تحولت دول جنوب المحيط الهادئ من جزر صغيرة لا يكاد يعرفها العالم إلى بؤرة لأزمة كبرى بين الصين والغرب.
فلقد اكتشف الغرب فجاة أهمية دول جنوب المحيط الهادئ التي سبق أن احتلها، وكان يتعامل معها بإهمال إن لم يكن بتعالٍ، بعد أن بدأت الصين خطوات عملية للتوغل في هذه الجزر، التي تجاور أستراليا ونيوزيلندا وتمثل الدرع الأولى لحماية هذين البلدين الغربيين من الصين، كما حدث خلال القتال بين أمريكا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
إذ تسعى الصين إلى إبرام اتفاق شامل للتعاون الأمني والاقتصادي بين دول جنوب المحيط الهادئ، ويتهمها الغرب بأنها ترمي بهذه الاتفاق إلى بسط هيمنتها على الإقليم وتمديد نفوذها في بلدانه، الأمر الذي أثار مخاوف شديدة من قبل الدول الغربية وبعض زعماء دول المحيط الهادئ.
لماذا يثير الاتفاق الصيني مع دول جنوب المحيط الهادئ يثير هلع الغرب؟
ويتسع نطاق الاتفاقية الصينية إلى مجالات عدة، وتبتغي الصين بها تقارباً أوثق بكثير مع دول جنوب المحيط الهادئ، لا سيما في المسائل الأمنية، فهي تقترح على دول الاتفاق معاونتها في تدريب قوات الشرطة، والأمن السيبراني، والتشارك في رسم الخرائط البحرية الحساسة، وفي الوقت نفسه تعزيز قدرات الصين على الوصول إلى الموارد الطبيعية لتلك الدول واستغلالها.
وأصبحت دول جنوب المحيط الهادي محط أنظار العالم، بعدما أعربت الدول الغربية عن انزعاجها من توقيع جزر سليمان المفاجئ على اتفاقية أمنية واسعة مع الصين، وسط تقارير عن عزم بكين توقيع اتفاقية موسعة مع دول المنطقة.
وتواجه بلدان جزر المحيط الهادئ تحديات مشتركة ناتجة عن صغر حجمها وعزلتها الجغرافية وتأثرها الشديد بالتغييرات المناخية وتعرضها للكوارث الطبيعية، كما تعاني المنطقة من مستويات عالية من الفقر ونمو اقتصادي بطيء، وتساهم المخاوف المتزايدة بشأن إساءة استخدام السلطة والفساد المزعومة، في عدم الاستقرار والفشل في دعم حقوق الإنسان.
والدول العشر المشكلة للمنطقة هي فيجي (عدد سكانها نحو 850 ألف نسمة)، جزر سليمان (553 ألفاً)، فانواتو (251 ألفاً)، ميكرونيزيا (103 آلاف)، تونغا (103 آلاف)، كيريباتي (103 آلاف)، جزر المارشال (53 ألفاً)، بالاو (نحو 21 ألفاً)، ناورو (نحو 11 ألفاً)، وتوفالو (11 ألفاً).
ويمكن أن تمثل خطة التعاون بين الصين ودول جنوب المحيط الهادئ إذا تمت الموافقة عليها نقطة تحول كبرى لا سيما لتسهيلها عدداً من الأنشطة الأمنية والعسكرية الصينية.
أستراليا تتزعم الحملة الغربية ضد الاتفاق الصيني
ودعت أستراليا دول جنوب المحيط الهادئ إلى صد محاولات الصين التي تسعى للتقرب من دول المنطقة لتوسيع سيطرتها في مجال الأمن. من جانبها، دعت وزارة الخارجية الأمريكية دولاً إلى التزام الحذر من "اتفاقات بكين الغامضة والمبهمة وغير الشفافة".
ويقترح مشروع الاتفاقية على عشر دول جزرية صغيرة مساعدات صينية بملايين الدولارات وإمكانية إبرام اتفاق للتجارة الحرة بين الصين وجزر الهادئ للوصول إلى السوق المربحة للصين التي تعد 1.4 مليار نسمة.
في المقابل، ستدرّب بكين الشرطة المحلية وستتدخل في الأمن الإلكتروني المحلي وتوسع العلاقات السياسية. كما ستجري عمليات مسح بحرية حساسة وستحصل على حق الوصول بشكل أكبر إلى الموارد الطبيعية المحلية.
وتعد منطقة جنوب الهادئ مسرحاً للتنافس بين الصين والولايات المتحدة التي كانت القوة الرئيسية في المنطقة على مدى القرن الماضي.
وسعت بكين لتعزيز حضورها العسكري والسياسي والاقتصادي في جنوب الهادئ، لكنها لم تحقق حتى الآن غير تقدّم محدود وغير متساو.
ويعتقد أن الاتفاق الصيني المقترح مع دول جنوب المحيط الهادئ والذي يسمى "رؤية التنمية الشاملة" سيعرض ليتم إقراره أثناء اللقاء المقرر في فيجي بين عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي ووزراء خارجية دول المنطقة في 30 أيار/مايو.
وبينما تحدث بعض التقارير الغربية عن أن الاتفاق يسمح للصين بإنشاء قواعد عسكرية لها أو إرسال قوات لهذه البلدان، قال وزير الخارجية الصيني في مؤتمر صحفي بعد لقائه نظيره في جزر سليمان جيريمايا مانيلي إن هذا الاتفاق "لا يُفرض على أحد، لا يستهدف أي طرف آخر، ولا نية على الإطلاق لبناء قاعدة عسكرية".
وحصلت صحيفة The Guardian البريطانية على مسودة الاتفاقية، وقالت إنها مكتوبة بأسلوب مشابه للاتفاق الأمني الذي وقعته الصين وجزر سليمان الشهر الماضي وأثار الجدل في أستراليا ودول غربية.
والاتفاق يرتكز على خطة عمل مدتها خمس سنوات، ويشمل التعاون في مجالات متنوعة، منها التجارة والتمويل والاستثمار والسياحة والصحة العامة، ودعم التصدي لجائحة كورونا، وتعزيز التبادل الثقافي، ونشر اللغة الصينية، وتيسير سبل التدريب والمنح الدراسية، بالإضافة إلى المساعدة في مجال الإغاثة والوقاية من الكوارث.
انطلق وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، في جولة ممتدة عبر المحيط الهادئ لمناقشة الاتفاقية مع زعماء دول المنطقة، في وقت تقوم فيه وزيرة خارجية أستراليا بجولة مضادة في المنطقة.
وتأمل الصين في أن تحظى الاتفاقية بتأييد عشر دول من منطقة المحيط الهادئ خلال اجتماع سيعقد في فيجي، حيث سيعقد الاجتماع الثاني لوزراء خارجية الصين ودول المحيط الهادئ.
في المقابل، أصدرت وزيرة الخارجية الأسترالية الجديدة، بيني وونغ، بياناً للتعليق على ما ورد في مسودة الاتفاقية، وقالت فيه: "لقد كشفت الصين عن مقاصدها، لكن الحكومة الأسترالية الجديدة أوضحت نيتها أيضاً".
وزير خارجية فيجي يقول إننا سنجلس على جميع الطاولات
وقال فرانك باينيماراما، رئيس وزراء فيجي، في تغريدة على موقع تويتر، إنه التقي وزيرة خارجية أستراليا يوم الجمعة 27 مايو/أيار، ويلتقي وزير خارجية الصين يوم الإثنين 30 مايو/أيار، وهو ما يشير بوضوح إلى عزمه مناقشة الاتفاقية التي عرضتها الصين. وكتب باينيماراما: "لقد سُئلت عن خطة فيجي، وإجابتي أننا سنجلس إلى جميع الطاولات ونتحدث إلى كل الأطراف، فأكبر همنا هو شعبنا وكوكبنا، والحفاظ على احترام القانون الدولي".
وتُشدد الصين في الاتفاقية على التزامها العمل على مضاعفة ما بلغته التجارة في عام 2018 بحلول عام 2025، وتتعهد بتقديم مليوني دولار لدول جزر المحيط الهادئ ضمن مساعدات مخصصة للإغاثة من جائحة كورونا، بالإضافة إلى إرسال 200 شخص من موظفي القطاع الطبي على مدى خمس سنوات. وتقدم الصين أيضاً 2500 منحة حكومية لدول المنطقة، وترسل من 5 إلى 10 فرق فنية إلى الجزر بعد انتهاء إجراءات الإغلاق المرتبطة بجائحة كورونا.
ما يخيف الغرب الجانب المتعلق بتعزيز الصين لتعاونها الأمني مع دول المنطقة
أما محور التركيز الرئيسي للاتفاقية المقترحة، فهو تعزيز تعاون الصين مع تلك الدول فيما يتعلق بأمن المحيط الهادئ.
تتضمن الاتفاقية توسعاً في ربط الصين بقوات الشرطة والأمن في دول المنطقة، فمسودة الاتفاقية تقترح "توسيع التعاون في مجال إنفاذ القانون، والاشتراك في مكافحة الجريمة العابرة للحدود، وإنشاء آلية للحوار حول تعزيز قدرات إنفاذ القانون والتعاون الشرطي".
يبدي الاتفاق اهتماماً كبيراً بإشراف الصين على تدريب قوات الشرطة في دول المحيط الهادئ، وهو أمر تشارك فيه بالفعل في جميع أنحاء المنطقة، وتعرض الصين إجراء "تدريب متوسط وعالي المستوى" لقوات الشرطة في بلدان المحيط الهادئ، ولتعجيل العمل بذلك "تعقد الصين ودول جزر المحيط الهادئ أول حوار وزاري لمناقشة المسائل المتعلقة بقدرات إنفاذ القانون، والتعاون الشرطي" لاحقاً هذا العام، وعلاوة على ذلك، تساعد الصين دول المنطقة في بناء مختبرات البصمات، والتشريح الجنائي للجثث، والطب الشرعي الإلكتروني والرقمي.
وتتطلع الاتفاقية أيضاً إلى تعزيز التعاون في مجال "الأمن السيبراني"، وتعميم "القواعد الحاكمة لإدارة البيانات العالمية".
كما يتضمن الاتفاق بحث إنشاء منطقة تجارة حرة
ويعرض الاتفاق تعزيز التجارة بين دولِه، والنظر في إنشاء "منطقة تجارة حرة" بين دول المحيط الهادئ، بالإضافة إلى توسيع التعاون في مجالات البنية التحتية والطاقة والتعدين وتكنولوجيا المعلومات والتجارة الإلكترونية والزراعة والغابات ومصايد الأسماك، وتسعى الصين إلى زيادة استثمارها المباشر في دول المحيط الهادئ من خلال "الشركات الصينية طيبة السمعة".
ومما يزيد المخاوف، اقتراح الصين على دول المنطقة مشاركتها في رسم الخرائط البحرية، والسماح لها بالحصول على قدر أكبر من الموارد الطبيعية نظير مكاسب أخرى لتلك الدول.
يأتي ذلك فيما تهيمن الصين بالفعل على استخراج الموارد في المحيط الهادئ. فقد كشف تقرير عُني بإحصاء القوارب العاملة في منطقة المحيط الهادئ عام 2016، أن الصين تملك 290 سفينة صناعية مرخصة للعمل في المنطقة آنذاك، وهو ما يزيد بنحو الربع على عدد السفن التي تملكها دول المحيط الهادئ مجتمعة، والتي لا تتجاوز 240 سفينة.
بعض دول المنطقة تعارض الاتفاق لأنها تخشى وقوع حرب بين تايوان والصين
في المقابل، أفصحت بعض دول المحيط الهادئ عن معارضة صريحة للاتفاقية، ففي رسالة بعث بها ديفيد بانويلو، رئيس ولايات مايكرونزيا المتحدة، إلى 21 زعيماً من قادة دول المحيط الهادئ، قال إن بلاده ستدفع بضرورة رفض "البيان الذي تم التوافق على إصداره مسبقاً" في الاجتماع المزمع في فيجي، لأنه يخشى أن تؤدي هذه التدابير إلى اندلاع "حرب باردة" بين الصين والغرب.
وكتب بانويلو أنه إن غزت الصين تايوان، فإن ذلك "يساوي اندلاع الحرب بين الصين والولايات المتحدة"، ويعرِّض المنطقة لخطر "الوقوع في مرمى نيران الدول الكبرى".
وحذر بانويلو من أن الاتفاق يسعى إلى "تعزيز نفوذ الصين على حكومات دول المنطقة"، علاوة على سيطرتها على البنية التحتية للاتصالات، ومصائد الأسماك الجماعية، وقطاع استخراج الموارد، كما أن بنود الاتفاقية "تفتح الباب أمام اختراق بلداننا، واعتراض المكالمات الهاتفية، ورسائل البريد الإلكتروني، ومراقبتها".
وقال دبلوماسي بارز في إحدى دول المحيط الهادئ، لصحيفة The Guardian، إن بعض قادة المنطقة "متخوفون بشدة من [الخطة الصينية]، لكن المنطقة تعاني فراغاً من الشركاء التقليديين [الغربيين]، وعليهم أن يبذلوا جهداً أكبر لاستعادة قلوب الناس في دول المحيط الهادئ".
وأشار الدبلوماسي إلى أن الاتفاقية ليست مضمونة التوقيع بعدُ، و"نحن نعمل من خلال البنية الإقليمية، للحفاظ على أمن منطقتنا واستقرارها، استناداً إلى قواعد القانون الدولي".