أعلنت روسيا أنه تم إنشاء ممر بري يربط شبه جزيرة القرم بإقليم دونباس، فلماذا يعتبر ذلك الانتصار الاستراتيجي هو الأهم للرئيس فلاديمير بوتين منذ بدء الهجوم على أوكرانيا؟
والهجوم الروسي على أوكرانيا، المستمر منذ 24 فبراير/شباط الماضي، يمثل الأزمة الجيوسياسية الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، فهو في جوهره صراع بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة، وتصف موسكو ذلك الهجوم بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما تصفه كييف والغرب بأنه غزو.
لكن الأزمة الأوكرانية لم تبدأ مع الحرب الحالية وإنما يرجع تاريخ تفجرها إلى ما قبل 8 سنوات، عندما أدت أحداث الميدان الأوروبي في العاصمة الأوكرانية كييف إلى هروب الرئيس المدعوم من روسيا واستيلاء المعارضة المدعومة من الغرب على مقاليد السلطة، واندلعت حركات انفصالية مسلحة في الأقاليم الشرقية لأوكرانيا والمتاخمة للحدود الروسية.
ما الأهداف التي قال بوتين إنه يسعى إليها؟
كانت الأزمة الأوكرانية عام 2014 قد انتهت بضم روسيا إقليم شبه جزيرة القرم بشكل كامل، وإعلان الانفصاليين المتحدثين بالروسية استقلال منطقتي لوغانسك ودونيتسك بإقليم دونباس، لكن موسكو لم تعترف بالمنطقتين، وأدت اتفاقيات مينسك إلى وقف إطلاق النار على خط التماس في الإقليم.
وقبل اندلاع الحرب الحالية، كان الانفصاليون يسيطرون على ثلث مساحة إقليم دونباس فقط، بينما يسيطر الجيش الأوكراني على ثلثي الإقليم. وعندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك يوم 21 فبراير/شباط، أي قبل بدء الحرب بثلاثة أيام فقط، كان واضحاً أن الأمور في طريقها للاشتعال وهو ما حدث بالفعل.
ويمكن القول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد حدد خطوطاً عريضة للأهداف الاستراتيجية التي تسعى موسكو لتحقيقها من خلال ما سماها "عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا"، فكلمتا الحرب أو الغزو لا تردان على لسان بوتين أو أي من مسؤوليه على الإطلاق، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر على بداية الهجوم.
"منع عسكرة كييف، والقضاء على القوميين النازيين الذين يضطهدون الأقلية الروسية في أوكرانيا، وتحرير إقليم دونباس"، تلك هي الأهداف التي قال بوتين إنه يسعى لتحقيقها، فماذا تحقق منها بالفعل حتى الآن؟
بدأ الهجوم الروسي كاسحاً ومنتشراً في جميع الأراضي الأوكرانية، وتم فرض حصار على العاصمة كييف وجميع المدن الكبرى، تحت غطاء كثيف من الضربات الجوية الصاروخية وباستخدام الطائرات المقاتلة، وتمكنت روسيا من فرض سيطرة شبه كاملة على الأجواء الأوكرانية بعد أن دمرت البنية العسكرية الرئيسية للجيش الأوكراني.
وبعد مرور أقل من شهرين من بدء العمليات العسكرية، أعلنت موسكو انتهاء المرحلة الأولى من الهجوم وبدأت في سحب قواتها من الغرب الأوكراني، ومن مشارف كييف وغرب نهر دنيبرو بصفة عامة. وأعلنت روسيا تركيز عملياتها العسكرية في شرق أوكرانيا، وقال بوتين يوم 9 مايو/أيار الماضي، في خطابه بمناسبة احتفالات النصر على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، إن الهدف الآن هو "تحرير" إقليم دونباس بالكامل.
روسيا تعلن "ممراً برياً" يربط القرم بدونباس
أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الثلاثاء 7 يونيو/حزيران، أن القوات المسلحة الروسية أوجدت "الشروط اللازمة للاستئناف الكامل لحركة السكك الحديدية بين روسيا ودونباس وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم"، وبدأت في تسليم البضائع إلى المدن الأوكرانية ماريوبول وبيرديانسك وخيرسون على امتداد 1200 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية التي أُعيد فتحها.
شبكة CNN الأمريكية أوردت هذا التطور الميداني الكبير في معرض تغطيتها للحرب في أوكرانيا، التي يصفها الرئيس بايدن ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والغرب عموماً بأنها غزو روسي، في فقرةٍ عنوانها "ممر بري للقرم"، نقلت فيها تصريحات شويغو، قائلة: "تزعم روسيا أنها فتحت ممراً برياً يربط القرم (المحتلة) بباقي شرق أوكرانيا وروسيا ويسمح بنقل البضائع من روسيا عبر دونباس إلى القرم".
وعلى الرغم من أن التحقق مما يجري على الأرض في أوكرانيا فعلاً، وبصفة خاصة في المناطق التي تشهد قتالاً عنيفاً وعلى رأسها إقليم دونباس، يعد أمراً صعباً للغاية، في ظل الحصار الإعلامي شبه التام من الغرب على روسيا، فإن عدم تكذيب ما أعلنه شويغو من جانب أي مصدر غربي ولا من جانب كييف يشير إلى أن "الممر البري" قد تحقق بالفعل.
وكان إنشاء "الممر البري" بين روسيا وشبه جزيرة القرم جزءاً رئيسياً من استراتيجية روسيا منذ بدء هجومها، وبالتالي فإن تحقيقه يمثل انتصاراً استراتيجياً هاماً للغاية للروس وللرئيس فلاديمير بوتين بصفة خاصة.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، متحدثاً الأربعاء 8 يونيو/حزيران، من أنقرة، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره التركي، مولود تشاووش أوغلو، قال إن "العملية العسكرية الخاصة" التي تنفذها روسيا في أوكرانيا تسير وفقاً للمخطط لها، وأكد أن لقاء بين بوتين وزيلينسكي لابد أن يسبقه استئناف مفاوضات السلام بين موسكو وكييف، وهو ما يشير إلى أن الموقف الروسي يبدو أكثر تماسكاً من الموقف الغربي بصفة عامة.
وفي هذا السياق أيضاً، جاءت تصريحات الحاكم الأوكراني لمنطقة لوغانسك لتشير إلى مدى صعوبة موقف الجيش الأوكراني هناك، إذ قال الحاكم سيرهي جايداي في كلمة بثها التلفزيون، إن القوات الأوكرانية قد تضطر إلى التراجع لمواقع أقوى في مدينة سيفيرودونيتسك المحاصرة.
وأضاف أن أوكرانيا تتوقع من روسيا تصعيد قصفها لسيفيرودونيتسك وشن هجوم ضخم حيث تركز موسكو كل جهودها على المنطقة، وقال جايداي: "القتال ما زال مستمراً، ولن يتخلى أحد عن المدينة حتى لو كان على جيشنا أن يتراجع إلى مواقع أقوى. هذا ليس معناه أن هناك من يتخلى عن المدينة.. لن يتخلى أحد عن أي شيء. لكن من الممكن أن يضطر (الجيش) إلى التراجع"، بحسب رويترز.
وتعكس هذه التصريحات تناقضاً مع الموقف خلال اليومين الماضيين، حين أعلنت كييف أن قواتها شنت هجوماً مضاداً أوقف تقدم القوات الروسية في المدينة وأجبرها على التراجع. وكان القتال، المستمر منذ أيام في المدينة الصناعية، قد تحول إلى معركة محورية، في تذكير بما حدث في مدينة ماريوبول الساحلية حين تمترست المليشيات الأوكرانية المدافعة عن المدينة في مجمع الصلب آزوفيستال قبل أن تستسلم للقوات الروسية، التي فرضت سيطرتها الكاملة على المدينة في نهاية المطاف.
هل تقترب الحرب في أوكرانيا من نهايتها؟
قبل محاولة الوقوف عند الاحتمالات أو السيناريوهات التي قد تشهدها الأيام والأسابيع المقبلة، في ضوء تحقيق روسيا ذلك الهدف الاستراتيجي الهام، من المهم هنا التوقف عند تقرير كانت المخابرات البريطانية قد نشرته في الأسبوع الأول من أبريل/نيسان الماضي، عنوانه "روسيا لن تتمكن أبداً من فتح ممر بري يربط القرم بإقليم دونباس".
والمخابرات البريطانية، شأنها شأن الاستخبارات الأمريكية، تنشر إفادات وتقارير شبه يومية عن تقييمها لمسار ما تصفه بالغزو الروسي لأوكرانيا، وكان التركيز على "الممر البري" كأحد الأهداف الرئيسية لبوتين وعجز القوات الروسية عن تحقيقه أحد أبرز النقاط التي ترصدها تلك التقارير.
وتصف التقارير الاستخباراتية الغربية، وبصفة خاصةٍ تلك الصادرة عن واشنطن ولندن، "الغزو الروسي" بأنه فاشل ولم يحقق شيئاً يذكر على الأرض، وتصف ما تقول موسكو إنه تركيز للعمليات العسكرية في الشرق بأنه هزيمة للقوات الروسية أجبرتها على الانسحاب من غرب أوكرانيا.
ومع صعوبة التأكد من رواية أي من الجانبين، في ظل استمرار المعارك واستخدام البيانات الرسمية في إطار الحرب النفسية، يعتمد المحللون والخبراء العسكريون في أغلب الأحوال على قراءة ما بين السطور لمحاولة وضع سيناريوهات بشأن الكيفية التي قد تضع بها تلك الحرب أوزارها في نهاية المطاف.
وفي هذا السياق، يرى بعض هؤلاء أن ذلك "الممر البري" الذي نجحت روسيا في تحقيقه وتشغيله بالفعل، والذي يربط بين دونباس والقرم عبر الأراضي الروسية، ربما يمثل مرحلة حاسمة لصالح الروس في دونباس ومن ثم الاقتراب من تحقيق السيطرة الكاملة على الإقليم لصالح الانفصاليين الموالين لموسكو، وهو ما قد يعني خطوة كبرى باتجاه وقف إطلاق النار.
فروسيا تضغط الآن من ثلاثة اتجاهات رئيسية، الشرق والشمال والجنوب، لمحاولة تطويق الأوكرانيين في دونباس. وقال حاكم إقليم دونيتسك، بافلو كيريلينكو، للتلفزيون الأوكراني، إن هناك قصفاً مطرداً بطول خط الجبهة وإن روسيا تحاول الاندفاع صوب سلوفيانسك وكراماتورسك أكبر مدينتين تسيطر عليهما أوكرانيا في دونيتسك. والجهود جارية لإجلاء من بقوا من السكان. وقال كيريلينكو: "الناس يفهمون الآن، رغم أن الوقت متأخر، أن وقت الرحيل حان".
وبعد الزعم خلال اليومين الماضيين من جانب كييف، أن قواتها في سيفيرودونيتسك نجحت في إجبار الروس على التراجع وأن القوات الأوكرانية استعادت السيطرة على أكثر من نصف المدينة التي تشهد واحدة من أكثر المعارك دموية، قال الحاكم جايداي لموقع (آر.بي.سي. أوكرانيا) الإعلامي، مساء الأربعاء: "لم تعد قواتنا تسيطر الآن إلا على أطراف المدينة".
وأضاف: "لكن القتال لا يزال مستمراً، (قواتنا) تدافع عن سيفيرودونيتسك ومن المستحيل القول إن الروس يسيطرون على المدينة بشكل كامل". وهناك إجماع بين المسؤولين الأوكرانيين على أن معركة المدينة الرئيسية في لوغانسك سيكون لها دور كبير في تحديد مستقبل المعارك في دونباس والحرب بشكل عام.
التقدم الكبير لروسيا في دونباس يتزامن أيضاً مع إفادات أوردتها وكالات أنباء روسية، بأن الإدارة التي نصبتها روسيا في الجزء المحتل من منطقة زابوريجيا بجنوب أوكرانيا تعتزم إجراء استفتاء في وقت لاحق من هذا العام، بشأن الانضمام إلى روسيا. كما أعلن المسؤولون الذين نصبهم الروس في مقاطعة خيرسون الواقعة إلى الغرب من زابوريجيا، عن خطط مماثلة.
وتشير هذه التطورات إلى أن روسيا ربما تكون قد اقتربت من إحكام سيطرتها على إقليم دونباس وهو ما يعني انتهاء أي وجود كبير للجيش الأوكراني في شرق وجنوب البلاد، أو ربما أي وجود على الإطلاق، مما يعني أن الباب قد يصبح مفتوحاً أمام اتفاق لوقف إطلاق النار ولو حتى كما حدث عام 2014 من خلال اتفاق مينسك.