شهدت ألمانيا خلال عام واحد فقط 55 ألف جريمة عنصرية، فهل خرج وحش اليمين المتطرف عن السيطرة في الدولة الأوروبية التي يصنَّف أكثر من ربع سكانها كمهاجرين؟
اليمين المتطرف أصبح خلال السنوات القليلة الماضية، يمثل قلقاً أمنياً للغرب بشكل عام، بعد أن اجتذبت الأفكار العنصرية لذلك التيار الشعبوي أتباعاً بالملايين وأصبحت الأحزاب السياسية والسياسيون الذين يمثلونها رقماً صعباً في الحياة السياسية بتلك الدول الديمقراطية، من الولايات المتحدة وكندا إلى أستراليا ونيوزيلندا، مروراً بأوروبا الغربية.
واليمين المتطرف هو الفكر القائم على تفوق الرجل الأبيض المسيحي، والذي يعادي المهاجرين بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، ومن أبرز السياسيين الممثلين لتلك الحركة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وفي أوروبا، كان الملف الرئيسي بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا هو العداء للمسلمين؛ سعياً لكسب أصوات اليمين المتطرف، سواء من الفائز إيمانويل ماكرون أو الخاسرة مارين لوبان.
ألمانيا وناقوس الخطر من اليمين المتطرف
السنوات القليلة الماضية شهدت صعوداً ملحوظاً لليمين المتطرف، وأصبح حزب البديل من أجل ألمانيا- الممثل لذلك التيار- حاضراً ويحقق نتائج متصاعدة قرَّبته بالفعل من المشاركة في الائتلاف الحكومي خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة العام الماضي وتلك التي سبقتها.
ومن المفترض أن يكون ذلك الصعود لليمين المتطرف- في ألمانيا تحديداً- سبباً للقلق الشديد، ليس لألمانيا فحسب بل لأوروبا والعالم أجمع، على أساس أن البلاد كانت مهداً للزعيم النازي أدولف هتلر وللنازية، وأشعلت ألمانيا الحربين العالميتين، والآن يطل النازيون الجدد برأسهم بشكل واضح.
هذا التوصيف ليس تحليلات فقط ولا هو تحذيرات من مراكز بحثية وحسب، بل جاء على لسان توماس هالدنفانغ، رئيس الهيئة الاتحادية الألمانية لحماية الدستور، أي جهاز الاستخبارات الداخلية، حيث حذَّر من تعرُّض ألمانيا لخطر اليمين المتطرف الميَّال إلى استخدام العنف والاغتيالات، بعد أن سجل العامان السابقان زيادة قياسية في نسبة المنضمين لهذا الفكر.
تصريحات هالدنفانغ الصحفية صدرت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقال فيها إن "عدد المتطرفين، ومن ضمنهم أولئك المستعدون لاستخدام العنف، يزداد بشكل مطرد"، وأوضح أن مكتب حماية الدستور سجل زيادة في أعداد الأشخاص الذين يعتنقون أفكاراً يمينية متطرفة ومصنَّفون على أنهم "خطرون"، والذين كان عددهم لا يزيد على 30 فقط عام 2017.
تقرير الاستخبارات الداخلية الألمانية لعام 2020 وضع رقم هؤلاء اليمينيين المتطرفين عند 33 ألفاً و300 شخص، 40% صُنِّفوا على أنهم يمثلون "خطراً"، بسبب ميلهم إلى استخدام العنف ولأنهم مستعدون لاستخدام العنف ويحرضون على استخدامه لتنفيذ أفكارهم.
تلك الأفكار يمكن تلخيصها في طرد المهاجرين، والاعتداء على المحجبات أو المسلمين، ورفض القرارات الحكومية التي يرونها معارضة لأفكارهم، مثل الإجراءات الاحترازية والإغلاقات لمواجهة وباء كورونا، وصولاً إلى اغتيال السياسيين المعارضين لأفكارهم.
وكان السياسي البارز والمؤيد للمهاجرين، والتر لوبكه، قد تعرض للاغتيال، عام 2019، برصاصة أطلقها عليها ستيفان إرنست اليميني المتطرف، الذي قضت محكمة بمدينة فرانكفورت الألمانية، في يناير/كانون الثاني 2021، بسجنه مدى الحياة، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وأصيب لوبكه، رئيس المجلس البلدي لمدينة كاسل والعضو البارز في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (سي دي يو )، برصاصة في رأسه من مسافة قريبة، واعترف إرنست (47 عاماً)، بإطلاق النار على لوبكه، البالغ من العمر 65 عاماً، في منزله. ويعد هذا أول اغتيال سياسي يرتكبه يميني متطرف في ألمانيا الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية.
زيادة تاريخية في جرائم العنصرية
لكنَّ تقريراً أصدره المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية في ألمانيا، الثلاثاء 10 مايو/أيار، بشأن معدلات الجريمة في البلاد يشير إلى أن "وحش" اليمين المتطرف ربما يكون في طريقه للخروج عن السيطرة بالفعل.
إذ رصدت الشرطة الألمانية 55048 جريمة "ذات دوافع سياسية ودينية"، وهو الوصف المستخدم للإشارة إلى جرائم العنصرية بشكل عام، وهذا الرقم يمثل زيادة بنسبة 23% في غضون عام واحد، وهو ما يمثل أعلى مستوى على الإطلاق في ارتفاع معدلات الجريمة منذ بداية أرشفتها وتصنيفها في عام 2001، بحسب تقرير لموقع الإذاعة الألمانية DW.
وذكر تقرير المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية أن معظم الجرائم ارتكبها متطرفون يمينيون، وأحصت الشرطة نحو 22 ألف جريمة ذات دوافع يمينية متطرفة، بزيادةٍ قدرها 7% مقارنة بعام 2020.
ونُسب نحو 10 آلاف جريمة إلى متطرفين يساريين، بتراجعٍ قدره 8.7% مقارنة بعام 2020. وبحسب البيانات فإن نحو ثلاثة أرباع الجرائم المرتكبة ضد مسؤولين أو ممثلين منتخبين تورَّط فيها مشتبه فيهم لم تستطع الشرطة تصنيفهم في أيديولوجية معينة.
وارتفع على وجه الخصوص عدد الجرائم التي سجلها المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية والتي لا يعتبرها المحققون يسارية، أو يمينية أو مدفوعة بأيديولوجية أجنبية أو دينية، حيث كانت نسبة الزيادة ما يقرب من 150%: من 8.600 جريمة إلى أكثر من 21.000 جريمة.
كانت وزيرة الداخلية الاتحادية، نانسي فيزر، قد وصفت مقتل موظف بمحطة وقود يبلغ من العمر 20 عاماً في إيدار-أوبرشتاين بولاية راينلاند بفالتس، بأنه نقطة تحوُّل خطيرة، حيث أطلق الجاني النار على العامل الشاب، لأنه أبلغه بضرورة ارتداء الكمامة.
تصريحات الوزيرة الاتحادية، ضمن حكومة المستشار أولاف شولتس الائتلافية، جاءت تعليقاً على تقرير الجريمة، بينما وصف هولغر مونش، رئيس المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية، البيئات التي غالباً ما يصعب تقييمها من وجهة نظر الشرطة، بأنها "مشهد مختلط غير متجانس".
فما يفعله المحتجون على إجراءات الإغلاق لمكافحة وباء كورونا من "أصحاب نظرية المؤامرة"، يصب في النهاية في أجزاء كبيرة منه "في مناهضة الدولة". وعلى غرار مظاهرات كورونا، التي بدأت تنحسر الآن، ينبغي الإشارة على وجه الخصوص إلى أن اليمين المتطرف حاول استخدام الاحتجاجات كأداة لأغراضه الخاصة "وإقامة صلة بالمركز المدني الديمقراطي للمجتمع". بيد أن هذا حقق نجاحاً ملموساً، بحسب مونش.
هل تفعل ألمانيا ما يكفي لمكافحة اليمين المتطرف؟
كان هجوم هاناو الإرهابي الذي نفذه أتباع اليمين المتطرف في ألمانيا وقتلوا فيه 9 أشخاص من أصول شيشانية، قد سبب صدمة في البلاد، وتعالت الأصوات وقتها بضرورة اتخاذ موقف حاسم من الحزب السياسي الذي يرونه متهماً بتغذية أفكار اليمين المتطرف، وهو حزب البديل من أجل ألمانيا المعادي للمهاجرين.
كان ذلك عام 2020، ووقتها كان "البديل من أجل ألمانيا" أكبرَ حزب معارض، ويحوز 89 مقعداً من أصل 709 في البرلمان الاتحادي "البوندستاغ". كما كان له أعضاء في برلمانات الأقاليم الـ16.
"حزب البديل من أجل ألمانيا هو الذراع السياسية للكراهية"، حسب السياسي البارز في حزب الخضر سيم أوزديمير، كما دعا لارس كلينغبيل، الأمين العام لحزب الاشتراكيين الديمقراطيين الذي ينتمي إلى يسار الوسط، إلى وضع حزب البديل تحت مراقبة الأجهزة الأمنية.
وفي مارس/آذار 2021، وضعت الاستخبارات الداخلية الحزب اليميني المتطرف على لائحة "الحالات المشبوهة"، مما يعني أنه أصبح تحت مراقبة الشرطة وأصبح بالإمكان مراقبة اتصالاته أو حتى إدخال مخبرين إلى صفوفه.
ويشكل وضع أي حزب تحت المراقبة عاراً في ألمانيا، لأنه مخصص مبدئياً للمجموعات المتطرفة، وبالفعل فقد الحزب، الذي بنى نجاحه على موقفه المعارض لسياسة الهجرة التي كانت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل تنتهجها، زخمه ومزَّقته الخلافات الداخلية، ومن ثم حلَّ في المركز الخامس بالانتخابات الأخيرة، العام الماضي.
لكن الباحث في علم النفس الاجتماعي، إتريس هاشمي، أقر بوجود العديد من الإشارات إلى تطرف يميني بين المحتجين على إجراءات كورونا، وتحت انطباع الزيادة الهائلة في الجرائم المعادية لليهود، يقول: "أيديولوجية نظرية المؤامرة نحو العالم متشابكة بشكل وثيق مع العناصر العنصرية والمعادية للسامية". كل هذا يعرّض للخطر الناس "الذين يتم تحديدهم على أنهم أعداء".
هاشمي، أحد الناجين من هجوم 19 فبراير/شباط 2020 في هاناو بولاية هيسن، غالباً ما ينتقد تعامل الشرطة والساسة في ألمانيا، وحول هدف مكافحة العنصرية فإن لدى هاشمي آمالاً كبيرة قبل كل شيء في خطة العمل ضد التطرف اليميني، بحسب "دويتش فيله".
لكن الوزيرة فيزر ركزت قلقها، بعد صدور التقرير، على الجرائم المعادية لليهود، والتي زادت بنسبة 29% بتسجيل أكثر من 3000 حالة، ووصفت الوزيرة الألمانية تزايد هذا النوع من الجرائم بأنه "عار على ألمانيا"، وقالت: "كمُّ التحريض المعادي للسامية وازدراء الإنسانية لا يزال ينتشر اليوم. ومن المخجل كيف يتم التقليل من شأن الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين من قبل بعض منكري كورونا".
لكن العنصرية بشكل عام أصبحت جزءاً من الحياة اليومية في ألمانيا، بحسب أول تقرير وطني حول التمييز والعنصرية، وهو التقرير الذي تم نشر ملخص له الأسبوع الماضي، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله.
التقرير، الذي وُصفت تفاصيله بالصادمة، خلص إلى أن العنصرية أصبحت متغلغلة في ثنايا المجتمع الألماني بصورة لافتة، ولا تؤثر فقط على الأقليات في بلد يُعتبر واحد من كل 4 من مواطنيه مهاجراً.
وقال أكثر من 22% من المستطلع رأيهم، في تقرير العنصرية، إنهم يتعرضون لاعتداء عنصري بصورة أو بأخرى، بشكل شبه يومي، لكن أكثر من 90% من المشاركين في الدراسة قالوا إنهم "متأكدون أنهم يعيشون في مجتمع عنصري"، وهو ما يطرح تساؤلات جادة بشأن ما إذا كانت ألمانيا قد غضت الطرف عن اليمين المتطرف حتى توحَّش وأصبح خارج السيطرة؟