"لم أعد أشعر أنني في وطني"، من دون تردد، كان هذا رد بلال البالغ من العمر 27 عاماً عندما سُئل عن السبب الذي دفعه إلى مغادرة فرنسا هو وزوجته رحمة قبل عامين، وجاءت هجرته لتعبر عن تيار متزايد من هجرة المسلمين من فرنسا.
ومنذ ذلك الحين، استقر الزوجان، اللذان ينحدران من أصول جزائرية وتونسية، في إسطنبول بتركيا، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
أنا فرنسي تاريخياً وثقافياً لكن تعييني سبب جدلاً لأنني عربي وبلحية
وأخبر بلال موقع Middle East Eye: "ولدت في فرنسا، ولم أذهب إلى الجزائر إلا في مناسبتين خلال العطلات. حتى إنني لا أتحدث العربية! إنني فرنسي تاريخياً وثقافياً، لكني شعرت أنني يُنظر إليَّ كأني أقل من أي مواطن كامل الأهلية".
وعندما يفكر في حياته اليومية في فرنسا، يتذكر بلال خوفه المستمر من أن يُنظر إليه على أنه دخيل.
لكنَّ مناسبة واحدة تلتصق بذاكرته، وهو اليوم الذي أبلغه فيه مديره التنفيذي أن تعيينه كان مصدر جدل بين الموظفين، والسبب أنه عربي ويربّي لحية.
قال بلال: "كنت مُتعباً من اضطراري للعمل بمجهود مضاعف لإثبات نفسي، وبكل صراحة، لم يفلح الأمر دائماً".
ومنذ الهجمات على صحيفة Charlie Hebdo بعد نشرها رسوماً مسيئة للرسول، وأهداف أخرى، تغيرت طريقة التعامل مع قضية الهجرة إلى فرنسا. لم يعد كل شيء يدور حول شخصية المهاجر عامة؛ بل يركزون على الهجرة ما بعد الاستعمار، والهجرة من منطقة جنوب البحر المتوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا، وعلى مسألة الإسلاموية، التي غالباً ما يُخلَط بينها وبين الإسلام. وفي خطوة جديدة مع إريك زمور، تتحدث فرنسا الآن بانتظام عن مسألة الهوية، والحضارة، وتوافق الحضارات، وتحديداً بين المسيحية والإسلام.
ويتجاهل ساسة فرنسا عادةً دور المهاجرين، لا سيما المغاربة القادمين من شمال إفريقيا في تاريخ البلاد.
كيف حمى العرب والأفارقة فرنسا في الحرب العالمية الأولى؟
بدأت هجرة المسلمين إلى فرنسا تكتسب زخماً خلال الحرب العالمية الأولى، سواء كانوا جنوداً أو عمالاً.
فخلال هذه الحرب، قاتل جنود من الجزائر والمغرب وتونس إلى جانب الفرنسيين. أرسلت الجزائر 173000 رجل، يمكن تقييم شجاعتهم من خلال حقيقة أن 25000 فقدوا حياتهم.
وساهمت تونس بـ56000 جندي، 12000 منهم لم يعودوا إلى ديارهم قط. شاركت القوات المغربية في الدفاع عن باريس. لم تساعد المنطقة المغاربية فرنسا بقواتها فحسب، بل قدمت أيضاً الإغاثة والقوى البشرية لتحل محل العمال الفرنسيين الذين كانوا يخدمون في الجيش. ذهب حوالي 119000 شاب جزائري إلى فرنسا لتولي وظائف في المصانع عام 1919. وبالمثل وصل العمال المغاربة إلى بوردو منذ عام 1916.
خلال الحرب العالمية الثانية، كانت قوات المشاة في جيوش فرنسا الحرة التي يقودها الجنرال شارل ديغول، تعتمد بشكل كبير على جنود المستعمرات، وكان رُبع جنود الفرقتين المدرعة الأولى والثانية من المغاربة، والفرقة الثانية المدرعة هي التي حررت باريس.
تظهر سجلات الحملة الإيطالية أن كلاً من فرقة المشاة الجزائرية الثالثة وفرقة المشاة المغربية الثانية كانتا مكونتين من 60% من المغربيين و40% من الأوروبيين، في حين أن فرقة المشاة المغربية الرابعة كانت مكونة من 65% مغاربة و35% أوروبيين.
في يوليو/تموز 2020، زودت وزارة القوات المسلحة الفرنسية السلطات المحلية بدليل لمئة إفريقي قاتلوا من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية، حتى يمكن تسمية الشوارع والميادين بأسمائهم.
في سنوات التوسع الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كان هناك نقص حاد في العمالة وصلت الهجرة مرة أخرى إلى مستوى مرتفع. في العقدين الأولين بعد الحرب أسهمت الهجرة بنحو 40% في نمو السكان الفرنسيين.
عندما تحب امرأة ولكن لا تستطيع العيش معها
فاتح كيموش، هو مؤسس موقع Al Kanz، وهي منصة للمستهلكين المسلمين.
قال كيموش: "كما ترون، الأمر كما لو أنك تحب امرأة، لكنك لا تستطيع العيش معها بعد الآن"، وذلك في إشارة إلى تزايد أعداد أبناء وطنه المسلمين الذين يغادرون فرنسا.
وبين مجتمعه، يشهد كيموش الآن مغادرة عائلات بأكملها البلاد.
وقال: "إن هجرة المسلمين من فرنسا هي بمثابة خروج صامت. كل هؤلاء الناس يقولون نفس الشيء: أحب فرنسا ولكنني أغادر. والدافع الرئيسي لهم هو الهروب من مناخ الإسلاموفوبيا. إنها طريقة حياة مرهِقة".
سجلت وزارة الداخلية الفرنسية، في عام 2021، 171 هجوماً بسبب الإسلاموفوبيا، بزيادة نسبتها 32% عن العام السابق.
وفي المقابل، تراجعت الهجمات ضد أصحاب الديانات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، تراجعت هجمات معاداة السامية بنسبة 15%.
ونتيجة لمواصلة حظر جمع البيانات العِرقية في فرنسا، فلا سبيل إلى الوصول إلى تقدير دقيق لأعداد المسلمين الذين يغادرون البلاد.
هجرة المسلمين من فرنسا بالآلاف، وإليك الدول التي يتوجهون إليها
لكن ميتشيل فام، مؤسس موقع Muslim Expat الذي يدعم المسلمين الذين يتحدثون الفرنسية ويعيشون في الخارج، يرى اتجاهاً ناشئاً واضحاً. قال فام: "في الوقت الراهن، يحصل موقعنا على 7000 زيارة شهرياً. وتتزايد أعداد الاستفسارات".
والتساؤلات المطروحة الأكثر شيوعاً على منصة المناقشات الخاصة بالموقع، تتعلق بظروف الحياة في بلاد مثل المملكة المتحدة وكندا وتركيا والإمارات.
قال فام: "قد تتفاجأ لمعرفتك بأنه -برغم أنها قلب الإسلام- يريد القليل جداً من الأشخاص أن يذهبوا إلى السعودية ويعيشوا فيها".
وأضاف: "ليس لديهم حقاً البنية التحتية لجذب العائلات، فليس هناك متنزهات للأطفال، بجانب أن المسلمين الذين يغادرون فرنسا يبحثون عن مكان يعطي الجميع على الأقل حقوقهم الأساسية".
النساء على وجه الخصوص الأكثر رغبة في الهجرة
تعد النساء المسلمات في كثير من الأحيان القوة الدافعة وراء مغادرة عائلة ما بأكملها؛ لأن كثيرات منهن لا يستطِعن العثور على عمل في فرنسا يتماشى مع مهاراتهن وتدريبهن.
في مقابلة مع جمعية Lallab النسوية، قالت عالمة الاجتماع فتيحة أجبلي إن النساء المسلمات يواجهن معضلة "الاختيار بين حرية العمل بوصفهن نساء فرنسيات، وبين ارتداء الحجاب بوصفهن مسلمات".
يصعب الجمع بين هاتين الحريتين في المجتمع الفرنسي، حيث تُفسَّر مبادئ العلمانية غالباً تفسيراً صارماً.
ففي فرنسا العلمانية، بموجب الدستور، لا يُسمح لموظفي القطاع العام بارتداء الرموز الدينية، بما في ذلك الحجاب.
صحيحٌ أن هذا لا ينطبق على العاملين في الشركات الخاصة، لكن هذه الشركات لا تزال قادرةً على حظر ارتداء الحجاب، ما دام ذلك القرار ينبع من أسباب صحية أو أمنية، وفي الواقع العملي تسمح شركات قليلة في الوقت الحاضر بتعيين نساء يرتدين الحجاب.
هل ستخلعين الحجاب؟
في حديثها مع موقع Middle East Eye، قالت ديابا، الممرضة البالغة من العمر 39 عاماً: "عندما كنت أعيش في فرنسا تقدمت لوظيفة في مستشفى عام. كان السؤال الأول الذي طُرح عليّ خلال المقابلة هو: هل ستخلعين الحجاب؟".
وأضافت بازدراء من منزلها الكائن بمقاطعة كيبك في كندا: "كنت أظن أنهم يعانون من نقص في الموظفين". هاجرت ديابا إلى كيبيك قبل 8 سنوات، وكان خياراً سهلاً؛ نظراً إلى أنها تحصل على ضعف الراتب الذي يحصل عليه نظراؤها في فرنسا.
وأوضحت: "بكل تأكيد أفتقد عائلتي وأصدقائي. ولكن عندما أشاهد قنوات الأخبار الفرنسية، أخبر نفسي بأنني فعلت الشيء الصائب بالمغادرة".
لن أقبل أن تتعرض ابنتي للمصير ذاته
يدير بلال ورحمة العديد من الأعمال حالياً في إسطنبول، بما في ذلك شركة تدريب تقدم دورات لتعليم اللغة الإنجليزية عبر الإنترنت.
أطلقت رحمة أيضاً قناة على موقع يوتيوب، بحوالي 35 ألف مشترك، تستخدمها للحديث عن حياتها اليومية في تركيا. وقد ولدت طفلتهما البالغة من العمر عاماً ونصف العام هناك.
قالت الشابة الفرنسية البالغة من العمر 25 عاماً: "من المهم للغاية بالنسبة لي ألا يجري التعامل معها بعين الريبة بسبب ديانتها. تلك النوعية من الأشياء تترك علاماتها فيك".
وأضافت: "إذا قررَت في يوم ما ارتداء الحجاب، فلا أريدها أن تتلقى نظرات التوبيخ. الناس لا تدرك مدى الإهانة في اضطرارك، على سبيل المثال، لخلع حجابك للذهاب إلى المدرسة أو الجامعة. وإذا خَلَعَته، أود أن يكون هذا دائماً خيارها".
منذ بدء العمل بالمادة ل-141-5-1 من قانون التعليم الفرنسي في 15 مارس/آذار 2004، يُحظر على الأطفال في المدارس والجامعات العامة ارتداء أي رموز دينية "واضحة".
الكراهية تطارد المسلمين حتى في المهجر
غادر الزوجان الصغيران فرنسا، لكن هذا لا يعني أنهما فرّا كلياً من العنصرية المناهضة للمسلمين. فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، التي ينشطان فيها للغاية، لا يزالان يتلقيان رسائل كراهية بانتظام.
قالت رحمة: "أمس، كتب شخص تعليقاً على أحد فيديوهاتي. وبكلمة واحدة: "صرصارة". طلبت منه الإيضاح. فكانت إجابته: "أنت صرصارة، لا تعرفين كيف تندمجين".
أما مهدي، البالغ من العمر 42 عاماً، فيعيش في لندن منذ 11 عاماً وليس لديه نية للعودة إلى فرنسا.
فرنسا مهدَّدة بنزيف للكفاءات
قال وكيل لاعبي كرة القدم: "منذ اللحظة التي صعدت فيها على متن طائرة (شركة الطيران البريطانية) يوروستار في 2011، صار واضحاً لي أن الرموز الدينية ليست مرادفة للتوتر. في الشارع، مررت بجانب شرطيات يرتدين الحجاب".
وأضاف: "الأمور في فرنسا تتحول من السيئ إلى الأسوأ. اللغة المستخدمة خلال الحملة الرئاسية وصلت إلى مستوى لا يطاق من العنف. لن أعود إلى هناك حتى لو أعطوني مليون يورو".
ويبدو أن كثيراً من المسلمين الذين يغادرون بلدهم الأم كانوا من ذوي الكفاءات العالية. لكن بالنسبة للشباب، تعد الغربة بادئ ذي بدء طريقةً لبث روح جديدة في مسيرتهم المهنية.
قال فام: "إنه لشيء مؤسف بالنسبة لفرنسا؛ لأن فرنسا منحتنا كل شيء، إنها البلد الذي تدربنا فيه؛ حيث نفهم شؤون البلاد".
لكن كيموش كانت لديه كلمات أقسى لوصفها؛ فقد قال: "إنها مقلب نفايات فظيع.. إنه محزن، محزنٌ حد الجنون".