لماذا تمثل انتخابات فرنسا البرلمانية “كابوساً فعلياً” لماكرون؟ فتّش عما يعنيه “التعايش السياسي”

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/01 الساعة 15:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/01 الساعة 15:26 بتوقيت غرينتش
ماذا تحمل انتخابات برلمان فرنسا لماكرون؟/ رويترز

يعود الناخبون في فرنسا إلى صناديق الاقتراع خلال يونيو/حزيران الجاري لاختيار ممثليهم في الجمعية الوطنية (البرلمان)، في انتخابات تمثل مفترق طرق للرئيس إيمانويل ماكرون، فهل يتعرض لشل حركته ويضطر للتعايش السياسي؟

كان ماكرون قد فاز بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات التي جرت في أبريل/نيسان الماضي، بعد أن فاز في الجولة الثانية بنسبة 58% مقابل 42% حصلت عليها مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، ليصبح بذلك أول رئيس يفوز بفترة ثانية منذ جاك شيراك قبل أكثر من 16 عاماً.

لكن وبمجرد إعلان النتيجة، وفي خطاب النصر وسط فرحة مناصريه عند برج إيفل، انطلقت التكهنات بشأن العقبات التي تنتظر الرئيس، وظهر على الفور وصف "البطة العرجاء" على لسان المحللين، والسبب هو الانتخابات البرلمانية، وما قد تسفر عنه من وضع يوصف فرنسياً بالتعايش السياسي.

ماذا يعني التعايش السياسي في فرنسا؟

نظام الحكم في فرنسا نظام رئاسي يعطي للرئيس سيطرة شبه كاملة على كافة النواحي التنفيذية في البلاد، ويجعله صاحب القرار الأول في قضايا السياسة الخارجية والأمن والقوات العسكرية، بالإضافة إلى السياسات الداخلية، لكن في حالة انتماء الرئيس لتيار سياسي وفوز تيار سياسي آخر بالأغلبية في الجمعية الوطنية أو البرلمان الفرنسي، تتقلص كثيراً صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الحكومة الذي ينتمي للأغلبية البرلمانية.

ومن هنا يأتي مصطلح "التعايش السياسي"، حيث يكون الرئيس مضطراً لأن "يتعايش" مع رئيس الوزراء المنتمي للأغلبية البرلمانية، وهو ما يعني ببساطة أن يكون الرئيس مجبراً على التخلي عن بعض من الوعود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، وربما أغلبها، أي أنه يصبح بمثابة البطة العرجاء سياسياً.

وعرفت فرنسا هذا النوع من التعايش السياسي ثلاث مرات خلال الجمهورية الخامسة، كانت أول مرة في عهد الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران مع جاك شيراك (بصفته رئيساً للوزراء)، في الفترة من 1986 حتى 1988. وكانت المرة الثانية من التعايش السياسي بين ميتران أيضاً وإدوار بلادور من 1993 إلى 1995، أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت بين جاك شيراك كرئيس في تلك المرة، ورئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان من 1997 إلى 2002، بحسب تقرير لموقع فرانس24.

لوبان
مرشحة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان – Getty Images

في تلك الحالة يجد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أنه لا مفر من "التعايش" معاً من أجل تسيير شؤون البلاد. وينعكس هذا الوضع سلباً، بطبيعة الحال، على رئيس الجمهورية الذي يمتلك في الأحوال العادية أغلب -إن لم يكن كل- الصلاحيات، فيجد نفسه مضطراً للتخلي عن بعض الصلاحيات المتعلقة بالسياسة الداخلية.

ماذا لو فشل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في التعايش معاً إذاً؟ يمكن لرئيس الجمهورية أن يجبر رئيس الحكومة على تقديم الاستقالة، لكن في تلك الحالة يتم حل البرلمان (الجمعية الوطنية) والذهاب لانتخابات برلمانية مبكرة، لكن هذا السيناريو لم يحدث خلال المرات الثلاث السابقة من "التعايش السلمي".

ما الذي يجعل هذا السيناريو محتملاً بالنسبة لماكرون؟

يرأس ماكرون حزب "الجمهورية إلى الأمام"، الذي أسسه قبل انتخابات 2017، وهو ينتمي إلى تيار الوسط سياسياً، لكن خلال فترة ماكرون الرئاسية الأولى ابتعد الرئيس عن الوسط بصورة لافتة، وأصبح أقرب إلى اليمين، وأحياناً اليمين المتطرف، للفوز بأصواته، وهو ما جعله يفقد قاعدته الانتخابية الشعبية التي أوصلته لقصر الإليزيه عام 2017 كأصغر رئيس في تاريخ فرنسا.

ورغم فوز ماكرون بفترة رئاسية ثانية، فإن ذلك لا يعني ترجمة لشعبيته هو أو شعبية الحزب أو التيار السياسي الذي يمثله، بقدر ما يمثل رفضاً لليمين المتطرف، الذي تأهلت مرشحته لوبان لجولة الإعادة الحاسمة بفارق ضئيل أمام مرشح اليسار الراديكالي جون-لوك ميلونشون، زعيم حزب فرنسا الأبيه.

واعترف ماكرون نفسه، في خطاب الانتصار، مساء الأحد 17 أبريل/نيسان الماضي، بهذه الحقيقة، حيث أقر بأن كثيرين ممَّن صوتوا له فعلوا ذلك لمنع لوبان من الوصول إلى الرئاسة، وليس لأنهم يدعمون أفكاره. وقال لمناصريه: "لن يعاني أحد من الإهمال والتهميش، لن تكون المدة المقبلة مثل الولاية السابقة، سنستكشف معاً طريقاً جديداً للإنجاز من أجل خمس سنوات أفضل".

فرنسا جواز التلقيح
احتجاجات في فرنسا ضد ماكرون/ رويترز

أما بالنسبة لحزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام"، فقد جاء أداؤه في انتخابات الأقاليم التي أجريت في يونيو/حزيران من العام الماضي، كارثياً بكل المقاييس، إذ لم ينجح أي من مرشحي الحزب، بل ولم يتأهل أي منهم لجولة الإعادة الحاسمة من الأساس، في مؤشر واضح على مدى تراجع شعبية الحزب، الذي يرى كثير من المراقبين أنها مرتبطة بالأساس بشعبية ماكرون نفسه.

وقد بدأت بالفعل العملية الانتخابية، إذ تقدمت الأحزاب السياسية بأوراق مرشحيها خلال الفترة من 16 إلى 20 مايو/أيار الماضي، فيما تجري الجولة الأولى من التصويت 12 يونيو/حزيران الجاري، والجولة الثانية يوم 19 من الشهر نفسه.

وقد أعلنت مارين لوبان عن ترشحها بالفعل، وهو ما يعني أنها ستكون مرشحة فوق العادة لرئاسة الحكومة، إذا ما فاز تيار اليمين المتطرف الذي تنتمي إليه بأغلبية برلمانية في تلك الانتخابات، وهذا الاحتمال وحده كفيل بأن تكون هناك حاجة ملحة لإعادة تعريف "التعايش السياسي" في فرنسا، فلوبان وماكرون تَواجها في الانتخابات الرئاسية مرتين متتاليتين، والعداء بينهما لا يحتاج للتوضيح، فكيف يمكن أن "يتعايشا" معاً؟

ماذا يعني "تقييد" ماكرون سياسياً؟

تسعى الأحزاب السياسية الكبرى في فرنسا إلى الفوز بأكبر عدد من مقاعد الجمعية الوطنية، البالغ عددها 577 نائباً، فالتكتل السياسي الذي ينال الأغلبية يمكنه تغيير القوانين وفرض أجندته السياسية من خلال التشريعات، هذا بخلاف مراقبة أعمال وأداء الحكومة، ومساءلة الوزراء كتابياً أو شفهياً مرتين في الأسبوع (الثلاثاء والأربعاء)، بشأن المستجدات السياسية والاقتصادية في الدوائر الانتخابية التي فازوا فيها، أو حول مواضيع تتعلق بالشؤون الداخلية للبلاد.

ويمكن لأي تكتل سياسي فائز بعدد 185 مقعداً أن يطلب تنظيم استفتاء شعبي بخصوص أي تغيير دستوري يراه مناسباً، شرط أن تحصل هذه المبادرة السياسية على 4 ملايين توقيع من قِبل الناخبين. أما فيما يخص عملية الرجوع إلى المجلس الدستوري، لكي يبتّ في شرعية قانون ما أو حكم ما، فهذا يتطلب من الحزب أن يضم 60 نائباً في الجمعية الوطنية. وفي حال وقع 58 نائباً على اقتراح يقضي بسحب الثقة من الحكومة، يتم قبل كل شيء تنظيم نقاش عام ينتهي بالتصويت على هذا الاقتراح.

وقد تشكّلت بالفعل تكتلات سياسية في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أبرزها الاتفاق بين حزب الخضر وحزب فرنسا الأبية اليساري، بزعامة ميلونشون، وفقاً لما ذكره زعيما الحزبين قبل أيام، مع سعي اليسار لتشكيل جبهة مشتركة في مواجهة ماكرون في الانتخابات البرلمانية.

احتجاجات حركة السترات الصفراء في فرنسا ضد سياسات ماكرون الاقتصادية، أرشيفية/ رويترز

وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن ماكرون ما زال بإمكانه تفادي سيناريو "التعايش السياسي"، الذي سيكون بمثابة كابوس حقيقي للرئيس، سواء فاز اليمين المتطرف بزعامة لوبان أو الجبهة المشتركة من اليسار الاشتراكيّين.

فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة هاريس إنتراكتيف، في الفترة من 24 إلى 25 أبريل/نيسان الماضي، أن اليسار الموحد سيحصل على 33% من الأصوات، بالتساوي مع تحالف حزب ماكرون والمحافظين، رغم أن ذلك يمكن أن يتحول إلى أغلبية لصالح الرئيس في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية.

وأظهر الاستطلاع نفسه حصول اليمين المتطرف على 31%، رغم أن التحركات لبناء تحالفٍ أقل وضوحاً في نهاية الأمر، حيث ينقسم أعضاء المحافظين بين الرغبة في الانضمام إلى ائتلاف ماكرون، أو البقاء مستقلين أو الميل إلى صف لوبان.

وتعتبر قضية سن التقاعد في فرنسا حجر الزاوية في الإصلاحات التي يريد ماكرون إدخالها، حيث يريد رفع سن المعاش في البلاد إلى 65 عاماً، إضافة إلى حزمة أخرى من التعديلات يرفضها جميع المنافسين له في الانتخابات كلوبان وميلونشون، اللذين يريدان تحديد سن المعاش عند 60 عاماً، إضافة إلى وعود أخرى، عكس ما يريد ماكرون تنفيذه اقتصادياً تماماً.

يقترح ميلنشون رفع الحد الأدنى للأجور وخفض سعر الوقود إلى يورو واحد فقط، إضافة إلى تقديم منحة طلابية تقدر بـ1063 يورو، بينما يرى ماكرون أن هناك ضغوطاً كبيرة على الاقتصاد، ويريد تقديم امتيازات أكثر لأصحاب الأعمال بغرض خلق مزيد من فرص العمل، وهي الإصلاحات التي يصفها منتقدوه بأنها تخدم الأغنياء فقط.

الخلاصة هنا أن فكرة التعايش السياسي في فرنسا تبدو احتمالاً وارداً بقوة عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فهل يجد ماكرون نفسه مجبراً على قبول أي من أبرز منافسيه، لوبان أو ميلونشون، كرئيس للوزراء؟ الإجابة ستتضح للجميع خلال أسابيع قليلة.

تحميل المزيد