هناك خلافات حادة بين أمريكا والسعودية، لكن التحالف بينهما خيار استراتيجي ممتد، فلماذا تصر المملكة الآن على التحالف مع روسيا في أزمة النفط رغم تبعات ذلك الكارثية على إدارة جو بايدن؟
أسباب تدهور العلاقات بين الرياض وواشنطن حالياً ليست خافية على أحد، وأبرزها بطبيعة الحال هو تحميل الرئيس الأمريكي بايدن، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المسؤولية عن قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، إذ رفع الرئيس، في فبراير/شباط 2021، السرية عن تقريرٍ استخباراتي أمريكي يربط عملية الاغتيال بولي العهد مباشرة، إضافة إلى تعهده بأن يجعل السعودية دولة "منبوذة" بسبب ملف حقوق الإنسان.
لكن العلاقات بين أمريكا والسعودية مرت من قبل بفترات من التراجع والفتور، كما حدث بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001 على الأراضي الأمريكية؛ لكون زعيم تنظيم القاعدة سعودياً وكذلك 15 من المنفذين العشرين، ورغم ذلك فإن التحالف الاستراتيجي ظل قائماً، فالمصلحة المشتركة للطرفين كانت لها دائماً الكلمة العليا حتى الآن.
متى بدأ التحالف السعودي-الروسي في النفط؟
"لماذا لا تتخلى السعودية عن تحالفها النفطي مع روسيا"، تحت هذا العنوان نشر موقع Oilprice المتخصص في شؤون الطاقة، تحليلاً يرصد خلفيات الموقف السعودي الحالي في أزمة النفط وعلاقة ذلك الموقف بعلاقات الرياض الحالية والمستقبلية مع كل من واشنطن وموسكو.
كانت زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، للرياض مطلع يونيو/حزيران الجاري، والجلسة المطولة التي عقدها مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان وما تلا تلك الجلسة من بيان مشترك، ثم قرارات منظمة أوبك+، مؤشراً آخر على أن التحالف بين السعودية وروسيا في قصة النفط بات على الأرجح أكثر أهمية لدى الرياض من التحالف الاستراتيجي مع واشنطن، بحسب التحليل.
كان لافروف وبن فرحان قد أصدرا بيانات تبرز "مستوى التعاون المرتفع في إطار منظمة أوبك+ وكيف أن التعاون الوثيق بين روسيا والسعودية يمثل عنصر استقرار في هذا الملف الاستراتيجي الهام وهو سوق الهيدروكربونات العالمي". وبعد فترة قصيرة من هذه الاجتماعات وما رشح عنها من بيانات، أصدرت منظمة أوبك+ بالفعل قراراً بزيادة قدرها 648 ألف برميل من النفط يومياً خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب المقبلين، وهو ضعف الزيادة التي كانت مقررة سلفاً.
وتضم منظمة أوبك+ الأعضاء في أوبك (منظمة الدول المنتجة للنفط)، وعلى رأسها السعودية، مع كبار منتجي النفط من خارج أوبك وعلى رأسهم روسيا، وترجع بداية أوبك+ إلى أزمة النفط السابقة في الفترة من 2014 حتى 2016، والتي انتهت بخروج الاتفاق بين أوبك وكبار منتجي النفط، خاصةً روسيا، إلى النور، ومن ثم أوبك+.
وفي أزمة النفط عام 2014-2016 تكمن الأسرار الفعلية وراء قوة التحالف بين السعودية وروسيا في مجال الطاقة، بحسب تحليل موقع Oilprice، حيث إن الرياض كانت المحركَ الرئيسي لتلك الأزمة بهدف تدمير أو على الأقل تحجيم صناعة النفط الصخري الأمريكي، التي كانت لا تزال ناشئة في ذلك الوقت.
كانت أسعار النفط، في الفترة من بداية 2014 وحتى بدايات 2016، قد شهدت انخفاضاً بنسبة أكثر من 70% بسبب زيادة العرض عن الطلب بصورة هائلة، حيث رفعت السعودية تحديداً إنتاجها إلى الضعف تقريباً. وعلى الرغم من انخفاض الأسعار العالمية للنفط لأدنى مستوياتها تقريباً في العصر الحديث، فإن تأثير ذلك على الاقتصاد العالمي كان سلبياً للغاية.
ويرجع السبب في ذلك التأثير السلبي إلى أن الدول المنتجة للنفط واجهت انخفاضاً كبيراً في إيراداتها بينما وجدت الدول الصناعية المستوردة للنفط السلع التي تنتجها بلا مشترين تقريباً، وانكمشت أعمال الشركات المرتبطة بصناعة الطاقة مباشرة كالتأمين والنقل والأوراق المالية والبنوك وغيرها، فواجه الاقتصاد العالمي تباطؤاً في النمو، يشبه إلى حد كبير، ما يحدث الآن من انكماش بسبب التضخم وارتفاع الأسعار.
كان هدف السعودية من زيادة الإنتاج وخفض الأسعار هو قطاع الطاقة الصخري في الولايات المتحدة، حيث أدرك السعوديون وقتها أن هذا القطاع يمثل الخطر الأكبر على وضع السعودية كأهم القوى المتحكمة في النفط ويمثل مصدراً رئيسياً لدخلها المالي ونفوذها السياسي في الوقت نفسه. ومن هنا بدأت بذرة التعاون بين الرياض وموسكو في هذا القطاع الهام.
هل تريد السعودية الآن خفض أسعار النفط؟
الاتفاق الاستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة، الموقع عام 1945 لمدة 60 عاماً وتم تجديده عام 2005 للمدة نفسها، ينص على أن تضمن واشنطن استمرار آل سعود في حكم المملكة مقابل أن تبيع السعودية النفط بالدولار الأمريكي وأن تضمن أمن الطاقة الأمريكي، فلماذا اختارت السعودية الآن أن تحافظ على تحالفها حديث العهد مع روسيا في مجال النفط بدلاً من الحفاظ على تحالفها الاستراتيجي الأقدم مع أمريكا؟ خصوصاً أن التوقيت يشهد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وهو ما تراه أمريكا غزواً وتعاقب روسيا بسببه وتسعى لبناء تحالف عالمي ضد موسكو.
وتكمن الإجابة عن هذا السؤال في أزمة النفط السابقة وتشكيل منظمة أوبك+، التي كان يفترض أنها مجرد اتفاق على خفض الإنتاج مدته 6 أشهر، لكن الاتفاق استمر وتحول إلى تحالف وثيق يبدو متماسكاً بصورة لافتة رغم الضغوط التي يقودها الغرب بقيادة الإدارة الأمريكية الحالية لتفكيكه حتى تكتمل عملية عزل روسيا بالكامل.
لكن قبل الدخول في تفاصيل الإجابة بشأن تفضيل الرياض تحالفها مع موسكو في قصة النفط، هناك سؤال آخر يتعلق بما إذا كانت السعودية تريد المساعدة في تخفيض الأسعار ولو قليلاً الآن، وإجابة هذا السؤال تبدو واضحة تماماً، فالرياض قد اتفقت مع موسكو على "مضاعفة" الزيادة المقررة في الإنتاج خلال الشهرين المقبلين، لكن هذا "العنوان" لا يعكس حقيقة الموقف على الأرض.
نعم، اتفقت المجموعة في الأسبوع الماضي، على تسريع وتيرة زيادة الإنتاج لكبح أسعار الوقود الجامحة وإبطاء التضخم، لكن هذه الخطوة ستترك للمنتجين طاقة فائضة ضئيلة جداً دون إمكانية تقريباً للتعويض عن أي انقطاع كبير في الإمدادات.
وهذا ما عبّر عنه وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي، بقوله إن جهود منتجي النفط في مجموعة أوبك+ لزيادة الإنتاج "غير مشجعة"، مشيراً إلى أن إنتاج المجموعة يقل حالياً عن هدفه بنحو 2.6 مليون برميل يومياً.
والجمعة 10 يونيو/حزيران، قالت مصادر مطلعة لـ"رويترز"، إن شركة أرامكو السعودية أخطرت أربعة مشترين على الأقل لنفطها في شمال آسيا بأنها ستخفض الكميات المتعاقد عليها من النفط الخام في يوليو/تموز.
التخفيض يأتي بعد أن رفعت السعودية أسعار البيع الرسمية إلى مستويات عالية غير متوقعة، ومع تدافع المشترين الأوروبيين لتعويض إمدادات الخام من روسيا بعد اتفاق الاتحاد الأوروبي على فرض حظر نفطي تدريجي على موسكو.
لماذا تدير السعودية ظهرها للتحالف مع أمريكا؟
هناك عاملان رئيسيان وراء الموقف السعودي الحالي في أزمة النفط، الأول هو قناعة السعوديين بأن قطاع الطاقة الصخري الأمريكي هو التهديد الأكبر للنفط السعودي، والثاني هو قناعة أخرى تخص الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط وبالتالي التوقف عن توفير "الحماية" لآل سعود، وهو العنصر الأساسي في الاتفاق الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن.
وبحسب تحليل موقع Oilprice، فإن هاتين القناعتين بدأتا في التشكل لدى السعوديين منذ مطلع 2014، وهو التوقيت الذي تزامن مع المفاوضات بين إدارة باراك أوباما وإيران، والتي أفضت إلى الاتفاق النووي عام 2015، وهو الاتفاق الذي رأت فيه السعودية تهديداً لها وتساهلاً من أمريكا في التعامل مع إيران ودورها المزعزع في المنطقة.
فأزمة أسعار النفط عام 2014-2016 جعلت السعوديين يدركون أن التهديد الأكبر عليهم في مجال الطاقة يأتي من الشركات الأمريكية المنتجة للطاقة الصخرية، من نفط وغاز، فقامت الرياض بمضاعفة الإنتاج وحرق الأسعار للقضاء على ذلك القطاع الأمريكي، على أساس أن تكلفة الإنتاج للنفط الصخري مرتفعة للغاية مقارنة بمثيلاتها في السعودية، فتكلفة إنتاج برميل النفط في السعودية تقل عن 3 دولارات، بينما تزيد على 30 دولاراً بالنسبة للخام الأمريكي.
نعم، خسرت السعودية وباقي الدول المنتجة للنفط في أوبك وخارجها كثيراً من الأموال وأصيب الاقتصاد السعودي بأضرار انكماشية فادحة، لكن الأثر الأكبر هو أن السعودية بدأت في فقدان وضعها كقوة عظمى رئيسية في أسواق الطاقة العالمية، وهذا ما لا يمكن للمملكة تقبُّله، فقوّتها بالأساس نابعة من النفط دون غيره، وهو ما يجعل النفط أهم من "الحماية" الأمريكية ذاتها.
ويفسر هذا التحليل الموقف السعودي خلال أزمة النفط الحالية، التي فجّرها الهجوم الروسي على أوكرانيا. فقبل حتى أن تندلع الحرب، أجرى الرئيس جو بايدن اتصاله الثاني بالملك سلمان بن عبد العزيز، والذي قدم خلاله الرئيس الأمريكي "تنازلات" للمملكة تتعلق بالموافقة على صفقات أسلحة كانت مرفوضة من قبل وإطلاع الملك على سير المفاوضات النووية مع إيران وتقديم الدعم للرياض في حرب اليمن.
لكن تلك المكالمة وما تلاها من سعى إدارة بايدن بشتى الطرق لتغيير موقف السعودية من أزمة النفط ومناشدة المملكة لزيادة الإنتاج فشلتا فشلاً ذريعاً وتمسكت الرياض بموقفها، بل زادت إصراراً على التمسك باستمرار أوبك+، في دعم قوي للغاية لروسيا، لدرجة أن ولي العهد رفض تلقي مكالمة هاتفية من بايدن، في سابقة تاريخية بأي مقاييس.
هل انتهى التحالف السعودي-الأمريكي إذاً؟
الشيء الوحيد المؤكد حتى الآن هو أن المميزات الخاصة بالاتفاق الاستراتيجي بين السعودية وأمريكا قد تآكلت بصورة شبه كاملة مع توالي الأزمات. فواشنطن لم توفر للرياض "الحماية" عندما استهدفت الصواريخ والمسيرات التي أطلقها "أعداء المملكة الإقليميون"، منشآت أرامكو منتصف سبتمبر/أيلول 2019، وقلصت قدرة المملكة على إنتاج النفط بأكثر من النصف وقتها، وهو ما مثَّل لحظة فارقة في العلاقة بين الجانبين، من وجهة النظر السعودية.
ومن وجهة النظر الأمريكية، كان سعي السعودية لتدمير قطاع الطاقة الأمريكي في أزمة 2014-2016 بمثابة الشرخ العميق في جدار الثقة، ولم تساعد الأحداث التي مرت بها تلك العلاقة خلال رئاسة دونالد ترامب في إصلاح أو ترميم ذلك الشرخ، على الرغم من زيارته للسعودية والعلاقة "الخاصة جداً" التي ربطته بولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة.
بل إن ما حدث خلال أزمة النفط الأخرى، بسبب وباء كورونا وحرب الأسعار بين الرياض وموسكو، يؤكد أن ذلك الشرخ قد ازداد عمقاً.
انهيار أسعار النفط يمثل ضربة قاصمة لقطاع الطاقة الأمريكي، وتلك الحقيقة حضرت بقوة عندما تدخل ترامب لإنقاذ الموقف ففرضت عليه السعودية وروسيا، لأول مرة، أن تتحمل واشنطن نصيبها من تخفيض الإنتاج أيضاً، في مؤشر واضح على أن المصالح السعودية، في قصة النفط تحديداً، باتت أقرب لروسيا منها لأمريكا، وهو ما جاءت الأزمة الأوكرانية الحالية لتؤكده بما لا يدع مجالاً للشك.
ولا شك في أن العلاقة بين ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة وإدارة بايدن جعلت الأمير يتمسك أكثر بموقفه الرافض لزيادة الإنتاج. فالأسعار المرتفعة وما تعنيه من الارتفاعات القياسية في مشتقات النفط ويدفع ثمنها المواطن الأمريكي، إضافة إلى التضخم الذي يعاني منه الاقتصاد الأمريكي على الأرجح قد تفقد الديمقراطيين أغلبيتهم الهشة في الكونغرس خلال انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
كما أن حظوظ ترامب، وربما أي مرشح جمهوري آخر، في الفوز على بايدن، أو أي مرشح ديمقراطي آخر، في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024، تبدو وافرة، وهو عامل إغراء إضافي يجعل ولي العهد السعودي غير راغب بالمرة في تقديم أي تنازلات قد تؤدي إلى خفض أسعار النفط وبالتالي مساعدة إدارة بايدن على تدارك الأمور.
لكن نظرةً أكثر عمقاً على الموقف تُظهر أنَّ حرص الولايات المتحدة والسعودية على استمرار التحالف الاستراتيجي بينهما قد ضعف بصورة لافتة، وفي القلب من هذا الضعف تأتي قصة النفط بالأساس. فتمرير لجنة في الكونغرس مشروع قانون "نوبك"، الذي يفتح الباب أمام محاكمة أوبك أمام القضاء الأمريكي، بعد 20 عاماً من التهديد الأمريكي بذلك القانون، مؤشر على أن واشنطن قد تكون بصدد إعادة النظر بصورة جذرية في تحالفها مع الرياض.
الخلاصة هنا هي أن حكام السعودية باتوا مقتنعين بأن الحفاظ على تحكمهم في سوق النفط العالمي أهم كثيراً من "الحماية" الأمريكية، التي أثبتت السنوات الأخيرة أنها ربما لم تعد موجودة من الأساس، إضافة إلى أن قطاع النفط الصخري الأمريكي تحديداً هو الخطر الأكبر على التحكم السعودي في تلك السوق الحيوية، وهو ما يفسر الإصرار السعودي على مواصلة التعاون مع روسيا في هذا المجال رغم الغضب الأمريكي الواضح.