يجادل العديد من المحللين الغربيين بأن نفوذ إيران على بعض أجزاء الشرق الأوسط- أو ما يُعرف باسم "محور المقاومة"- قد تضاءل في أعقاب اغتيال الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس السابق بالحرس الثوري الإيراني، في يناير/كانون الثاني عام 2020. ويقول النقاد عادةً إن حلفاء إيران الإقليميين سيواجهون تحديات متزايدة أينما عكست الانتخابات الرأي الشعبي، في إشارةٍ إلى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تفشل في فرض نفوذها القوي داخل الدول الأخرى في غياب القوة الناعمة.؛ مما دفع طهران للبدء في مراجعة هيكل الردع الخاص بها استجابةً للعجز السياسي الذي أصاب "محور المقاومة"، وتراجع نفوذها، وتضاؤل دورها في توجيه قواتها على صعيد التطورات الداخلية والإقليمية.
استراتيجية إسرائيلية تم تشكيلها ضد إيران لمرحلة ما بعد سليماني
تقول مجلة The National Interest الأمريكية، إن إسرائيل، أنشأت "شعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة" حتى تضع استراتيجيتها الجديدة للتعامل مع إيران في يونيو/حزيران عام 2020، بعد خمسة أشهرٍ من اغتيال سليماني. وتُركّز الاستراتيجية الجديدة بشكلٍ أساسي على تصعيد الاغتيالات والعمليات العسكرية الصغيرة والفعالة فوق التراب الإيراني، وقد أسهمت بشكلٍ كبير في تقليص مصداقية الردع الإيراني.
وتدخل هذه الاستراتيجية في مجال الهجمات السيبرانية أيضاً؛ إذ تستهدف هذه الاستراتيجيات عموماً إدخال إيران في معضلةٍ متعددة الجوانب. ويجادل أصحاب هذه الاستراتيجية بأن إيران ستفقد مكانتها الاستراتيجية ومصداقية الردع تدريجياً إذا فشلت في الاستجابة بفاعلية لجميع عمليات الاغتيال، والهجمات العسكرية منخفضة المستوى، وأعمال التخريب صغيرة النطاق والفعالة في الوقت ذاته.
إيران تتطلع إلى الصواريخ والطائرات المسيرة لاستعادة السيطرة
وانطلاقاً من احتمالية فقدان إيران سيطرتها السياسية والعسكرية على "محور المقاومة"، واحتفاظ إسرائيل بقدرتها على تنفيذ الضربات الاستباقية؛ قررت طهران أن يشارك جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الحرس الثوري الإيراني في تطوير برامج الصواريخ والمركبات الجوية غير المأهولة (الطائرات المسيرة) الخاصة بالبلاد.
إذ كشفت إيران عن قاعدة طائرات مسيرة سرية تحت الأرض، اسمها "قاعدة الجيش 313″، خلال حفلٍ حضره رؤساء أركان القوات المسلحة الإيرانية والجيش الإيراني. وأُقيم الحفل بعد أسبوعٍ واحد من اغتيال إسرائيل لحسن صياد خضيري، أحد قادة فيلق القدس، في طهران وبعد أربعة أيام من هجومٍ بالطائرات المسيرة على مجمع بارشين العسكري في الـ25 من مايو/أيار.
وقدمت القوات المسلحة الإيرانية عدداً من طائرات الجيش المسيرة خلال الحدث غير المسبوق ومنها طائرة أبابيل-5 (المزودة بصاروخ قائم-9 الشبيه بصواريخ هيلفاير الأمريكية)، وطائرة كمان-22 (ذات سقف الخدمة الذي يبلغ 2,000 كم وتأتي مجهزوةً بصاروخ حيدر-1 الجوال الذي يصل مداه إلى 200 كم مع سرعةٍ تصل إلى 1,000 كم/ساعة)، وطائرة كرار (المزودة بجيلٍ جديد من صواريخ شفق)، وطائرة فطرس من إنتاج منظمة صناعات الطيران الإيرانية (المزودة بقنابل الليزر قائم، وصواريخ ألماس، ورأس حربي شديد الانفجار) لإظهار عزم الجيش الإيراني على تنفيذ مهمات عسكرية جديدة ضد إسرائيل.
منصات عسكرية مشتركة بين الحرس الثوري والجيش الإيراني
تشمل تداعيات الاستراتيجية الجديدة زيادة عدد المنصات المشتركة بين الحرس الثوري والجيش الإيراني. إذ أجرى الجيش والحرس الثوري "مناورة دفاع جوي متخصصة" مشتركة في أكتوبر/تشرين الأول 2021 على سبيل المثال، وأُطلِق عليها اسم "مدافعان آسمان ولایت 1400". فضلاً عن أن العرض العسكري الذي نظمه الجيش الإيراني في أبريل/نيسان 2022 كان بمثابة "إعلانٍ رسمي عن تغيير مكانة هذه المؤسسة العسكرية وسط الاستراتيجيات الدفاعية والمنظومة العسكرية الإيرانية".
وسلّط الخبير الإيراني عبدالرسول ديوسالار الضوء على الكيفية التي كشف بها العرض العسكري عن تغييرٍ في اختيارات أنظمة أسلحة الجيش الإيراني، وأظهر تفضيلاً جديداً للصواريخ البالستية حتى تحل محل القوات الجوية الإيرانية القديمة والمتداعية.
حيث جرى الكشف عن أكثر من 50 طائرة مسيرة قتالية، واستطلاعية، وانتحارية (من بينها طائرات كمان-22، ومهاجر-6، ومهاجر-4، ومهاجر-2، ورعد-85، وأراش، وأبابيل-5، وصادق، وشاهد-136، وياسر). علاوةً على الكشف عن الأنظمة المشاركة في تشغيل مختلف الصواريخ، والذخائر الجوالة، ومواقع القيادة والتحكم، والحرب الإلكترونية، والمراقبة والاستطلاع، وفرق الاتصالات التكتيكية أمام وسائل الإعلام.
تعاظم الردع الإيراني
ويُمكن القول إن تقديم العديد من الصواريخ التكتيكية الجديدة؛ مثل صاروخ فاتح-360 البالستي الذي استخدمته القوات البحرية والبرية التابعة للحرس الثوري من قبل، والكشف عن صاروخ لبيك-1 البالستي في صورة نسخةٍ مُحدّثة من صاروخ نازعات، يُظهران اتجاه الجيش التدريجي لإثراء مخزونه من الصواريخ والطائرات المسيرة حتى يلعب بالتبعية دوراً أبرز في هيكل الردع الإيراني.
وربما لا يزال أمام الجيش طريقٌ طويل قبل أن يصبح قوةً صاروخية مثل الحرس الثوري، لكن تقديم الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة الانتحارية والقتالية إلى هذه المنظمة العسكرية يُشير إلى تطورٍ حاسم ومثير للاهتمام. ومن ناحيةٍ أخرى، سنجد أن الجيش لا يزال يولي الأولوية لأنظمة دفاعه الجوي باعتبارها نقطة تركيزٍ مهمة.
لكن يبدو أن الجيش سيُولي المزيد من الاهتمام أيضاً لنقاط الدفاع التكتيكية، والحرب الإلكترونية، والقدرات السيبرانية خلال المستقبل القريب. ويتميز التوجه الجديد للجيش بالردع الصاروخي ودخول مناطق كان يُنظر إليها تقليدياً باعتبارها من مناطق النفوذ الحصري للحرس الثوري، مما سيؤثر بشكلٍ كبير على مرونة الجيش وكفاءته في العمليات القتالية مستقبلاً، كما يقول محللون.
استراتيجية جديدة للمواجهة
وعلاوةً على سد فجوة التسليح بين الحرس الثوري والجيش تدريجياً، تعتمد السياسة الإيرانية الجديدة على تعزيز قدرات الردع المباشر في سيناريوهات الصراع المستقبلي، والتي ستشمل تراجع النفوذ الإقليمي لإيران وسيطرتها على قواتها بالوكالة.
ويُشير تبني هذه الاستراتيجية الجديدة إلى أن هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية مقتنعةٌ بأن أفضل طريقةٍ لتحسين التناغم التنظيمي وقدرات الردع التقليدي الإيرانية يكمن في تسليح الجيش بوحدات الصواريخ البالستية، والطائرات المسيرة للقتال والاستطلاع، وأنظمة الدفاع الجوي الجديدة، بالإضافة إلى تحسين قدرات البلاد في الفضاء السيبراني؛ وذلك نظراً لقلة وصول إيران إلى أسواق الأسلحة العالمية، وقلة فرص نجاح المفاوضات النووية الحالية.
لكن النقطة الأهم في ما يتعلق بوصول الجيش إلى الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة هي أن جمع القدرات الجديدة للجيش مع الحرس الثوري سيمنح القوات المسلحة الإيرانية وصولاً إلى مجموعةٍ أكثر تكاملاً من قدرات الأسلحة.
ويأتي الواقع الجديد مدعوماً بزيادةٍ في كم وكيف المناورات العسكرية التي أجراها الجيش خلال السنوات الأخيرة. مما يمنح القوات المسلحة الإيرانية القدرة على شنّ هجمات انتقامية من عمق الأراضي الإيرانية حتى في حال تضاؤل اعتمادها على شبكاتها وقواتها الإقليمية بالوكالة، التي لا تمتلك بدورها سوى طائرات مسيرة وصواريخ عادية وقصيرة المدى.
تعزيز انخراط الجيش الإيراني في معادلة "الدفاع الإقليمي"
تقول ناشونال إنترست: "لا شك أن هذا التحول في التوجه الاستراتيجي الإيراني يجب أن يُعزى إلى ارتفاع وتيرة التطورات الإقليمية التي تُثير المخاوف في طهران"؛ مما يعني أن النخب العسكرية الإيرانية ليست متفائلةً في ما يتعلق بالضربة الاستباقية الإسرائيلية ومستقبل قواتها بالوكالة في محور المقاومة، وربما يظنون أن تلك القوات لا يُعتمد عليها في الردع على المدى البعيد.
ويُمكن القول بعبارةٍ أخرى إنه من المرجح بشدة أن تتحول إيران لاستراتيجية الردع المباشر في حال دفعت النزعة القومية العربية بالعراق ولبنان إلى الاستقلال عن طهران، سواءً على صعيد صنع السياسات الأمنية أو الدفاعية على المدى البعيد، وبافتراض أن النظام السوري في مرحلة ما بعد بشار الأسد لم يعُد أمامه خيارٌ سوى المصالحة مع إسرائيل والخروج من محور المقاومة لاستعادة هضبة الجولان، وضمان سلامة أراضيها، وإقناع الولايات المتحدة برفع العقوبات الاقتصادية.
ومن المؤكد أن هذا التحول سيُلزم إيران بالاعتماد أكثر على قوتها الصاروخية الهائلة من الأراضي الإيرانية، بدلاً من مواصلة الاستراتيجية الحالية التي تقوم على الردع المُوسع وغير المتكافئ، والتي شهدت تقوية الحرس الثوري لتسليح محور المقاومة بالصواريخ في أرجاء المنطقة.
ومع تركيز الدول الغربية والإقليمية على هذا الانفصال بين طهران وبين حلفائها في محور المقاومة، وفي ظل مناداة إسرائيل بانسحاب كامل القوات الإيرانية من محيطها ومراهنتها على اغتيال علماء وقادة إيران ومهاجمة قواعدها ومنشآتها الاستراتيجية؛ سيزيد عزم الجمهورية الإسلامية الإيرانية على تعزيز انخراط الجيش في معادلة الدفاع الإقليمي بزيادة مدى ودقة صواريخه البالستية وطائراته المسيرة.