تنكُث إدارة بايدن بوعودها مجدداً، عبر توسيع الوجود العسكري الأمريكي بالصومال، ضاربةً تعهداتها بإنهاء الحروب الأمريكية طويلة الأمد عرض الحائط، والأهم أنها تتجاهل أنها كانت السبب الرئيسي في سقوط هذه البلاد في أتون الفوضى.
فلقد أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على خطوة جديدة تنقض نيتها المزعومة بإنهاء الحروب الأمريكية طويلة الأمد "التي لا نهاية لها"، فقد ذكرت صحيفة The New York Times الأمريكية، الإثنين 16 مايو/أيار 2022، أن "القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا" (أفريكوم) ستعيد نشر قوات عسكرية في الصومال، وأن البيت الأبيض وافق على طلب وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، بمنحها سلطة التفويض لشنِّ ضربات عسكرية بطائرات بدون طيار في البلاد.
يعني هذا ببساطة أن إدارة بايدن قرَّرت توسيع الوجود العسكري الأمريكي بالصومال، عبر إعادة نشر قوات عسكرية أمريكية هناك، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
تاريخ الوجود العسكري الأمريكي بالصومال
خلال الحرب الباردة دفع موقع الصومال الاستراتيجي، الذي يُشرف على مضيق باب المندب، المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر، الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها في الصومال، للتحكم في حركة النفط القادم من بلدان الخليج، والتصدي لأي توسع روسي بالمنطقة، كما بنت قواعد عسكرية شمالي الصومال، وخاصةً أن جارتها إثيوبيا كانت حليفة للاتحاد السوفييتي.
وبعد اندلاع الحرب الأهلية، إثر سقوط نظام سياد بري، انتشرت حالة الفوضى والجرائم وسوء الأحوال الاقتصادية، أدخلت الولايات المتحدة 30 ألف جندي أمريكي بقرار من الأمم المتحدة أثناء فترة الجفاف (1992/ 1993)؛ حيث أعلنت أنّها ستتدخل "إنسانياً" لمواجهة الجفاف والمجاعة، وكان في ظنّ الجيش الأمريكي أنّ التدخل عسكرياً في الصومال سيكون مهمة سهلة وسريعة، مقارنة بالنجاح الساحق في طرد العراق من الكويت، عام 1991، لكن ثبت في النهاية أنّها كانت ورطة عسكرية.
سرعان ما غرقت أمريكا في فوضى الصومال، حينما أخذت تطارد الجنرال محمد عيديد، وهو أمير حرب صومالي، بعد أن وضعت الأمم المتحدة والولايات المتحدة مكافأة قدرها 25 ألف دولار لمن يُوقِع به. وأرادا إلقاء القبض عليه على خلفية اتهامه بالمسؤولية عن الكمين الذي نُفِذَ في الـ5 من شهر يونيو/حزيران وأودى بحياة 24 جندياً باكستانياً مشاركين في عملية الأمم المتحدة الثانية في الصومال.
لكن بدلاً من أن تهاجم القوات الأمريكية مجلس حرب عيديد، كما كانت تظن، هاجمت اجتماعاً للسلام.
وقد أدى هذا الاستخدام غير المتكافئ للقوة وانتهاك حقوق الإنسان والقانون الإنساني إلى سقوط أعدادٍ هائلة من الضحايا المدنيين
وأدت مجزرة مقديشو 1993 هذه إلى تثبيت سلطة محمد عيديد، وكانت بمثابة نقطة تحول بعد أن فقدت الولايات المتحدة تأييد وتعاطف الشارع الصومالي
وحاربت ميليشيات محمد عيديد، القوات الأمريكية حيث قتلوا عشرات من الجنود الأمريكيين، وأسقطوا مروحية لهم، في عملية شهيرة مؤلمة للأمريكيين، أنتجت عنها هوليوود فيلماََ شهيراً هو "black hawk down"، وخرجت الولايات المتحدة من الصومال بعد معارك دامت 6 أشهر.
كيف تسبَّبت أمريكا في سقوط الصومال في براثن الفوضى والإرهاب مجدداً؟
وقعت الصومال فريسةً لغزو استعماري شنَّته إثيوبيا، في ديسمبر/كانون الأول 2006، دعمته الولايات المتحدة، لإسقاط أول حكومة مستقرة ظهرت في البلاد منذ سنوات طويلة، بقيادة شيخ شريف أحمد، الذي تزعَّم اتحاد المحاكم الإسلامية، وهو تنظيم إسلامي معتدل فرض الأمن لأول مرة منذ سنوات الحرب الأهلية التي بدأت في التسعينيات.
يمكن فهم التأثير السلبي الشديد لما فعلته أمريكا بدعمها للغزو الإثيوبي للصومال، بأن أديس أبابا هي العدو التاريخي للصومال، وهي تحتل أراضي صومالية، وكان هناك صراع ديني وعرقي بين البلدين يعود لمئات السنين.
وهكذا أجبرت القوات الإثيوبية قيادة الصومال، على رأسهم شيخ شريف أحمد، على اللجوء إلى المنفى، فظهرت المزيد من الفصائل المتشددة مكانها، لمحاربة الغزو الإثيوبي، كما أدى هذا الوضع إلى تراجع الفصائل الإسلامية المعتدلة، وفُتح الباب لصعود ما يُعرف الآن بحركة "الشباب" الصومالية. ثم صنفت وزارة الخارجية الأمريكية حركة الشباب منظمة إرهابية أجنبية، في فبراير/شباط 2008، وهو ما منح إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش التفويض القانوني لاستهداف الحركة بالضربات الجوية.
بعد فترة وجيزة من تولّي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما منصبه في عام 2009، منح وزارة الدفاع الأمريكية التفويض بشنِّ ضربات جوية بطائرات بدون طيار، ونشر قوات أمريكية خاصة داخل البلاد، ثم جاء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وحدَّد مناطق معنية من الصومال بأنها "مناطق القتال الفعلي"، وأقرّ قواعدَ استهداف مناطق القتال، ومَنَح الجيش السلطة التقديرية لشنّ غارات جوية وتنفيذ عمليات عسكرية.
أمريكا قتلت نحو ألف صومالي في عهد ترامب
وتعرَّض جنوب الصومال في عهد ترامب لتصعيد غير مسبوق في ضربات الطائرات الأمريكية بدون طيار، فقد قتلت تلك الضربات ما بين 900 إلى 1000 شخص بين عام 2016 إلى عام 2019، وكل ذلك من دون أن تعلن الولايات المتحدة رسمياً الحرب على الصومال.
أمَّا الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد قرر بوضوح الحفاظ على نهج ترامب "المرن"، في السماح بشن هجمات الطائرات بدون طيار في الصومال، وتمسَّك بالنهج الذي يمنح القادة العسكريين الأمريكيين في الميدان قدراً كبيراً من الحرية في اتخاذ القرار، ومن ثم لم يعُد الإذن بشن الهجمات يحتاج إلا إلى موافقة رئيس بعثة وزارة الخارجية، من دون العودة إلى البيت الأبيض.
ولما كان الحال كذلك، وصف خبراء أمريكيون الهدوء المؤقت في ضربات الطائرات بدون طيار، العام الماضي، عن حق، بأنه هدوء مصطنع، لأن تعهد إدارة بايدن بإجراء مراجعة شاملة لسياسة الحكومة الأمريكية بشأن الضربات بدون طيار تبيَّن بوضوح أنه لم يدفعها إلى إعادة النظر في تقويم هذه الهجمات من الناحية الأخلاقية.
وغاية ما فعلته إدارة بايدن هو صياغة مجموعة من القوانين والإجراءات الجديدة، التي تزعم تقديم ضمانات بعدم قتل المدنيين من غير ذوي الصلة، وتدعي توفير الحماية للرجال البالغين منهم والنساء والأطفال. ويعني ذلك أن إدارة بايدن مستمرة في النهج الذي اتبعته الإدارات الأمريكية السابقة بتسخير القانون في خدمة أغراض الحرب، معوِّلة على صياغة قوانين تنظيمية وسياسات جديدة، للزعم بأنها تجتهد للحدِّ من الخسائر في صفوف المدنيين، حتى وإن كانت مصرة على استخدام القوة الفتاكة.
وهم الحرب الإنسانية يسيطر على الليبرالية الأمريكية
يلاحظ المؤرخ وأستاذ القانون صمويل موين، أن الزعم القائل بإمكانية الحرب الإنسانية أصبح فكرة مركزية لدى الليبرالية الأمريكية، وعلى النقيض من ذلك يقل يوماً بعد يوم عدد الأمريكيين الذين يشككون في حجية المسوغات التي استند إليها قرار الحرب نفسه.
وفي أثناء ذلك، فإن التصوير العنصري الأمريكي للصومال بأنها دولة مزقتها الحرب، والزعم بأنها تهدد بطريقةٍ ما مصالح الولايات المتحدة، أمران أساسيان في الحفاظ على التأييد العام لمواصلة التفويض بشن الحرب على الصومال.
وهكذا، نرى قائد أفريكوم، الجنرال ستيفن تاونسند، يزعم أن حركة الشباب صارت "أكبر عدداً وأقوى وأشد جرأة"، حتى وإن كانت البيانات الدقيقة لقدراتها "مسألة مفتوحة للأخذ والرد"، ما يعني أن التقديرات التي تشير إلى قوة الحركة تستند إلى أسس مبهمة.
مصالح خفية تدفع الأمريكيين لتوسيع تورطهم في الصومال
في ضوء خطة أفريكوم المعلنة لتعزيز قدرة شركائها على استهداف حركة الشباب،
يقول موقع Responsible Statecraft "إنه يجب على الكونغرس والجمهور الأمريكي طرح أسئلة حول هؤلاء الشركاء، سواء أكانت شركة "بانكروفت غلوبال" Bancroft Global للتدريب الأمني، أم كان "لواء دَنَب" Danab Brigade الصومالي، الذي درّبته الشركة، أو كانت بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال AMISOM (التي أصبحت الآن بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال ATMIS)، وما شاركت به هذه الأطراف جميعها من مشاركة موثقة في تصعيد العنف على نطاق واسع في البلاد.
تأسَّس لواء القوات الخاصة الصومالي دَنَب في عام 2014، بتمويل أوَّلي من وزارة الخارجية الأمريكية، التي دفعت لشركة "بانكروفت غلوبال"، وهي شركة أمنية خاصة أشرفت على تدريب القوات وتقديم المشورة إليها، ثم تلقَّت تلك القوات تمويلاً وتدريباً من وزارة الدفاع الأمريكية.
أمكن للقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا استخدام هذه القوات بفضل برنامج 127e، وهو برنامج يسمح لوزارة الدفاع الأمريكية بتجاوز الرقابة والتقييد على ميزانيتها، من خلال السماح لقوات العمليات الخاصة الأمريكية باستخدام وحدات عسكرية أجنبية كوكلاء لها في عمليات مكافحة الإرهاب، ومن ثم السماح لحكومة الولايات المتحدة بعدم الإقرار بأن هذه المناطق مناطق قتال، حتى وإن كانت القوات الأمريكية لها حضور ميداني في هذه المناطق.
فتِّش عن مصالح الشركات الأمنية الأمريكية المستفيدة من المشكلات الأمنية
ومن العجيب ما ذكرته صحيفة The New York Times، من أن مداولات إدارة بايدن حول الخطوات الآتية في الصومال قد تعقدت بسبب الفوضى السياسية على الأرض، وهو ما ينطوي على زعمٍ بأن الولايات المتحدة منفصلة بطريقة ما عن شؤون الفصائل والعصبيات المحلية.
ومع ذلك فإن الناظر بإنصافٍ وتدبّرٍ في حقيقة الأمر سيتبيّن له أن الجيش الأمريكي وأتباعه من الشركات الأمنية الخاصة متداخلون بأشد ما يكون التداخل في هذه الفوضى، وأن مصالحهم التجارية والأمنية متشابكة هناك تشابكاً لا رجعة عنه مع مختلف الأطراف على جانبي المنطقة الخضراء في مقديشو.
وارتفعت أسعار السلاح قبل الانتخابات الرئاسية الصومالية في نهاية الأسبوع الماضي، واشتدت معها مخاوف سكان مقديشو من عودة الاضطرابات. وليس من المصادفة أن كثيراً من هذه الأسلحة وصلت إلى البلاد عبر الثغرة القائمة في حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وهي الثغرة التي تسمح بتوزيع الأسلحة على قوات الأمن الوطني الصومالية، باسم التدريب وإصلاح قطاع الأمن. وليست هذه أول مرة تذهب فيها أسلحة مخصصة لأغراض أمنية إلى السوق السوداء، وبالنظر إلى قرار إدارة بايدن بتعزيز تدخلها، فالأقرب ألا تكون هذه المرة الأخيرة.
يُكابد الصوماليون بالفعل مخاوف جمة من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، في ظل إغلاق سلاسل التوريد العالمية، وزاد على ذلك معاناة البلاد من أشد موجة جفاف تشهدها منذ أربعة عقود، وما يجلبه ذلك من تداعياتها شديدة الوطأة على أكثر من 7 ملايين شخص من سكان البلاد، ومن ثم فإنهم أكثر شيء لا يريدونه الآن هو أن تشهد البلاد مزيداً من الصراع والقتال.