يبدو أن الانطباع السائد عن الدول الإسكندنافية أنها دول غنية ومرفهة شعوبها الشقراء المسالمة لا تعرف شيئاً عن الحرب وتعيش بعيداً عن صراعات العالم، غير أن قرار فنلندا والسويد الانضمام للناتو سلط الضوء على التاريخ العسكري لهاتين الدولتين المحايدتين ولكن المدججتين بالسلاح.
فكيف تعايشت فنلندا والسويد إلى جانب العملاق الروسي على مدار قرون، وكيف حافظ البلدان على استقلالهما دون إنضمام لأية أحلاف؟
تاريخ معقد يربط روسيا مع فنلندا والسويد
والصراع بين الشعوب الإسكندنافية ولاسيما فنلندا والسويد وبين الروس يعود إلى أكثر من ألف عام، وللمفارقة فإن الصراع بدأ باعتداء من قبل الشعوب الإسكندنافية على روسيا.
إذ يعتقد أن واحدة من أوليات هجمات مقاتلي الفايكنغز الشرسين (أسلاف السويدييدن والنرويجيين والدانماركيين) على العالم الخارجي قد استهدفت روسيا، وبالأخص الفايكنغز السويديين، بل يعتقد أن نشأة روسيا الحديثة بدأت على أيديهم حينما أسسوا سلالة حاكمة للشعوب السلافية الشرقية عرفت باسم "روس" التي أسست أول دولة روسية حديثة وهي دولة كيفان روس التي شملت مناطق من روسيا وأوكرانيا، وروسيا البيضاء.
وحتى بعد ذلك بقرون وظهور الدولة الروسية الموحدة المهابة، في عهد القيصر إيفان الرهيب في القرن السادس عشر الذي بدأ التوسع الروسي الكبير، هزمت السويد روسيا، كما كانت أغلب سواحل روسيا على بحر البلطيق، كانت أراضي تابعة لستوكهلم، قبل أن يهزم مؤسس روسيا الحديثة بطرس الأكبر في القرن السابع عشر، السويد الأصغر والأكثر تقدماً ويستولي منهم على الأرض التي سيؤسس فيها سان بطرسبرغ أول ميناء روسي على بحر البلطيق، والتي جعلها عاصمة لروسيا، مما دفع ملك السويد للتحالف مع الدولة العثمانية في ذلك الوقت ضد روسيا، بل لجأ ملك السويد المهزوم للعثمانيين هرباً من السقوط في أيدي الروس.
ومنذ ذلك الحين بدأ نجم السويد يتراجع في مواجهة الدب الروسي الزاحف ببطء ولكن باطراد، واستولت موسكو على فنلندا التي كانت دوقية سويدية، وظلت فنلندا تابعة لروسيا إلى أن استقلت بعد الحرب العالمية الأولى وإثر الثورة البلشفية.
حرب الشتاء الفنلندية التي أحرجت العملاق الروسي
أثبتت فنلندا في القرن العشرين أن الصلابة الإسكندنافية لم تختفِ تماماً أمام العملاق الروسي.
ينبع جزء كبير من استعداد فنلندا في مواجهة أي هجوم روسي من حربها الخاصة مع موسكو التي تعرف باسم حرب الشتاء، التي وقعت عشية الحرب العالمية الثانية بين عامي 1939-1940، إثر مطالبة الاتحاد السوفييتي لهلسنكي بتنازلات واسعة عن أراضيها.
صمدت فنلندا في الحرب بشكل مثير للإحراج أمام العملاق السوفييتي، رغم الفارق الهائل في القوة والعدد بين الجانبين، وألحقت خسائر كبيرة بالروس، وهُزمت فنلندا في النهاية هزيمة ينطبق عليها كلمة هزيمة مشرفة.
فقد الفنلنديون جزءاً كبيراً من أراضيهم نتيجة لذلك، بما في ذلك واحدة من أهم مدنهم، فيبورغ، وإحدى المناطق الصناعة الرئيسية لديهم، إلا أن البلاد حافظت على استقلالها، وأحرجت السوفييت بشدة؛ لدرجة أنه يعتقد أن هذه الحرب هي سبب قرار الزعيم النازي أدولف هتلر غزو الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية بعد قناعته بضعف أداء القوات السوفييتية الذي ظهر في حرب الشتاء.
بل إن فنلندا تحالفت مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية ضد الاتحاد السوفييتي وشاركت في حصار مدينة ليننغراد (سان بطرسبرغ) الشهير.
كيف نجت فنلندا من انتقام ستالين؟
رغم مشاركة فنلندا في الغزو النازي للاتحاد السوفييتي لكن هذه الدولة قليلة السكان شحيحة الموارد، نجت من الانتقام السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يبتلعها ستالين مثلما ابتلع جمهوريات البلطيق، ولم يضمها حتى قسراً لحلف وارسو التابع لموسكو بعد الحرب العالمية الثانية مثلما فعل مع كل دول أوروبا الشرقية التي يبلغ عدد سكانها مئات الملايين من البشر.
وحافظت فنلندا على حيادها خلال الحرب الباردة وإلى اليوم، كما أقامت علاقة وثيقة مع الغرب، إضافة إلى علاقة غريبة مع موسكو، فخلال الحرب الباردة، صاغ علماء ألمانيا الغربية مصطلحاً ساخراً إلى حد ما، سمّوه "الفنلنديّزم" (Finlandisation) لوصف كيف عدّلت الدولة الواقعة في شمال أوروبا سياساتها لتناسب الاتحاد السوفييتي مع الحفاظ على الحياد رسمياً والحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب.
ولعبت فنلندا لعبة صعبة خلال تلك الفترة، حيث خضعت للاتحاد السوفييتي في كثير من النواحي ولم تتحداه، لكن حافظت على استقلالها ونظامها السياسي.
يقول محللون إن فنلندا كانت صديقة لروسيا لكنها تظل صلبة وواقعية.
ففنلندا لم تمنع الغزو السوفييتي لأراضيها بعد الحرب العالمية الثانية، عبر تملق موسكو فقط، بل أيضاً عبر من خليط من الحداثة الإسكندنافية وبقايا الصلابة التي ورثتها من حقبة الفايكنغز.
فلقد تعهد الفنلنديون بعد حرب الشتاء بأن هذا الصراع: لن يتكرر أبداً، والوسيلة لذلك ليست فقط التودد للروس، أو السماح لهم ببعض التدخلات فقط، بل جعل أي غزو سوفييتي أو ورسي لبلادهم مكلفاً أكثر من حرب الشتاء.
"لقد مررنا بتجارب صعبة في التاريخ عدة مرات. لم ننسه، فهو موجود في حمضنا النووي. هذا هو السبب في أننا كنا حريصين للغاية في الحفاظ على مرونتنا، كما يقول الرئيس سولي نينيستو. ويشير إلى استطلاعات الرأي التي تظهر أن حوالي ثلاثة أرباع الفنلنديين على استعداد للقتال من أجل بلدهم، وهو الرقم الأعلى في أوروبا إلى حد بعيد".
فلقد كانت فنلندا متأهبة دوماً لغزو سوفييتي أو روسي، ولقد بلغت هذه الاستعدادات ذروتها على ما يبدو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
خطة التصدي للغزو الروسي تبدأ من الطعام وأحواض السباحة
فنلندا لديها إمدادات تكفي لما لا يقل عن ستة أشهر من جميع أنواع الوقود، والحبوب الرئيسية موجودة في المخزونات الاستراتيجية، في حين أن شركات الأدوية ملزمة بالحصول على ما قيمته 3-10 أشهر من جميع الأدوية المستوردة في متناول اليد.
ولديها دفاعات مدنية قوية، حيث يجب أن يكون لجميع المباني التي يزيد حجمها عن حجم معين ملاجئ خاصة بها، ويمكن لبقية السكان استخدام مواقف السيارات تحت الأرض، وحلبات التزلج على الجليد، وحمامات السباحة التي تكون جاهزة للتحويل إلى مراكز إخلاء.
لدى الوكالة الوطنية لإمدادات الطوارئ ميزانية عمومية تبلغ 2.5 مليار يورو، والتي تتكون من مخزونها الاستراتيجي من إمدادات الحبوب لمدة ستة أشهر مثل القمح والشوفان وأنواع مختلفة من الوقود مثل البنزين والديزل وكذلك بعض "الأصول الاستراتيجية" غير المفصح عنها.
جيش كبير بالنسبة لعدد السكان
ورغم ضآلة عدد سكانها (حوالي 5 ملايين نسمة) مقابل روسيا التي يفوق عددها سكانها الـ140 مليوناً، ففنلندا لديها عدد كبير من المقاتلين.
فما يقرب من ثلث السكان البالغين في الدولة الإسكندنافية هم من جنود الاحتياط، مما يعني أن فنلندا يمكنها الاعتماد على واحد من أكبر الجيوش بالنسبة لحجمها في أوروبا.
كما تكاد تكون البلد الوحيد في أوروبا الذي لم يلغِ خدمة التجنيد الإجباري.
تعتمد قوات الدفاع الفنلندية على التجنيد الذكوري الشامل، جميع الرجال الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاماً قد يجندون للخدمة إما 6 أو 9 أو 12 شهراً. يتم تدريب حوالي 27 ألف مجند سنوياً، حيث إن 80% من الرجال الفنلنديين يكملون خدمتهم العسكرية.
نقاط قوة الجيش الفنلندي
يبلغ عدد القوات الفنلندية في زمن الحرب حوالي 280 ألف فرد بينما يبلغ إجمالي عدد القوات المدربة 900 ألف جندي احتياطي، وحافظت هلسنكي على إنفاق دفاعي قوي حتى مع خفض دول أخرى في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ويوصف الجيش الفنلندي بأنه قوي وكفؤ، ولديه واحد من أفضل قوات المدفعية في العالم.
على الرغم من أن لديها واحداً من أصغر الجيوش في العالم، حيث تم تصنيفها في المرتبة 109 من حيث القوة البشرية النشطة على موقع Global Fire Power، إلا أن القدرة العسكرية الفنلندية مدعومة بالقوى العاملة الاحتياطية الاستثنائية، والأنظمة اللوجستية، وقدرات حرب الألغام، والمدفعية.
واختارت فنلندا مساراً مختلفاً لقواتها العسكرية عن العديد من الدول الأخرى بعد الحرب الباردة، حيث أشيد بنهجها العملي للدفاع الوطني.
زادت فنلندا من قدرتها على إنتاج واستيراد الأسلحة من جميع أنحاء العالم، حيث تمتلك بعضاً من أفضل التقنيات في جميع دول الشمال.
ولكن جاء ذلك على حساب الأسلحة التقليدية، مثل المروحيات الهجومية والفرقاطات والطرادات والناقلات والغواصات والطائرات الهجومية.
فالقوات الجوية الفنلندية ليست كبيرة خاصة بالمقارنة مع روسيا، وقد يكون ذلك بسبب أن الفنلنديين يعلمون أنه لن يكون لديهم فرصة في الصمود أمام القوات الجوية السوفييتية أو الروسية في أي حرب تقليدية.
وتتكون القوات الجوية الفنلندية بالأساس من نحو 55 طائرة إف 18 الأمريكية الصنع، ولكنهم تعاقدوا على شراء 64 طائرة شبحية من طراز إف 35.
ويرتكز حجر الزاوية للقدرة العسكرية الفنلندية على مدفعيتها القوية للغاية وقذائف الهاون الثقيلة.
وتمتلك فنلندا واحدة من أكبر قوى المدفعية في أوروبا حيث يقال إنها تتضمن 1500 قطعة ضخمة ذاتية الحركة في عام 2022.
تتميز المدفعية الفنلندية أيضاً بوجود نظام BONUS المضاد للدبابات، والتي يصل مداها إلى 35 كيلومتراً (22 ميلاً) ومجهزة بمجموعة من أجهزة الاستشعار الخاصة بها التي تسمح لها بالبحث بنشاط عن أهداف مدرعة.
وقال القائد العسكري الفنلندي الجنرال بيكا توفري لمجلة فورين بوليسي الأمريكية: "جيشنا كبير بالنسبة لبلد بحجمنا، بمدفعية ضخمة ودروع قوية، لكن بطبيعة الحال هذه ليست قوة قابلة للانتشار بشكل كبير. يمكن استخدام أجزاء من الجيش في مناطقنا بالقرب من فنلندا، كما أوضحنا في تدريبات مختلفة لحلف شمال الأطلسي".
لماذا على الروس أن يفكروا مرتين في غزو فنلندا الصغيرة؟
ورغم هذه الأعداد، لا يمكن المقارنة بين قوة الجيش الفنلندي الذي يحتل المركز الـ53 للقوة العسكرية في العالم وبين الجيش الروسي الذي يحتل المركز الثاني.
ومع ذلك، يجب الأخذ في الاعتبار الظروف البيئية والجغرافية للبلاد، ولذا يمكن القول إن فنلندا لديها جيش أكثر صلابة مما تشير إليه هذه التصنيفات بسبب التضاريس الفنلندية من الغابات الكثيفة والبحيرات المتجمدة والساحل الممتد، وطبيعة المجتمع والاستراتيجيات العسكرية والأمنية التي تشرك السكان في الجهد الحربي.
بالتأكيد، كما اكتشف الاتحاد السوفييتي في حرب الشتاء (1939 إلى 1940)، تستخدم فنلندا بيئتها الطبيعية لتعزيز القدرات العسكرية، ومن المرجح أن تفعل ذلك مرة أخرى في أي صراع مستقبلي.
إشراك المدنيين في المجهود الحربي
يقول تيتي توبورينين، وزير الاتحاد الأوروبي الفنلندي: "لقد أعددنا مجتمعنا، ودربنا على هذا الوضع منذ الحرب العالمية الثانية". بعد قضاء ثمانية عقود من العيش أولاً في ظل الاتحاد السوفييتي وروسيا الآن، ولذا فإن تهديد الحرب في أوروبا "لم يفاجئنا"، حسبما نقلت عنه صحيفة Financial Times البريطانية.
تعتمد فنلندا على ما تسميه استراتيجيتها "للأمن الشامل" والتي تقدم مثالاً على كيفية قيام البلدان بإنشاء أنظمة صارمة على مستوى المجتمع لحماية نفسها في وقت مبكر، والتخطيط ليس فقط لمواجهة غزو محتمل، ولكن أيضاً للتصدي للكوارث الطبيعية أو الهجمات الإلكترونية أو حتى جائحة.
يوجد تخطيط مفصل لكيفية التعامل مع الغزو، بما في ذلك نشر الطائرات المقاتلة على الطرق البعيدة في جميع أنحاء البلاد، وزرع الألغام في ممرات الشحن الرئيسية، وإعداد الدفاعات الأرضية مثل تفجير الجسور.
يقول يارمو ليندبرغ، وزير الدفاع الفنلندي السابق، إن العاصمة الفنلندية هلسنكي "تشبه الجبن السويسري" حيث يمتد أسفلها عشرات الكيلومترات من الأنفاق. ويضيف أن جميع مقار القوات المسلحة تقع على سفوح التلال تحت "30-40 متراً من الجرانيت".
إذا تم الكشف عن هجوم محتمل من قبل المخابرات العسكرية، فستتم تعبئة القوات، وبقدر الإمكان، سيتم إجلاء المدنيين من مناطق الخطر، وهو اختلاف ملحوظ عما حدث في أوكرانيا.
تقول جان كوسيلا، المديرة العامة لسياسة الدفاع. في وزارة الدفاع الفنلندية إن جوهر استراتيجية فنلندا هو إرادة مواطنيها للقتال والدفاع عن بلد، تم تصنيفه مؤخراً من قبل الأمم المتحدة للعام الخامس على التوالي كأكثر دولة سعادة في العالم.
وتضيف: "كونك فنلندياً هو صفقة. فهذا يعني نحن رقم واحد في العالم في كوننا سعداء. من ناحية أخرى، فإن الجانب الآخر هو أنك مستعد للدفاع عن هذا، لقد مررنا بتجربة الاقتراب من الموت في الحرب العالمية الثانية التي قوتنا".
قيادات المجتمع تتدرب دوماً على حالة الحرب
أنشأت فنلندا شبكات غير رسمية بين النخب في عالم المنظمات السياسية والتجارية وغير الحكومية للاستعداد للأسوأ. وهي تنظر باستمرار إلى نقاط ضعفها الرئيسية، وتحاول تصحيحها لخلق أكبر قدر ممكن من المرونة في النظام قبل حدوث الأزمة.
تقول كوسيلا: "نظراً لموقعنا الجغرافي الاستراتيجي، وكتلتنا الأرضية الكبيرة وقلة عدد سكاننا، نحتاج إلى امتلاك كل شيء للدفاع عن البلاد، نحن نتدرب على عدة مستويات بانتظام للتأكد من أن الجميع يعرف ماذا عليه أن يفعل أثناء الحرب. ينطبق ذلك على البنوك، الكنيسة، الصناعة، ووسائل الإعلام".
"النتيجة النهائية هي أنه يمكنك تحويل هذا المجتمع إلى وضع الأزمة إذا لزم الأمر"، حسب كوسيلا.
تجنيد الشركات المدنية لصالح العمل العسكري
أحد مفاتيح استراتيجية فنلندا الدفاعية، هو تجنيد قطاع الشركات الفنلندي للعب دور قيادي في الاستعدادات وإدارة الأزمات. أي تسخير اقتصاد السوق لجعل المجتمع متأهباً.
يجتمع مسؤولو كل صناعة مهمة- مثل الاتصالات أو الإمدادات الغذائية أو الطاقة- عدة مرات في السنة، حيث يتحدثون في مناقشات خاضعة للإشراف بعناية، عن القضايا التي يمكن أن تؤثر على قطاعهم.
على سبيل المثال، كيف يمكنك إطعام الأمة أو الاحتفاظ بورق التواليت إذا كان هناك حصار روسي في بحر البلطيق؟ حسبما يقول سالونيوس باسترناك خبير الأمن في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية.
"قيادة الشركات كانت تخدم في الجيش، وهي تعلم أنه إذا فشلت استراتيجية الدفاع عن البلاد سيفقدون كل شيء"، حسب جان كوسيلا، المديرة العامة لسياسة الدفاع في وزارة الدفاع الفنلندية.
وتساعد الوكالة الوطنية لإمدادات الطوارئ (Nesa) في تنسيق هذه الشبكة من الشركات.
لضمان فهم كبار أعضاء المؤسسة الفنلندية لما هو على المحك، تتم دعوتهم للمشاركة فيما تسميه الدولة دورات الدفاع الوطني، يشارك قادة الأعمال في هذه الدورات، بمجرد أن أصبحوا رؤساء تنفيذيين.
وقد حضر 60 ألف شخص دورات الدفاع الإقليمية، حسب تقرير صحيفة Financial Times البريطانية.
من الأمور التي ساعدت فنلندا على هذه الاستراتيجية الدفاعية، التقدم الكبير للبلاد وقوة اقتصادها وتجانس المجتمع، وبقايا الصلابة المتأتية من المناخ القاسي، والتاريخ العسكري للمنطقة، وكذلك الطبيعة الجغرافية والمناخية الصعبة التي تحابي المقاتلين المحليين ضد الغزاة كما ظهر واضحاً في حرب الشتاء، التي تسبب فيها الطقس الجليدي في عرقلة جيوش السوفييت رغم أنهم جاءوا من بيئة مشابهة.
السويد القوة الكامنة المتأهبة لروسيا
لدى السويد حدود مشتركة مع روسيا في القطب الشمالي ومناطق إلى جنوبه، وكذلك حدود بحرية مشتركة في بحر البلطيق، إضافة إلى افتراض إمكانية حدوث هجوم روسي عبر فنلندا.
تعد السويد واحدة من أقدم الدول التي استمرت على حيادها في العصر الحالي، ولم تشارك في الحرب العالمية الثانية، رغم اتهامها بالتعاون مع ألمانيا النازية.
ولكن للسويد تاريخ عسكري قديم، فبالإضافة إلى غارات الفايكنز، فقد شيدت السويد إمبراطورية في بداية العصور الحديثة اشتهرت جيوشها بالكفاءة وحماستها البروتستانتية رغم صغر أعدادها كما ظهر من أدائها في حرب الثلاثين عاماً، التي دارت رحاها في الأراضي الألمانية.
كما سيطرت السويد لقرون على مناطق واسعة من الأراضي المحيطة ببحر البلطيق، وهزمت روسيا لقرون قبل أن تغلب الكثرة الروسية في عهد بطرس الأكبر الشجاعة السويدية مع بدء عملية التحديث في روسيا.
والسويد تاريخياً أكبر سكاناً وأكثر تقدماً من فنلندا، ولذا كانت لها طريقتها الخاصة في الاستعداد لأي غزو روسي في ظل حيادها خلال الحرب الباردة.
صنعت مجموعة من أفضل المقاتلات في العالم والتي تستطيع الإقلاع من الشوارع
على خلاف فنلندا، لدى السويد صناعة عسكرية متقدمة، وطوال الحرب الباردة وإلى الآن، ما زالت إحدى الدول القليلة التي تنتج طائرات مقاتلة محلياً (مع الاعتماد على بعض التكنولوجيا الغربية لا سيما الأمريكية خاصة في المحركات).
وهي طائرات اشتهرت دوماً بالكفاءة، وآخرها طائرة "غريبين" السويدية الشهيرة التي تعد واحدة من أكثر طائرات الجيل الرابع والنصف الحالي في العالم كفاءة وانخفاضاً في السعر وتكلفة التشغيل والسهولة في الاستخدام.
ولكن السويد لا تكتفي بذلك، فعقيدة السويد في بناء الطائرات كانت تقوم دوماً على فكرة احتمال تعرضها لغزو سوفييتي/روسي، لذلك فلقد صنعت طائراتها المقاتلة دوماً لتكون سهلة الصيانة لدرجة لافتة، والأهم أن تكون قادرة على الإقلاع والهبوط من طرق السيارات العادية في حال تعرض مطارات البلاد للتدمير أو الاحتلال من قبل القوات السوفييتية/الروسية الغازية.
تبني غواصات متقدمة وفكرت في حيازة أسلحة نووية
كما أن السويد تصنع مجموعة من أفضل الغواصات العاملة بالديزل في العالم، وهي مصدر أساسي لها، بالإضافة إلى أنها فكرت في صنع أسلحة نووية في بداية الحرب العالمية الثانية.
وعلى خلاف فنلندا، تولي السويد أهمية خاصة للحدود البحرية مع روسيا، بسبب الطبيعة الجغرافية الصعبة للحدود البرية بين البلدين، وبالنظر في المقابل إلى الحاجة لحماية جزيرة جوتلند في بحر البلطيق من أي هجوم روسي.
لم يحاول الروس الاستيلاء على جوتلاند (باستثناء احتلالهم لأسبوعين في أوائل القرن التاسع عشر).
ومع ذوبان الجليد في الحرب الباردة، قيمت الحكومة السويدية علاقاتها مع موسكو على أنها قوية جداً؛ لدرجة أنها قررت نزع سلاح الجزيرة تماماً. وبحلول عام 2005، لم تعد هناك وحدات عسكرية دائمة هناك.
ولم يتغير الأمر بعد هجوم روسيا على جورجيا عام 2008، ولكن فقط في عام 2016، بعد عامين من ضم موسكو بشكل غير قانوني لشبه جزيرة القرم في البحر الأسود، أرسلت الحكومة السويدية قوات ودبابات إلى جوتلاند، حيث ترسخ لدى السويد قناعة باستعداد روسيا لاستخدام القوة العسكرية ضد جيرانها الأصغر.
الاستستلام ممنوع
تقوم الاستراتيجية العسكرية كل من فنلندا والسويد على السواء على التنازل عن جزء كبير من البلاد للغزاة – ثم القتال بهجمات الكر والفر، واستنزافهم تدريجياً حسبما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
وعلى غرار فنلندا تعتمد السويد على أن أي حرب ستخوضها لصد غزو روسي، لن تكون تقليدية وسوف تقوم على الجميع بين القوى والبنى الأساسية العسكرية والمدنية.
ينص منشور سويدي بشأن أي حرب محتملة صراحة على أنه يجب تجاهل أي رسائل استسلام بعد أي غزو. يقول الكتيب: "كل المعلومات التي تفيد بأن المقاومة ستتوقف خاطئة".
رغم كل الانتقادات التي وُجِّهت للمنشور والاتهامات بأنه يثير الخوف، فمن الواضح أن هذه رسالة تريد السلطات السويدية توصيلها. وتمت ترجمة المنشور إلى العربية والصومالية ومجموعة من اللغات الأخرى لكي يصل إلى المهاجرين الذين انتقلوا للبلاد مؤخراً، وستجد تلك المجتمعات المهاجرة أيضاً شبابها وشاباتها مجندين في القوات المسلحة السويدية.
في نظر الكثيرين، فإن انضمام السويد وفنلندا للناتو، لن يوفر حماية محتملة فقط، للدولتين الإسكندنافيتين، من الخطر الروسي، ولكنه يشكل إضافة نوعية لقوة الناتو، فالسويد وفنلندا لديهما قوات وصناعات عسكرية أقوى وأكثر فاعلية من أغلب دول الناتو، والأهم أن لديهما خبرة تاريخية ودافعية للتعامل مع الخطر الروسي المزعوم.