مصر من بين أكثر دول المنطقة العربية تأثراً بتبعات الهجوم الروسي على أوكرانيا، فكيف تتعامل مع ضغوط أمريكا، الحليف الاستراتيجي، كي تنضم للتحالف الغربي ضد روسيا؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه غزو، قد تسبب في عودة أجواء الحرب الباردة رسمياً إلى الساحة السياسية الدولية، وسعت الولايات المتحدة إلى محاصرة روسيا سياسياً واقتصادياً، وهو ما وضع كثيراً من دول العالم في مأزق حقيقي.
إذ إن روسيا دولة كبيرة تتمتع بعلاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية مع كثير من دول العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، وقطع تلك الدول علاقاتها مع موسكو استجابة للضغوط الأمريكية قد يكون قراراً مكلفاً للغاية.
مصر حليف استراتيجي لأمريكا في الشرق الأوسط
تتمتع مصر بعلاقات تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة منذ عام 1979، بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل برعاية واشنطن، والقاهرة هي ثاني أكبر الدول المتلقية للمعونات العسكرية والاقتصادية الأمريكية بعد تل أبيب.
لكن السنوات الأخيرة شهدت طفرةً كبيرةً في العلاقات المصرية مع روسيا، وأصبحت علاقة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين قوية للغاية، وباتت موسكو من الداعمين الكبار للقاهرة، ومحطة الضبعة النووية التي تبنيها روسيا في مصر بقرض كبير، أحد أوجه هذا الدعم.
وقبل أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا كان الاقتصاد المصري يعاني بشدة، جراء تداعيات جائحة كورونا، والضغوط الكبيرة التي أصبحت خدمة الديون الخارجية والداخلية تمثلها على الموازنة العامة للدولة، لكن الأوضاع ازدادت تدهوراً منذ أواخر فبراير/شباط، عندما بدأت الحرب، ورغم ذلك فإن مصر، حليفة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لا تزال تحافظ على "علاقات دافئة" مع روسيا، بحسب تحليل لصحيفة New York Times الأمريكية.
وانطلق تحليل الصحيفة من منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، الذي استضافته روسيا في الفترة من الأربعاء 15 يونيو/حزيران، وحتى السبت 18 يونيو/حزيران الجاري، وشهد إلقاء السيسي خطاباً عبر تقنية الفيديو، يبدو أنه أغضب الإدارة الأمريكية، رغم عدم صدور تعليقات علنية حول الأمر.
ورصدت نيويورك تايمز كيف أن مصر، منذ عام 1979، كانت شريكاً مهماً في الشرق الأوسط للولايات المتحدة، عندما انفصلت القاهرة عن موقف الدول العربية، وقررت توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل.
واعتبرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مصر، ذات الموقع الاستراتيجي على حدود إسرائيل، والتي تتمتَّع بالسيطرة على قناة السويس، مفتاحاً للحفاظ على الاستقرار ومكافحة الإرهاب في المنطقة، بحسب تحليل الصحيفة الأمريكية.
وقدمت الحكومة الأمريكية مساعدات بمليارات الدولارات لمصر، ونادراً ما كانت تلك العقوبات تتأثر بالأحداث حتى هذا العام، عندما حجبت إدارة الرئيس جو بايدن 130 مليون دولار، بسبب مخاوف بشأن سجل حقوق الإنسان لنظام السيسي.
لكن حتى إدارة بايدن، الذي كان قد وصف السيسي بأنه "ديكتاتور ترامب المفضل"، سرعان ما تغاضت عن ملف حقوق الإنسان، وأعادت علاقاتها مع القاهرة إلى مستوياتها شبه الطبيعية، بل إن إدارة بايدن أعادت تفعيل الحوار الاستراتيجي مع مصر، وهو الحوار الذي كانت إدارة بيل كلينتون، الرئيس الأسبق، قد بدأته، ولم ينعقد أبداً طوال رئاسة دونالد ترامب، رغم العلاقات القوية بين ترامب والسيسي.
علاقات مصر وروسيا "قوية" أيضاً
لكن مصر كانت صديقة لروسيا قبل فترة طويلة من تحسن علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولا تزال القاهرة تحتفظ بعلاقات مهمة مع موسكو، وخاصة منذ تولي السيسي المسؤولية. وخلال السنوات الأخيرة، نحو ثلث السائحين الذين يأتون إلى مصر هم من الروس، علماً أن السياحة تمثل أحد أهم مصادر الدخل المصري، مع قناة السويس.
لكن ربما تكون محطة الطاقة النووية في الضبعة، والتي تبلغ تكلفتها 26 مليار دولار مقدمة كقروض من روسيا، تمثل أحد أبرز مستويات التعاون بين البلدين، علاوة على أن الكثير من القمح الذي تستورده مصر مصدره روسيا، بعد أن كان القمح الأمريكي يحتل المركز الأول بالنسبة للحكومة المصرية على مدى عقود.
والقمح تحديداً يمثل أزمة عنيفة لمصر تهدد الاستقرار فيها، بحسب مراقبين، إذ إن الخبز يمثل عنصراً رئيسياً على مائدة الغالبية العظمى من المصريين، وتقدم الحكومة الخبز المدعوم لأكثر من ثلثي عدد السكان، بحسب الإحصاءات الرسمية، وتسببت الحرب في أوكرانيا في تضاعف أسعار القمح عالمياً من جهة، ونقص حاد في المعروض من جهة أخرى، حيث إن روسيا وأوكرانيا تمثلان معاً نحو 30% من تجارة القمح العالمية.
وفي كلمته عبر الفيديو لمنتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في روسيا، والذي حظيت فيه مصر بوضع "دولة ضيف"، قال السيسي إن "مصر تعتز بعلاقات الصداقة التاريخية الوطيدة مع روسيا الاتحادية".
"منتدى هذا العام يُعقد في ظل ظروف وتحديات سياسية واقتصادية غير مسبوقة، ونأمل أن تسهم مخرجات المنتدى في إيجاد الحلول الفعالة بالشكل الذي يخفف وطأة الأزمة الاقتصادية العالمية، وتداعياتها السلبية"، أضاف الرئيس المصري، بحسب وكالة الأناضول.
وأكد السيسي أن "التصدي لهذه الأزمة يتطلب جهداً دولياً وتعاوناً من جميع الأطراف، من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، لا سيما حركة الملاحة البحرية وانتظام سلاسل الإمداد، خاصة المواد الغذائية كالحبوب والزيوت النباتية"، داعياً إلى "العمل على استعادة الهدوء والاستقرار على الصعيد الدولي، من أجل التخفيف من آثار هذه الأزمة الاقتصادية على الشعوب".
الانحياز لأحد الطرفين ليس "ممكناً" بالنسبة لمصر
منذ أن شنَّت روسيا هجومها على أوكرانيا، حاول الرئيس المصري تحقيق التوازن في علاقات بلاده بموسكو وواشنطن، رافضاً إدانة تصرفات روسيا بقوة كما طلبت الولايات المتحدة، بحسب تحليل نيويورك تايمز.
إذ إنه رغم أن مصر صوتت في مارس/آذار الماضي لصالح قرار للأمم المتحدة ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا تحت الضغط الأمريكي، فقد تحوَّطت القاهرة أيضاً من خطابها بشأن الحرب. واتصل السيسي ببوتين لإعادة تأكيد التزام مصر بالتعاون، بعد فترة وجيزة من تصويت الأمم المتحدة، وقالت مصر منذ شهور إنها ستحضر منتدى سان بطرسبورغ.
وفي خطاب السيسي للمنتدى، أشار إلى الهجوم باسم "الأزمة الروسية الأوكرانية"، وامتنع بشكل واضح عن توجيه أي لوم إلى روسيا، وقال إن مصر تعطي الأولوية لـ"لغة الحوار والحلول السلمية".
كما يميل الرأي العام المصري نحو روسيا بشكل واضح، وإن كان ذلك ليس أمراً ينفرد به المصريون، بل هذا هو الاتجاه العام بين شعوب الشرق الأوسط، ويسعد الكثير من المصريين برؤية روسيا تتحدى الولايات المتحدة وحلفاءها، ويرجع ذلك جزئياً إلى الاستياء العميق المستمر من الغزو الأمريكي للعراق ودعم الغرب لإسرائيل، التي تواصل قمع واضطهاد الفلسطينيين دون توقف.
لكن السياسات المصرية لم تمر مرور الكرام، ولاحظها الكثيرون في الولايات المتحدة، التي أبدت في الماضي استياءها من قرب مصر من روسيا، وهددت من قبل بفرض عقوبات على الصفقات المصرية لشراء طائرات روسية، بحسب تحليل الصحيفة الأمريكية.
تشير نيويورك تايمز في هذا السياق إلى قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (كاتسا)، الذي كان الكونغرس الأمريكي قد أقره، في يونيو/حزيران 2017، أثناء إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بهدف منع تركيا وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة من شراء أسلحة متطورة من روسيا.
وأصدرت إدارة بايدن عدة تحذيرات إلى القاهرة بشأن تطبيق عقوبات كاتسا عليها، إلا أن ذلك لم يمنع مصر من المضي قدماً وإتمام صفقة شراء 24 مقاتلة سوخوي-35 روسية متقدمة، من طراز Flanker-E مقابل ملياري دولار. وكانت القاهرة قد تسلّمت 5 من تلك المقاتلات بالفعل.
فهل مارست إدارة بايدن ضغوطاً على السيسي كي لا يلقي بذلك الخطاب أمام منتدى سانت بطرسبورغ؟ تحليل نيويورك تايمز لم يقدم إجابة قاطعة، إذ جاء فيه أنه "لم يتضح ما إذا كانت الولايات المتحدة قد مارست ضغوطاً على السيسي كي لا يتحدث في منتدى سانت بطرسبورغ".
من منظور مصر، لا يمكنها تحمل تدهور العلاقات مع أي من البلدين، خاصة في وقت يواجه فيه الاقتصاد المصري شبح الانهيار تحت وطأة ضغوط التضخم، وتراجع الاستثمار الأجنبي، ونضوب إمدادات القمح.
وأظهرت بيانات الشحن، منتصف يونيو/حزيران الجاري، أن واردات مصر من القمح الروسي ارتفعت بنسبة 84% في الفترة من مارس/آذار وحتى مايو/أيار الماضيين، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، رغم قول متعاملين إن ثمة تعقيدات تكتنف عمليتي الدفع والشحن، بحسب رويترز.
وباتت مصر، أحد أكبر مستوردي القمح في العالم، تعتمد بشدة على القمح الروسي والأوكراني في السنوات القليلة الماضية. وأظهرت بيانات الشحن أنه في الفترة من مارس/آذار إلى مايو/أيار هذا العام، حين توقفت الواردات من أوكرانيا، استوردت مصر 1056290 طناً من القمح من روسيا، مقارنة مع 573213 خلال الفترة نفسها من 2021.
الولايات المتحدة وحلفاؤها على الجانب الآخر يجادلون بأن الهجوم الروسي على أوكرانيا هو السبب المباشر في الأضرار الضخمة التي تلحق بالاقتصاد المصري، وهذا ما عبرت عنه مجموعة من سبعة سفراء غربيين لدى مصر.
ونقلت نيويورك تايمز جانباً من مقال رأي مشترك، نشره السفراء السبعة هذا الأسبوع في الصحيفة، قالوا فيه: "بغض النظر عما قد يقوله المسؤولون الروس بشأن التعاون مع مصر، لا يمكنهم تبرير المصاعب التي تسببها حرب العدوان هذه في مصر. ولا يمكن لروسيا أن تصرف الانتباه عن العواقب المالية لحرب بوتين العدوانية التي تهدد ازدهار المصريين وسبل عيشهم".