحث عن حكومة جديدة
ورغم اعتراف الدول الخمس بشرعية حكومة الدبيبة دون مواربة، إلا أن هذا الاعتراف مؤقت، بحسب ما ألمح إليه البيان المشترك، عندما تحدث عن "الحاجة إلى حكومة ليبية موحدة، قادرة على حكم وإجراء هذه الانتخابات في جميع أنحاء البلاد".
وهذه الشروط لا تتوفر في حكومة الدبيبة؛ لأنها لم تعد تحظى بتوافق بين الشرق والغرب، خاصة بعدما منح مجلس النواب في طبرق حكومة باشاغا الثقة، بدعم من خليفة حفتر، قائد قوات المنطقة الشرقية.
وانحصرت سيطرة حكومة الدبيبة على العاصمة طرابلس، وأجزاء من المنطقة الغربية، ما يجعلها غير قادرة على إجراء هذه الانتخابات "في جميع أنحاء البلاد".
وهذا ما دفع باشاغا للقفز نحو هذه الفقرة، والتأكيد على أن حكومته المعنية بها؛ لأنه يحظى بدعم من الشرق والغرب، ويرى في نفسه القدرة على إجراء الانتخابات "في جميع أنحاء البلاد".
إلا أن جناحاً قوياً في المنطقة الغربية يضم كتائب عسكرية وأحزاباً سياسية وشخصيات لها ثقلها، ترفض قيادة باشاغا للبلاد، خاصة مع تحالفه مع حفتر، الذي شن عدواناً على طرابلس في 2019 و2020، خلّف آلافاً من الضحايا والكثير من المآسي.
وهذا ما يجعل باشاغا شخصية جدلية قد لا تنطبق عليها الشروط التي حددتها الفقرة السابقة لبيان القوى الدولية الخمس، ما يرجح أن البيان يلمح لإمكانية تشكيل حكومة جديدة ليس على رأسها لا الدبيبة ولا باشاغا.
ويدعم ذلك، رفض البيان "بشدة الإجراءات التي قد تؤدي إلى العنف، أو إلى مزيد من الانقسامات في ليبيا، مثل إنشاء مؤسسات موازية، أو أي محاولة للاستيلاء على السلطة بالقوة".
وفي هذه الفقرة إشارة واضحة إلى تشكيل مجلس النواب حكومة "موازية"، ومحاولة حفتر الاستيلاء على السلطة بالقوة سابقاً، أو سعي باشاغا لدخول طرابلس، وما تسبب ذلك في وقوع اشتباكات داخل العاصمة مع قوات الدبيبة.
لكن بيان القوى الغربية أشار أيضاً إلى رفضه الشديد لأي جهة ترفض "الانتقال السلمي للسلطة إلى هيئة تنفيذية جديدة، يتم تشكيلها من خلال عملية شرعية وشفافة".
وهذه الفقرة تحذير للدبيبة من عدم تسليم السلطة إلى أي حكومة جديدة يتوافق عليها مجلسا النواب والدولة مستقبلاً.
وليس بالضرورة أن تكون "الهيئة التنفيذية الجديدة" مقصود بها حكومة باشاغا، خاصة وأن خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، أول من طرح فكرة تشكيل حكومة مصغرة تتولى التحضير للانتخابات المقبلة، بديلاً عن حكومتي الدبيبة وباشاغا.
ويرى المشري أنه لا حكومة الدبيبة ولا حكومة باشاغا تستطيعان إجراء الانتخابات، وأنه مع الحكومة التي تستطيع إجراءها.
ومن المرجح أن تكون الدول الغربية وصلت إلى نفس الاستنتاج، خاصة أن البيان حثّ القادة السياسيين على الانخراط بشكل بنّاء في المفاوضات برعاية أممية "للخروج من المأزق التنفيذي، والاتفاق على مسار للانتخابات".
فتصارع حكومتَي الدبيبة وباشاغا على الشرعية سمَّاه الغرب "المأزق التنفيذي"، والحل برأيه في المفاوضات بين المشري وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في طبرق، والوفود التي تمثل المجلسين، للاتفاق على خارطة طريق جديدة نحو الانتخابات، لا يستبعد أن يتم خلالها تشكيل حكومة ثالثة.
تجديد الثقة بالمجلسين
في الوقت الذي يتهم سياسيون وناشطون ليبيون أعضاء مجلسي النواب والدولة بالفشل في التوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة من أجل البقاء في مناصبهم ويدعون بعضهم إلى مظاهرات لإسقاطهم، جدد بيان الدول الخمسة ثقته بالمجلسين لصياغة خارطة الطريق المقبلة.
إذ دعا البيان "مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وقادتهما إلى الانتهاء بشكل عاجل من الأساس القانوني، حتى يمكن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ذات مصداقية وشفافة وشاملة، في أقرب وقت ممكن".
وهذه الدعوة تأتي بعد إخفاق لجنة المسار الدستوري التي تضم وفدي المجلسين من التوصل إلى اتفاق في الجولة الثالثة والنهائية التي عقدت بالقاهرة بين 12 و19 يونيو.
ومع ذلك أشاد البيان المشترك "بالتقدم المحرز" في المحادثات، ورحب "بدرجة التوافق التي تم التوصل إليها حتى الآن بشأن الاتفاق".
حيث من المرتقب أن يجتمع المشري وعقيلة، في جنيف برعاية المستشارة الأممية ستيفاني وليامز، يومي الثلاثاء والأربعاء، لبحث المسار الدستوري، بعدما فشل اجتماعهما في القاهرة، لرغبة رئيس مجلس النواب في فتح النقاش حول الملف التنفيذي (الحكومة).
وقد تكون هذه الفرصة الأخيرة لوليامز، لتحقيق اتفاق جديد بين الرجلين، خاصة مع ضغوط دولية على الأمين العام الأممي أنطونيو غوتيريش، لتعيين مبعوث أممي جديد إلى ليبيا، حتى لا يبقى هذا المنصب شاغراً.
وبينما أبرز "بيان الخمس" تقديره لدور وليامز، لم يتضح بعد إن كان ذلك تمسكاً بها ودعماً لها أو رسالة وداع لقرب انتهاء مهامها.
فالدول الغربية الخمس، التي تحاول التحدث بلسان المجتمع الدولي، تجدد اعترافها بحكومة الدبيبة، دون أن تمنحه صكاً على بياض، بل تحذره من التمسك بالسلطة إن توافق مجلسا النواب والدولة على حكومة جديدة، ليست بالضرورة حكومة باشاغا، التي يرفضها جناح قوي في المنطقة الغربية.