هل الانفصال بين الولايات المتحدة والصين على المستوى الاقتصادي، أقرب إلينا من المتوقع، وهل تستطيع الولايات المتحدة الاستغناء عن الصين وسلعها الرخيصة؟، ومن يدفع الثمن الأكبر جراء هذا الطلاق المحتمل بين القوتين؟
أصبحت هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً مع جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن الآسيوية الأخيرة التي تهدف لحشد تحالف اقتصادي وسياسي وحتى عسكري ضد الصين، وإعلانه عزم واشنطن التصدي عسكرياً لبكين لو حاولت غزو تايوان، وهو التصريح الذي أثار لغطاً خاصة بعد محاولة المسؤولين الأمريكيين تداركه بتأكيدهم أن بلادهم لم تتخلّ عن سياسة الغموض بشأن رد فعلها على أي تحرك عسكري صيني ضد تايبيه.
ومع فرض الولايات المتحدة وبصورة أقل حلفائها الغربيين عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، يبدو احتمال الانفصال بين أمريكا والصين أكثر واقعية، خاصة مع بدء عملية عزل موسكو اقتصادياً واستعداد الدول الغربية حتى الآن لتحمل عواقب ذلك اقتصادياً.
وفي ظل حقيقة أن أمريكا كانت ترى قبل حرب أوكرانيا في الصين وليس روسيا المنافس والخصم الرئيسي، فإن احتمال الانفصال بين الولايات المتحدة والصين، بات مسألة ملحة، بالنسبة لكثير من المسؤولين الأمريكيين، وبات السؤال: هل تستطيع أمريكا تحمل تكلفة الانفصال؟
"الصين تعرّض حياتنا للخطر".. كيف دقت جائحة كورونا ناقوس الخطر في الغرب؟
"مواطنو أقوى وأغنى دولة في العالم لا يجدون كمامات تحميهم من العدوى" هذا ما حدث في بداية جائحة كورونا عندما منعت الصين تصدير الكمامات لتخصصها للاستخدام المحلي.
حينها اكتشف الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة أنه يعتمد على بكين في توفير أبسط الاحتياجات، وأنه بدون سلاسل التوريد الصينية يمكن أن يصبح على شفا كارثة صحية ومجاعة صناعية، إن صح التعبير.
وأصبحت المواقف الأمريكية تجاه الصين أكثر سلبية خلال هذه الفترة، حيث تصاعد الغضب بسبب الاضطرابات الناجمة عن جائحة COVID-19، وتقليل بكين لمدى الحكم الذاتي لهونغ كونغ، وانتهاكات حقوق الإنسان بحق المسلمين الإيغور في شينجيانغ، وقبل ذلك فقدان بعض الأمريكيين لبعض الوظائف بسبب المنافسة الصينية.
بالنسبة لكثير من الأمريكيين لم يقدم الوباء درساً في النظافة الأساسية، بل الدرس الأساسي أنه من الدواء إلى الشركات الصغيرة المصنعة لأكواب القهوة، فإن كل ما يحتاجه المواطن الأمريكي يأتي من الصين، حسب وصف تقرير لمجلة Forbes الأمريكية.
خصمان شديدا الترابط
ولكن المشكلة التي تجعل الانفصال بين الولايات المتحدة والصين صعباً للغاية أن اقتصادي البلدين مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، نظراً لأن الدولتين لديهما شراكة تجارية كبيرة للسلع والخدمات والاستثمار والتصنيع وسلاسل التوريد.
فالعولمة بمفهومها الحديث تكاد تكون نتاج شراكة صينية أمريكية، مع دور أوروبي وآسيوي كبير، حيث يقدم الهاتف الشهير الآيفون، نموذجاً واضحاً لذلك، حيث يصمَّم في أمريكا ويُصنَّع في الصين، ويستهلك في بقية العالم.
ونتجت هذه العولمة عن التنافسية والتكامل بين الأسواق الرئيسية في العالم، بحيث تخصص كل سوق رئيسي في عملية تصميم وإنتاج كفؤة لمجموعة من السلع والخدمات، إذ تتمتع الولايات المتحدة وأوروبا والصين بمزايا نسبية مختلفة تنعكس في تكوين صادراتها. إذ تتخصص أوروبا في السلع والآلات الاستهلاكية عالية الجودة، والولايات المتحدة في المنتجات الزراعية والمكونات عالية التقنية والخدمات؛ والصين في السلع الاستهلاكية الأساسية والمدخلات.
ولقد استفاد المستهلكون الأمريكيون من انخفاض أسعار المنتجات الصينية، واستفادت الشركات الأمريكية بشكل كبير من الوصول إلى السوق الصينية. في دراسة أجريت عام 2019، وجد الاقتصاديان Xavier Jaravel و Erick Sager أن زيادة التجارة مع الصين عززت القوة الشرائية السنوية للأسرة الأمريكية العادية بمقدار 1500 دولار بين عامي 2000 و2007.
وتعد الصين حالياً أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في السلع، وثالث أكبر سوق تصدير، وأكبر مصدر للواردات.
وبلغ إجمالي تجارة السلع (ثنائية الاتجاه) 559.2 مليار دولار أمريكي خلال عام 2020. وبلغ إجمالي صادرات السلع الأمريكية للصين 124.5 مليار دولار أمريكي؛ وبلغ إجمالي الواردات الأمريكية السلعية من الصين 434.7 مليار دولار، مما أدى إلى عجز هائل لصالح الصين قدره 310.3 مليار دولار في عام 2020.
وبلغ إجمالي تجارة الخدمات مع الصين (الصادرات والواردات) 56.0 مليار دولار في عام 2020. وبلغت صادرات الخدمات الأمريكية للصين 40.4 مليار دولار؛ وبلغت واردات الخدمات الأمريكية من الصين 15.6 مليار دولار. بلغ فائض تجارة الخدمات الأمريكية مع الصين 24.8 مليار دولار في عام 2020.
وفرت الصادرات الأمريكية إلى الصين ما يقدر بنحو 1.2 مليون وظيفة في الولايات المتحدة في عام 2019. وتفيد معظم الشركات الأمريكية العاملة في الصين بأنها ملتزمة بسوق الصين على المدى الطويل.
عملية الانفصال بين الولايات المتحدة والصين بدأت في هذه المجالات
رغم العلاقات التجارية والاقتصادية الوثيقة بين الصين وأمريكا، ولكن البلدين ينفذان عملية انفصال بطيئة، حيث يفرض المنظمون الصينيون سيطرة أكبر على توظيف رأسمال شركاتهم في خارج الصين، ويشدد قادة الصين على الحاجة إلى مزيد من "الاكتفاء الذاتي" التكنولوجي ويضخون مليارات الدولارات من رؤوس أموال الدولة في هذا الاتجاه.
في غضون ذلك، يسعى المسؤولون الأمريكيون إلى تقييد الاستثمارات الأمريكية من الذهاب إلى الشركات الصينية المرتبطة بقطاعي الجيش أو المراقبة. قد يؤدي تدقيق لجنة الأمن والتبادل في العروض العامة الأولية للشركات الصينية وتركيزها على ضمان استيفاء الشركات الصينية لمعايير المحاسبة الأمريكية إلى إزالة بعض الشركات الصينية المدرجة حالياً من البورصات الأمريكية.
وسعى كلا البلدين إلى فصل سلاسل التوريد حول التقنيات الحساسة مع الأمن القومي، ويسعى المسؤولون الأمريكيون إلى زيادة الوعي بالمخاطر التي تواجه الشركات الأمريكية في ممارسة الأعمال التجارية في هونغ كونغ وشينجيانغ.
كانت إحدى نقاط العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين التي ضمرت في السنوات الأخيرة هي تدفق الاستثمارات الصينية إلى الولايات المتحدة. كان هذا إلى حد كبير نتاج ضوابط مشددة على رأس المال في الصين، وتزايد تدقيق الحكومة الصينية للاستثمارات الخارجية لشركاتها، وتعزيز فحص الولايات المتحدة للاستثمارات الصينية بسبب مخاوف الأمن القومي.
ولكن هناك مجالات تعاون مستمرة في الازدهار
ورغم التنافس المتزايد بينهما، حيث تحظى الخطابات والإجراءات حول الفصل بأكبر قدر من الاهتمام، لا تزال بيانات التجارة والاستثمار تشير بعناد في اتجاه الاعتماد المتبادل العميق، وستؤثر هذه الاتجاهات على كيفية إجراء المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في السنوات القادمة.
ورغم المنافسة بين البلدين، تعمل شركات الاستثمار الأمريكية على زيادة مواقعها في الصين، وتقدر مجموعة Rhodium أن المستثمرين الأمريكيين يمتلكون 1.1 تريليون دولار من الأسهم الصادرة عن الشركات الصينية، وأن هناك ما يصل إلى 3.3 تريليون دولار في الأسهم والسندات الأمريكية الصينية ذات الاتجاهين في نهاية عام 2020.
مجال آخر من مجالات الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين هو إنتاج المعرفة. كما لاحظ الخبير التكنولوجي الأمريكي-الصيني مات شيهان، "مع صعود المواهب ورأس المال الصيني، يتم الآن تبادل المعرفة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين بين الشركات الخاصة وبين الأفراد". تعمل شركات التكنولوجيا الرائدة في كلا البلدين على بناء مراكز بحثية في الدول الأخرى.
في مجال التعاون العلمي، يصنف مؤشر Nature البحث المشترك بين البلدين باعتباره الأكثر خصوبة أكاديمياً في العالم. نما التعاون العلمي بين الولايات المتحدة والصين بمعدل يزيد عن 10% سنوياً في المتوسط بين عامي 2015، و2019. حتى بعد الانتشار العالمي لـ COVID-19، تعاون الخبراء الأمريكيون والصينيون خلال عام 2020 أكثر من السنوات الخمس السابقة مجتمعة، حسب تقرير لموقع brookings الأمريكي.
وقد أدى ذلك إلى ظهور أكثر من 100 مقالة مشتركة في المجلات العلمية الرائدة وظهور مشترك متكرر في ورش عمل وندوات عبر الإنترنت تركز على العلوم.
وتعد الصين أيضاً أكبر مصدر للطلاب الدوليين في الولايات المتحدة. في العام 2019-20، كان هناك أكثر من 370 ألف طالب صيني في الولايات المتحدة، يمثلون 34% من الطلاب الدوليين في الكليات والجامعات الأمريكية.
حتى الآن، بقي العديد من أفضل الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة بعد التخرج وساهموا في التنمية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية لأمريكا. يبقى أن نرى ما إذا كان هذا الاتجاه سيستمر.
الصين تدعم الدولار الأمريكي
الصين هي ثاني أكبر مالك أجنبي للسندات الأمريكية الحكومية، واعتباراً من أغسطس/آب 2020، امتلكت 1.07 تريليون دولار في السندات الحكومية الأمريكية، أي حوالي 15% من الدين العام الأمريكي الذي تحتفظ به الدول الأجنبية.
وتشتري الصين الديون الأمريكية لدعم قيمة الدولار، وذلك لأن الصين تربط عملتها، اليوان، بالدولار الأمريكي. إنه يقلل من قيمة العملة عند الحاجة للحفاظ على تنافسية أسعار الصادرات.
صادرات الصين لأمريكا تتزايد رغم وعيد واشنطن
وعلى الرغم من مناشدات مجتمع الأعمال الأمريكي لتخفيف التوترات، قام الرئيس الأمريكي جو بايدن حتى الآن بتضخيم سياسات سلفه دونالد ترامب من خلال تعزيز التحالفات المناهضة للصين وتنفيذ عقوبات إضافية. يصف بايدن الآن الصراع بين الولايات المتحدة والصين بأنه "معركة بين الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين والأنظمة الاستبدادية".
المفارقة أنه بعد مرور سنوات من فرض الرسوم الجمركية من قبل ترامب لإصلاح العجز التجاري للولايات المتحدة، انتعشت التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين الآن إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وزاد الفائض التجاري للصين، وازداد العجز الأمريكي سوءاً.
المجالات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في الصين
الأدوية والإلكترونيات الصينية تهيمن على السوق الأمريكية
يتم إنتاج أكثر من 70% من المكونات الصيدلانية النشطة المستخدمة في السوق الأمريكية في الخارج، فعلى سبيل المثال، تقريباً كل إنتاج عقار الإيبوبروفين الذي يستعمل لعلاج الألم والحمى والالتهاب المباع في الولايات المتحدة يأتي من الصين.
ولقد أصبحت معدات الاتصالات المصنوعة في الصين مهمة جداً بالنسبة للأمريكيين.
في عام 2020، استوردت الولايات المتحدة بنحو 120 مليار دولار إلكترونيات من الصين ونحو 100 مليار دولار من الآلات والأجهزة ونحو 45 مليار دولار من لعب الأطفال.
كما أن دور الصين كأكبر مصرفي في أمريكا يمنحها نفوذاً. على سبيل المثال، تهدد الصين ببيع جزء من ممتلكاتها عندما تضغط عليها الولايات المتحدة لرفع قيمة اليوان.
الصين تحاصر أمريكا فعلياً بهذين السلاحين.. الأول المعادن الأرضية النادرة
وتمتلك الصين ورقتي ضغط قويتين في مجالين قد يمثلان خطراً كبيراً على الولايات المتحدة، حسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
والورقتان هما الهيمنة على موانئ الحاويات في العالم، وإمدادات العناصر الأرضية النادرة بالغة الأهمية ليس فقط في قطاع تكنولوجيا المعلومات، بل أيضاً في إنتاج السيارات الكهربائية والهجينة، والمقاتلات النفاثة، وأنظمة توجيه الصواريخ.
ففي قطاع التصنيع، تجد الصين نفسها في موقفٍ جيد بفضل وفرة المعادن المميزة التي تُعرف بالمعادن الأرضية النادرة، وهي من المكونات الرئيسية لمنتجات متقدمة تكنولوجياً في مجال الطاقة النظيفة، مثل توربينات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، وفي أسلحة عدة من المقاتلات النفاثة إلى الغواصات النووية.
إنّ سيطرة بكين على سوق المعادن الأرضية النادرة جعلت من الصعب- وشبه المستحيل- على الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا أن تبني سلاسل التوريد الخاصة بها وتديرها بشكلٍ تنافسي.
وقد استغلت الصين إمداداتها من المعادن الأرضية النادرة لجذب المصنعين الأجانب وزيادة قوتها الصناعية. كما أنّ نفوذ بكين زاد المخاوف من أنّها ستمتص الصناعات عالية التقنية من البلدان الأخرى- وأنها ستحظى بنفوذٍ كبير في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي.
وسبق أن استغلت الصين هيمنتها على المعادن الأرضية النادرة لأغراضٍ سياسية. ففي عام 2010، عقب تصاعد التوترات بين بكين وطوكيو، حظرت الصين- التي كانت تُنتج 93% من الإجمالي العالمي وقتها- صادراتها من المعادن الأرضية النادرة إلى اليابان.
وعاود هذا التهديد للظهور مرةً أخرى حين تنازع ترامب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ حول التعريفات الجمركية عام 2019، حيث لوحت بكين بشكل غير رسمي بقطع الصادرات التي تنتج بكين نسبة كبيرة منها، وإيقاف التصنيع الأمريكي بشكل مفاجئ.
وليس من المفاجئ في الأعوام الماضية زيادة الطلب على هذه المعادن في الاقتصادات المتقدمة، فهي موزعة بتركيزات منخفضة ومن المكلف استخراجها من الخامات، وهذه الصناعة استثمرت فيها الصين كثيراً منذ السبعينات.
ووفقاً للمسح الجيولوجي الأمريكي في 2020، أنتجت الصين 58% من المعادن الأرضية النادرة، وانخفضت النسبة من 90% قبل أربعة أعوام، إذ توسعت الولايات المتحدة وأستراليا في تعدين هذه العناصر.
لكن اعتباراً من 2018، استوردت الولايات المتحدة 80.5% من المعادن الأرضية النادرة من الصين. وفي مايو/أيار من هذا العام، أضافت إدارة ترامب هذه المعادن إلى قائمة من المعادن التي تُعتبر بالغة الأهمية للأمن الاقتصادي والوطني الأمريكي. وفي يوليو/تموز 2019، أعلنت الإدارة هذه العناصر "جوهرية للدفاع الوطني"، ما أتاح تخصيص موارد لوزارة الدفاع لتتحرك من أجل تأمين القدرات الإنتاجية المحلية للعناصر الأرضية النادرة.
وحتى إن زادت الولايات المتحدة من تعدينها لهذه العناصر، سيتطلب تكريرها تكنولوجيا متخصصة وعمالة مدربة واستثماراً أولياً مرتفعاً. وبسبب نقص هذه العوامل في الولايات المتحدة، تستمر الصين في شبه احتكار معالجة الخامات، مع شحن المواد الخام التي تحتوي على هذه العناصر الثمينة من خارج الصين إلى المواقع الصينية.
وتولد عملية التكرير أيضاً كميات كبيرة من المخلفات المشعة وتلوث البيئة. نتيجة لذلك، تلجأ الدول المتقدمة إلى إجراء عمليات التكرير في الاقتصادات النامية.
السلاح الثاني.. أمريكا محاصرة بخطوط الملاحة الصينية
في شهادة أمام الكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كشفت كارولين بارثولوميو، رئيسة لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية الصينية، أن ثلثي أكبر 50 ميناءً من موانئ الحاويات البحرية على الأقل يملكها ويديرها صينيون أو تدعمها استثمارات صينية. ويشمل هذا محطات في موانئ أمريكية كبرى بلوس أنجلوس وسياتل.
وقبل عامين، اعترف مسؤولون بشركة الشحن الحكومة الصينية China Ocean Shipping Company، وهي من أكبر خطوط شحن الحاويات في العالم، بأن الشركة وصلت بالفعل بين مساراتها وما يُعرف رسمياً بطريق الحرير البحري، لتربط بين أسواق إقليمية في غرب إفريقيا وشمالي أوروبا والكاريبي والولايات المتحدة، وتكوين شبكة تجارية عالمية أكثر شمولاً وتوازناً. وتشرح بارثولوميو أنه "في حالة نشوب نزاع، يمكن أن تستعمل الصين سيطرتها على هذه الموانئ وموانئ أخرى في إعاقة التجارة الواصلة إلى البلدان الأخرى".
ماذا ستخسر الولايات المتحدة إذا انفصلت عن الصين اقتصادياً؟
أصدر مركز الصين التابع لغرفة التجارة الأمريكية "US Chamber"، بالشراكة مع مجموعة Rhodium Group، تحليلاً نُشر في فبراير/شباط 2021 لرصد نتائج الفصل بين الولايات المتحدة والصين على المستوى الاقتصادي.
يحدد التحليل التكاليف المحتملة لفصل الولايات المتحدة والصين من منظورين: التكاليف الإجمالية لاقتصاد الولايات المتحدة عبر أربع قنوات رئيسية (التجارة والاستثمار والأفراد والأفكار) والتكاليف على مستوى الصناعة في أربعة مجالات ذات أهمية وطنية (الطيران المدني وأشباه الموصلات والمواد الكيميائية والأجهزة الطبية).
بالنسبة للتكاليف الإجمالية.. يقول معدو التحليل إنه إذا انفصلت الولايات المتحدة والصين تماماً، فستتأثر الشركات الأمريكية والاقتصاد الأمريكي بشكل كبير، مما ينتج عنه مئات المليارات من الناتج المحلي الإجمالي الضائع وخسائر في الأرباح الرأسمالية مع تقويض الإنتاجية والابتكار في الولايات المتحدة.
التجارة: سيكون هناك خسارة 190 مليار دولار سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الضائع بحلول عام 2025 إذا تم فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع التجارة ثنائية الاتجاه.
الاستثمار: 25 مليار دولار سنوياً سيخسرها الأمريكيون في حال الفصل الحاد في شكل مكاسب رأسمالية مفقودة وخسائر الناتج المحلي الإجمالي لمرة واحدة تصل إلى 500 مليار دولار إذا خفضت الشركات الأمريكية الاستثمار الأجنبي المباشر التراكمي في الصين بنسبة 50%.
السياحة والتعليم: سيكون هناك فقدان لنحو 30 مليار دولار سنوياً من صادرات تجارة الخدمات الأمريكية المفقودة إذا انخفض الطلاب الصينيون والسياح القادمون إلى الولايات المتحدة بنسبة 100%.
الأفكار: سيكون هناك مليارات في انخفاض الإنفاق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة؛ بسبب تضاؤل الوصول إلى المواهب والعلوم الصينية؛ ومنافسة أكبر مع الصين على المبتكرين العالميين.
أمريكا لديها مشكلة كبرى في أشباه الموصلات
"إن فصل الولايات المتحدة تماماً عن الصين من شأنه أن يقوض الريادة الأمريكية في مجال أشباه الموصلات"، حسبما قال جون نيوفر، الرئيس والمدير التنفيذي لاتحاد صناعة أشباه الموصلات بالولايات المتحدة.
واعتماداً على مدى الفصل، فإن فقدان الوصول إلى العملاء الصينيين لصناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة من شأنه أن يتسبب في خسارة 54 مليار دولار إلى 124 مليار دولار في الناتج الأمريكي، مما قد يؤدي بالمخاطرة بأكثر من 100 ألف وظيفة في الولايات المتحدة، و12 مليار دولار في الإنفاق على البحث والتطوير، و13 مليار دولار في الإنفاق الرأسمالي.
الصناعة الأمريكية ستصاب بخسائر هائلة
سيؤدي الفصل بين الولايات المتحدة والصين بشكل كامل إلى خسائر هائلة في الإنتاج الأمريكي للصناعات الأمريكية الاستراتيجية، مما يضعف قدرتها على الحفاظ على الوظائف الأمريكية والبحث والتطوير والريادة التكنولوجية العالمية.
صناعة الطيران الأمريكية: اعتماداً على مدى الفصل، فإن فقدان الوصول إلى سوق الصين للطائرات الأمريكية وخدمات الطيران التجاري من شأنه أن يؤدي إلى خسائر إنتاج أمريكية تتراوح من 38 مليار دولار إلى 51 مليار دولار ويتسبب في خسارة صناعة الطيران المدني الأمريكية 167000 إلى 225000 وظيفة. تراكمياً، قد تضيف التأثيرات المفقودة على حصتها في السوق الأمريكية ما يصل إلى 875 مليار دولار بحلول عام 2038.
صناعة الكيماويات: في فرض البلدين لرسوم جمركية في هذه الصناعة، تتراوح التكلفة المحتملة من 10.2 مليار دولار في كشوف المرتبات وتخفيضات الإنتاج في الولايات المتحدة و26 ألف وظيفة مفقودة، إلى 38 مليار دولار في خسائر الإنتاج وما يقرب من 100 ألف وظيفة مفقودة.
وقال كريس جان، الرئيس والمدير التنفيذي لمجلس الكيمياء الأمريكي، إن مصنعي المواد الكيميائية أعلنوا عن استثمارات جديدة تزيد عن 200 مليار دولار على مدار العقد الماضي، وهو ما يمثل أكثر من 50% من إنشاءات مصانع الولايات المتحدة.
وأضاف أن "الصين هي واحدة من أكبر وجهات التصدير للولايات المتحدة وكذلك مصدر رئيسي للمدخلات، والحد من الوصول إلى السوق الصيني سيكون له تأثير سلبي أكبر نسبياً على التصنيع في الولايات المتحدة؛ من تأثيره على بكين".
صناعة الأجهزة الطبية الأمريكية: تقدر قيمة خسارة الحصة السوقية للشركات الأمريكية بـ23.6 مليار دولار في الإيرادات السنوية، والتي من شأنها أن تتفاقم مع خسارة الإيرادات التراكمية التي تتجاوز 479 مليار دولار على مدى عقد أو ما يقرب من 48 مليار دولار سنوياً. قد يؤدي فقدان الإيرادات إلى فقدان الوظائف ويترجم إلى انخفاض قدره 33.5 مليار دولار في الإنفاق على البحث والتطوير على مدى العقد المقبل.
وفي المجمل قد يخسر الاقتصاد الأمريكي ما قيمته أكثر من تريليون دولار من الإنتاج والقدرة التنافسية العالمية طويلة الأجل إذا سعى البيت الأبيض إلى الفصل بين الولايات المتحدة والصين في المجال الاقتصادي بشكل حاد، وفقاً لتقرير غرفة التجارة الأمريكية ومجموعة الروديوم.
وقال التقرير إن الشركات الأمريكية تخاطر بفقدان القدرة التنافسية العالمية إذا فرضت سياسات شاملة للانفصال عن الصين.
هل تستفيد أمريكا من الاستغناء عن الصين؟
ومع ذلك، يرى الأمريكيون المؤيدون للانفصال عن الصين أن هناك فوائد لواشنطن من هذا الانفصال.
إذ يقولون إنه على الرغم من استفادة المستهلكين الأمريكيين من تدفق السلع الرخيصة من الصين، فقد ملايين الأمريكيين وظائفهم بسبب المنافسة على الواردات، ويراهنون على أن هذه الوظائف ستعود للأمريكيين إذا تم الانفصال عن بكين، رغم أنه على الأرجح ستذهب هذه الوظائف لدول آسيوية أخرى مثل الهند أو فيتنام، لديها ميزة الأيدي العاملة الرخيصة، خاصة أن ارتفاع الأجور في الولايات المتحدة والدولار القوي يضعف تنافسية الصناعة الأمريكية في كثير من الصناعات خاصة التي لا يوجد بها قيمة مضافة عالية.
كما يشير الأمريكيون المؤيدون للانفصال، إلى الفوائد المتأتية من وقف نزيف الخسائر الأمريكية جراء القرصنة ونقل التكنولوجيا الأمريكية فلطالما اتهمت الولايات المتحدة الصين بالضغط على الشركات الأمريكية لتسليم التكنولوجيا الخاصة بها، أو سرقتها على الفور.
كيف ستعاني الصين من الانفصال؟
في المقابل، فإن الصين قد تعاني بدورها بشدة من الانفصال عن الولايات المتحدة، ليس فقط لأن صادراتها لأمريكا أكبر بكثير من وارداتها فقط، ولكن بسبب القصور الصيني الذي ما زال مستمراً في مجال بعض التكنولوجيات الشديدة الأهمية مثل الأجزاء الأكثر الحساسة والمحورية في المنتجات الإلكترونية التي تأتي من الولايات المتحدة أو بعض حلفائها الغربيين، والآسيويين، وتكنولوجيا محركات الطائرات والسيارات.
ورغم أن بكين تستثمر بشكل كبير لإيجاد بدائل لهذه المنتجات، فإنها لم تتمكن من تحقيق ذلك أو على الأقل من توفير بدائل قريبة من مستوى إنتاج الدول الغربية والآسيوية الحليفة لواشنطن.
ويظهر فشل شركة Huawei الصينية بعد العقوبات الأمريكية عليها عدم قدرة الصين على الوصول إلى الاعتماد على الذات التكنولوجي بعد.
يبدو أن الانفصال بين الولايات المتحدة والصين إذا جرى بشكل سريع وحاد، سيكون مؤلماً إن لم يكن مدمراً للبلدين، وبالنسبة للولايات المتحدة تحديداً قد يؤدي لخسائر مادية كبيرة جراء تراجع الصادرات للصين والخسائر الناجمة عن استثمارات الشركات الأمريكية هناك، إضافة لخسائر أسواق المال الأمريكية والدولار جراء سحب الصين لأموالها من الولايات المتحدة، كما أن هذا الانفصال قد يسبب موجة تضخمية في الولايات المتحدة في وقت سجلت فيه البلاد أكبر معدل تضخم منذ 40 عاماً.
والأخطر هو تضرر سلاسل توريد الخاصة بالصناعات الأمريكية بما فيها صناعات حساسة مثل التكنولوجيا والطيران والأسلحة والسلع الاستهلاكية الأساسية، إذا توقف توريد الأجزاء المهمة في العديد من هذه الصناعات من الصين، والتي غالباً ما احتكرت بكين إنتاجها بسبب رخص التكلفة لديها.
ولذا فمن الواضح أن هناك توجهاً لدى البلدين الصين وأمريكا على السواء، للفصل التدريجي.
فأمريكا تسعى بالأخص إلى محاولة تدريجية لإيجاد مصادر بديلة للصين في المنتجات الحساسة مثل المعادن الأرضية النادرة وأشباه الموصلات، وبالأخص تحرير صناعتها العسكرية من القيد الصيني، وكذلك تقليل تأثير المال الصيني في أسواق المال الأمريكي، وظهر هذا في تراجع بكين من المركز الأول في حيازة السندات الأمريكية للمركز الثاني.
من جانبها، تسعى الصين لتعزيز علاقاتها الاقتصادية الدولية بما في ذلك مع روسيا المغضوب عليها غربياً، مع زيادة الطلب المحلي الصيني ليكون بديلاً في حال تراجع الصادرات لأمريكا وحلفائها.
كما تسعى بكين لتحقيق الاعتماد على الذات في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، خاصة المحركات وأجزاء الإلكترونيات المعقدة، وهي من أشد المجالات التي ما زالت الصين فيها متأخرة عن الغرب.
ومن الواضح أن الفصل البطيء مناسب للطرفين، فإلى حين تستبدل أمريكا سلاسل التوريد والمنتجات الصينية الرخيصة، فإن بكين تكون اقتربت من تحقيق تقدم في مجالات التكنولوجيا المهقدة التي ما زلت متأخرة فيها كثيراً عن أمريكا وحلفائها.