قررت فنلندا الانضمام لحلف الناتو على الرغم من أن روسيا تعتبر ذلك تهديداً مباشراً لها من جانب الحلف العسكري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، فماذا يعني ذلك بالنسبة للأمن في أوروبا؟
فنلندا، التي تتشارك حدوداً مباشرة طولها نحو 1300 كيلومتر مع روسيا، قالت مساء الخميس 12 مايو/أيار إنها ستتقدم بطلب للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) "دون إبطاء"، وهو قرار يعني التخلي عن حالة الحياد التي حافظت عليها هلسنكي تاريخياً، وخلال عقود الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة.
ومن المتوقع أن تفعل السويد الأمر نفسه وتتخذ قرار الانضمام للناتو، إذ إن موقف البلدين يعتبر متطابقاً، وسيكون قرار الدولتين الإسكندنافيتين التخلي عن وضع الحياد الذي حافظتا عليه طوال الحرب الباردة أحد أكبر تحولات الأمن الأوروبي منذ عقود، بحسب تحليل لرويترز.
ما قصة حياد السويد وفنلندا؟
التزمت السويد وفنلندا الحياد خلال الحرب الباردة، لكن قرارهما التقدم بطلب الانضمام لحلف الناتو بعد الحصول على "تطمينات" أمريكية بتوفير الحماية لهما ضد أي تحرك من جانب روسيا، لا يعني فقط أن الدولتين قررتا التخلي عن حالة الحياد، لكنه يعني أيضاً أن الحرب في أوكرانيا قد تتحول إلى مواجهة عسكرية بين الناتو وروسيا، وهي المواجهة التي قد تتحول إلى حرب نووية.
فالسويد وفنلندا من الدول الإسكندنافية التي تقع في شمال أوروبا، وكلتاهما لم تكن يوماً عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتزمتا الحياد خلال عقود الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الحالة التي يبدو أنها على وشك أن تتغير، في إطار الوضع الجيوسياسي المعقد الذي نتج عن الهجوم الروسي على أوكرانيا.
فالأزمة الأوكرانية من الأساس أزمة جيوسياسية، طرفاها روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى، وترجع جذورها إلى انهيار الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 3 عقود، ووقتها قدمت واشنطن وعداً إلى موسكو مفاده أن حلف الناتو لن يتوسع في شرق أوروبا بوصة واحدة، لكن الحلف العسكري الغربي توسع شرقاً بنحو ألف كيلومتر وضم دولاً كثيرة كانت سابقاً ضمن حلف وارسو العسكري بزعامة الاتحاد السوفييتي.
وظلت السويد وجارتها فنلندا خارج حلف الأطلسي أثناء فترة الحرب الباردة، التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990. لكن تفجر الأزمة الأوكرانية وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 والهجوم الحالي، المستمر في شهره الثالث، دفع الدولتين لإعادة التفكير في سياساتهما الأمنية، مع تزايد احتمال حصولهما على عضوية الناتو.
وتعيش السويد، بصفة خاصة، حالة من القلق المتصاعد منذ ما قبل اندلاع الحرب، إذ عاد مصطلح "الروس قادمون" ليتصدر النقاشات السياسية في البلاد.
ويعود مصطلح "الروس قادمون!" إلى وقت كانت فيه السويد إمبراطورية وقوة عظمى في أوروبا وسعت إلى غزو الأراضي الروسية وضمها إليها، لكن القيصر الروسي بطرس الأول انتصر على ملك السويد في معركة "بولتافا" عام 1709، فكانت تلك المعركة بداية النهاية لمملكة السويد التي كانت تشمل منطقة البلطيق. وتقع منطقة "بولتافا" حالياً في أوكرانيا.
ماذا يعني قرار فنلندا تقديم طلب الانضمام للناتو؟
على الرغم من أن الانضمام للناتو يمثل ملفاً رئيسياً في السياسة الداخلية في فنلندا، والسويد بطبيعة الحال، منذ سنوات، إلا أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يبدو وكأنه أعطى زخماً لمن يريدون الانضمام للحلف الغربي على حساب المتمسكين بالحياد تجنباً لرد فعل روسيا الانتقامي.
الرئيس الفنلندي سولي نينيستو ورئيسة الوزراء سانا مارين قالا في بيان مشترك: "يتعين على فنلندا التقدم بطلب للحصول على عضوية الأطلسي دون إبطاء… نأمل في اتخاذ الخطوات الضرورية على المستوى الوطني لاتخاذ هذا القرار بسرعة في الأيام القلائل المقبلة".
من جهته، قال الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ إن الفنلنديين سيكونون "موضع ترحيب شديد" ووعد بعملية انضمام "سلسة وسريعة". وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه يدعم تماماً اختيار فنلندا الانضمام للحلف.
وستزيد حدود فنلندا التي يبلغ طولها 1300 كيلومتر بأكثر من المثلين طول الحدود بين التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وروسيا، مما يضع جنود حرس حدود حلف الأطلسي على مسافة ساعات بالسيارة من الضواحي الشمالية لمدينة سان بطرسبرغ الروسية.
وقال خمسة دبلوماسيين ومسؤولين لرويترز إن الدول الأعضاء في حلف الأطلسي تتوقع منح فنلندا والسويد العضوية بسرعة، مما يمهد الطريق لزيادة حجم القوات في منطقة الشمال للدفاع عنهما خلال فترة المصادقة على العضوية ومدتها عام واحد.
فمع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه عملية خاصة هدفها منع عسكرة كييف بينما يصفه الغرب بأنه غزو، اتجهت الأنظار نحو السويد وفنلندا انتظاراً لقرارهما الخاص بمسألة الانضمام رسمياً إلى حلف الناتو، ومع اتخاذ فنلندا القرار بالفعل، والسويد أيضاً في الطريق بحسب التصريحات الغربية، باتت الأنظار الآن مصوبة نحو موسكو لمحاولة استقراء رد الفعل الروسي وطبيعته.
ماذا عن رد الفعل الروسي المتوقع؟
إعلان فنلندا التقدم بطلب الانضمام لحلف أثار غضب الكرملين الذي وصفه بأنه تهديد مباشر لروسيا وتوعد برد يتضمن إجراءات "عسكرية تقنية" لم يحددها. ورداً على سؤال حول ما إذا كان انضمام فنلندا يمثل تهديداً مباشراً لروسيا، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: "لا شك في ذلك. توسيع الأطلسي لا يجعل قارتنا أكثر استقراراً وأمناً".
وأضاف بيسكوف دون الخوض في تفاصيل: "من غير الممكن ألا يثير هذا أسفنا ويمثل مبرراً لردود متكافئة مماثلة من جانبنا".
وقالت وزارة الخارجية الروسية إن موسكو ستضطر إلى اتخاذ "إجراءات انتقامية سواء ذات طبيعة عسكرية تقنية أو طبيعة أخرى"، دون أن تذكر تفاصيل أخرى. وكان مسؤولون روس تحدثوا في الماضي عن إجراءات محتملة بما في ذلك نشر صواريخ نووية عند بحر البلطيق.
وفي إجابة على سؤال عما إذا كانت فنلندا ستستفز روسيا بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي قال نينيستو: "إجابتي هي أنكم من تسببتم في هذا. انظروا في المرآة".
ولفنلندا على وجه الخصوص تاريخ مضطرب على مدى قرون مع روسيا، فقد حكمتها الإمبراطورية الروسية من 1809 إلى 1917، وصدت الغزوات السوفييتية قبيل الحرب العالمية الثانية، وقبلت بعض النفوذ السوفييتي كثمن لتجنب الانحياز إلى طرف من الأطراف خلال الحرب الباردة. ومنذ انضمامها، جنباً إلى جنب مع السويد، للاتحاد الأوروبي في 1995 وثقتا عرى التحالف مع الغرب.
هل لعبت أمريكا دوراً في قرار فنلندا والسويد؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرى أن تمدد حلف الناتو شرقاً يمثل تهديداً مباشراً لأمن الاتحاد الروسي، ويلقي باللوم على القادة الغربيين، بزعامة نظيره الأمريكي جو بايدن، لرفضهم تقديم ضمانات قانونية على أن أوكرانيا ستظل دولة محايدة ولن تنضم إلى الحلف العسكري الغربي يوماً. وأشار بوتين إلى توسع الحلف المحتمل كأحد الأسباب الرئيسية لشن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
لكن الناتو يصف نفسه بأنه تحالف دفاعي، مبنيّ على معاهدة تنص على أن الهجوم على عضو واحد هو هجوم على الجميع، مما يمنح حلفاء الولايات المتحدة فعلياً حماية القوة العظمى الأمريكية، بما في ذلك ترسانتها النووية.
وتعتبر موسكو ذلك تهديداً لأمنها ونفوذها في دول الجوار، لكن قرار بوتين الهجوم على أوكرانيا تسبب في حدوث تحوُّل في الرأي العام في منطقة الشمال الأوروبي، مع تبني الأحزاب السياسية التي ظلت تدعم الحياد لعشرات السنين وجهة النظر القائلة بأن روسيا تمثل تهديداً، بحسب وجهة النظر الغربية التي عبرت عنها شبكة CNN الأمريكية.
لكن وجهة النظر الروسية تقول إن واشنطن تقدم "إغراءات" لدول الجوار الروسي كي تنضم إلى حلف الناتو، كما حدث مع أوكرانيا، والهدف الرئيسي هو إضعاف روسيا واستنزافها وهو ما لا يمكن أن تسمح به موسكو.
"إنها حقيقةٌ أننا على مدار الأعوام الثلاثين الماضية كنَّا نحاول بصبرٍ التوصُّل إلى اتفاقٍ مع دول الناتو الكبرى فيما يتعلق بمبادئ الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا. رداً على مقترحاتنا، واجهنا دائماً إما الخداع والأكاذيب الساخرة وإما محاولات الضغط والابتزاز، بينما استمرَّ تحالف شمال الأطلسي في التوسُّع، على الرغم من احتجاجاتنا ومخاوفنا"، بنص تصريحات الرئيس الروسي.
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، المدعوم بشكل خاص من إدارة الرئيس جو بايدن، قد شن هجوماً لاذعاً على الغرب في اليوم الثاني للهجوم الروسي واتهم الدول الغربية باتخاذ موقف المتفرج وترك كييف لتواجه "الغزو الروسي" بمفردها.
كما كان زيلينسكي قد وجّه انتقاداً مبطناً لزعماء غربيين لم يسمهم بأنهم استغلوا أزمة أوكرانيا لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بهم، وكان ذلك أيضاً قبل أن تندلع الحرب، ولزيلينسكي تصريح شهير قال فيه: "أوكرانيا ليست تايتانيك!"، كتعليق على قرار واشنطن ولندن سحب الدبلوماسيين من كييف، وهو القرار الأمريكي الذي زعمت إدارة بايدن أنها ناقشته مع حكومة زيلينسكي.
وترسم هذه المعطيات صورة مقلقة للغاية بالنسبة لفنلندا والسويد خلال فترة الانتظار لقبول الطلب والانضمام رسمياً لحلف الناتو وساعتها ستحظيان بالحماية الكاملة التي يوفرها الحلف العسكري الغربي لأعضائه، وهذه الفترة لن تقل عن عام بطبيعة الحال، فهل سينتظر بوتين حتى يحدث ذلك ويسلم بالأمر الواقع؟
لا أحد يمكنه تقديم إجابة حاسمة على هذا السؤال أو غيره من الأسئلة التي طفت على السطح فجأة، رغم أن القرار الفنلندي والسويدي بتقديم طلب الانضمام للناتو كان متوقعاً بشكل كبير، لكن المؤكد هو أن الرئيس الروسي لا يمكنه التراجع الآن والاستسلام للأمر الواقع، وعبَّر بايدن نفسه عن هذا المعنى حينما قال إنه قلق من وصول الحرب في أوكرانيا لطريق مسدود في وجه بوتين.
والحقيقة هنا هي أن الصورة تسبب القلق ليس فقط لفنلندا وأوكرانيا وأوروبا بشكل عام بل للعالم ككل، فروسيا تمتلك العدد الأكبر من الأسلحة النووية وتمتلك ترسانة عسكرية هائلة ورئيسها يخطط بصبر منذ أكثر من عقدين لاستعادة الأمجاد الروسية، وبالتالي فإن الذهاب لأبعد مدى، أي استخدام الأسلحة النووية، ليس مستبعداً بطبيعة الحال.
وكان بوتين قد أصدر، بعد أيام من بداية الهجوم على أوكرانيا، أوامره بالفعل بوضع الأسلحة النووية الروسية في حالة تأهب ووجه تهديداً مباشراً لأي دولة تهدد الأمن القومي الروسي أو تتدخل في الحرب الأوكرانية. الآن وقد أعلنت واشنطن، على لسان وزير الدفاع لويد أوستن، أن الهدف هو إضعاف روسيا "للأبد" عبر تقديم "معونات عسكرية لأوكرانيا على المدى الطويل"، ربما يكون تقديم فنلندا والسويد رسمياً طلب الانضمام للناتو إيذاناً بمرحلة غير مسبوقة من "الرعب النووي" الذي يتهدد العالم.