"بوتين سيعلن الحرب على أوكرانيا يوم 9 مايو/أيار".. "بوتين سيعلن الانتصار على أوكرانيا يوم 9 مايو/أيار"، فكيف جاء خطاب الرئيس الروسي في عيد النصر فعلاً؟ ولماذا يقلق الناتو وجو بايدن؟
يمثل التاسع من مايو/أيار أهم المناسبات القومية الروسية؛ إذ يحتفلون بالانتصار على الزعيم النازي أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وخلال السنوات الأخيرة، حول الرئيس فلاديمير بوتين المناسبة إلى احتفالية ضخمة يجري خلالها عمل عرض عسكري ضخم في ساحة الكرملين الشهيرة ويوجه فيه خطاباً للأمة.
خلال أبريل/نيسان الماضي، أعلنت موسكو أن الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي، قد حقق أهداف المرحلة الأولى منه وتم سحب القوات الروسية من غرب وشمال أوكرانيا وتركيز الهجوم على الأقاليم الشرقية والجنوبية، فخرجت تقارير أمريكية وغربية تقول إن بوتين يستعد لإعلان الانتصار بالتزامن مع عيد النصر.
وخلال الأيام التي سبقت ذكرى عيد النصر، تحولت التقارير الاستخباراتية الأمريكية تحديداً إلى القول إن بوتين يستعد لتوظيف المناسبة القومية الروسية لإعلان "الحرب" رسمياً على أوكرانيا؛ إذ تصف موسكو الهجوم على كييف بأنه عملية عسكرية خاصة، بينما يصفه الغرب بأنه غزو.
ماذا قال بوتين في خطاب النصر؟
وبعد أسابيع من التكهنات والتسريبات الغربية بشأن خطاب النصر الروسي بمناسبة هزيمة النازية، لم تستغرق كلمة فلاديمير بوتين سوى 11 دقيقة فقط، لم يعلن خلالها انتصاراً على أوكرانيا، كما لم يعلن الحرب أيضاً، بل إن بوتين لم يذكر أوكرانيا بالاسم من الأصل.
وركز خطاب الرئيس الروسي على إثارة ذكريات البطولة السوفييتية في الحرب العالمية الثانية، وأدان في كلمته في الميدان الأحمر في ذكرى مرور 77 عاماً على انتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية ما وصفه بالتهديدات الخارجية لإضعاف وتقسيم روسيا واتهم حلف شمال الأطلسي (الناتو) يخلق تهديدات بجوار حدود روسيا "لم يكن ممكناً التساهل معها".
ووجه بوتين رسالة مباشرة إلى الجنود الذين يقاتلون في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا والتي تعهدت روسيا "بتحريرها" من سيطرة كييف: وقال: "أنتم تقاتلون من أجل الوطن الأم ومن أجل مستقبله وكي لا ينسى أحد دروس الحرب العالمية الثانية. ومن ثم ليس هناك مكان في العالم للجلادين والمحرضين والنازيين".
ويضم إقليم دونباس من منطقتي لوغانسيك ودونيتسك الانفصاليتين، واللتين أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا منذ عام 2014، لكن الانفصاليين المدعومين من روسيا كانوا يسيطرون فقط على ثلث أراضي الإقليم بينما يسيطر الجيش ألأوكراني على الثلثين، واعترف بوتين باستقلال لوغانسيك ودونيتسك يوم 21 فبراير/شباط، أي قبل بدء الهجوم على أوكرانيا بثلاثة أيام فقط.
ويبرر بوتين الهجوم على أوكرانيا بأنه "الطريقة الوحيدة لمنع عسكرة كييف والقضاء على العناصر النازية في الحكومة الأوكرانية"، بعد أن رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن تقديم ضمانات أمنية مكتوبة طلبتها موسكو بأن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف الناتو وأن الحلف سيتوقف عن نشر أسلحته الهجومية بالقرب من الحدود الروسية.
خطاب بوتين تضمن أيضاً دقيقة صمت حداداً على "مقتل كل فرد من جنودنا وضباطنا الذي يشكل حزناً مشتركاً وخسارة لا تعوض لأصدقائهم وذويهم" ووعد بأن ترعى الدولة أبناءهم وأسرهم.
لم يذكر الرئيس الروسي أوكرانيا بالاسم ولو مرة واحدة خلال خطابه، كما لم يقدم أي إشارة إلى المدة التي قد تستغرقها الحرب أو الهجوم أو العملية الخاصة أو الغزو كما يصفه الغرب. ولم يكن هناك أي إشارة إلى المعركة الدموية المحتدمة حالياً للسيطرة على آخر معاقل الأوكرانيين في مدينة ماريوبول، حيث ما زال مدافعون أوكرانيون متحصّنين في أنقاض مصنع آزوفستال للصلب ويقاومون الهجوم.
ولكن بوتين قدم خلال لقاء بثه التلفزيون في مكتبه بالكرملين بعد العرض التعازي لأرتيوم تشوجا، والد قائد كتيبة روسية لقي حتفه في منطقة دونباس. وقال له: "يتم تنفيذ كل الخطط. وما من شك أنه على هذا الأساس سيتم تحقيق نتيجة".
ماذا يعني خطاب بوتين إذن بالنسبة لأوكرانيا؟
يمكن القول إن "الغموض" كان كلمة السر في خطاب بوتين، الذي كان محط التكهنات الغربية طوال الفترة التي سبقته؛ إذ لم يقدم الرئيس الروسي أي إشارة يمكن من خلالها توقع خطوته المقبلة في أوكرانيا أو حتى في أوروبا بشكل عام.
وبحسب تحليل محرر الشؤون الروسية في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ستيفن روزنبيرغ، فإنه كان من الغريب ألا يستخدم بوتين الوصف الذي استخدمه كثيراً للإشارة إلى الهجوم على أوكرانيا وهو "العملية العسكرية الخاصة"، كما أن الرئيس الروسي لم يسمّ ما يجري حرباً.
لكنه حاول أن يقارن بين الأعمال العدائية الحالية والحرب العالمية الثانية، وهو ما قد يكون محاولة لتعبئة المشاعر الوطنية حول هزيمة هتلر لتعزيز الدعم بين الجمهور الروسي للهجوم على أوكرانيا.
لكن بشكل عام كان هناك القليل من القرائن في خطاب النصر لبوتين، ولم يكن هناك ما يشير إلى إنهاء الأعمال العسكرية في أوكرانيا، أياً كان مسماها، وفي الوقت الحالي، يبدو أن "العملية العسكرية الروسية" في أوكرانيا سوف تستمر.
وأعقب كلمة بوتين عرض عبر الميدان ضم أحدث طرز من دبابات أرماتا وتي-90 إم وأنظمة صواريخ وصواريخ باليستية عابرة للقارات، وتم إلغاء عرض جوي مقرر بسبب الغيوم في الجو.
ووضع بوتين بعد ذلك إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول ووضع أزهار القرنفل الحمراء على النصب التذكارية لمدن سوفييتية قاومت قوات هتلر. وكان من بينها كييف وأوديسا- في تذكير بالخسائر الفادحة التي تكبدها الأوكرانيون، مثل الروس، في الحرب.
لكن عدم إفصاح بوتين بأي شكل من الأشكال عما قد تحمله الأيام المقبلة من خطوات روسية في أوكرانيا أحدث حالة واضحة من القلق لدى الغرب، وانعكس ذلك في التصريحات الصادرة عن بايدن ونظيره الفرنسي ماكرون والأمين العام لحلف الناتو، حتى وإن كانت تلك الحالة "ضمنية"، بحسب كثير من المحللين.
ينس ستولتنبيرغ، الأمين العام للأمم المتحدة، دعا بوتين إلى سحب القوات الروسية من أوكرانيا والبدء فوراً في مفاوضات سلام، بحسب صحيفة دي فيلت الألمانية، وأضاف: "إننا نقف بقوة إلى جانب أوكرانيا، وسنواصل مساعدة البلاد في تأكيد حقها في الدفاع عن النفس".
واتهم ستولتنبرغ الرئيس الروسي باستخدام خطابه في 9 مايو/أيار لنشر الأكاذيب عن الغرب وانتقاد الناتو، ورفض ما تقوله روسيا من أن الناتو تصرف بشكل عدواني، وأصر على أنه تحالف دفاعي أقيم لتأمين السلام ودعم قيم الحرية والديمقراطية.
كما اتهم بن والاس، وزير الدفاع البريطاني، بوتين بتقديم ما وصفها "ادعاءات خيالية"، بما في ذلك الإيحاء بأن الناتو يستعد لمهاجمة روسيا: "الرئيس بوتين قدم عدداً من الادعاءات الخيالية لأشهر وسنوات حتى الآن.. أحد ادعاءاته أنه محاصر، ويمثل الناتو 6% من حدوده البرية. وهذا ليس حصاراً إذا كانت 6% فقط من حدودك البرية هي دول الناتو. وقال: "ادعى أن هناك قواعد للناتو في أوكرانيا، وأنا متأكد من أن السفير الأوكراني سيخبرك أنه لا توجد أي قواعد للناتو في أوكرانيا"، بحسب البي بي سي.
لكن وجهة النظر الغربية تناقض تماماً وجهة النظر الروسية، التي ترتكن إلى الوعد الذي قدمته الولايات المتحدة، باسم الناتو، إلى روسيا، عند تفكك الاتحاد السوفييتي، ومفاده أن الناتو لن يتوسع بوصة واحدة شرقاً، لكن خلال العقود الثلاثة الماضية توسع الناتو شرقاً حتى وصل إلى الحدود الروسية بالفعل، وهو ما يراه بوتين تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي.
لماذا يجب أن يقلق بايدن والناتو؟
على أية حال، قد تكون هذه هي المرة الأولى منذ اشتعال الأزمة الأوكرانية، في فصلها الحالي، التي يخالف فيها بوتين التوقعات الغربية بشكل كامل وهو ما خلق حالة من الغموض المشوب بالقلق، وربما تكون تلك الحالة قد تجسدت إلى حد كبير في تصريحات بايدن بعد خطاب النصر الروسي، والتي قال فيها إنه "قلق من عدم وجود مخرج أمام بوتين".
إذ لا يمكننا إغفال أحد أهم ملامح الأزمة الأوكرانية بين بوتين وبايدن بالتحديد، وهي تولي الرئيس الأمريكي ما يصفه البعض بأنه منصب المتحدث الرسمي باسم الأزمة، وعقده المؤتمرات الصحفية بشكل مستمر للحديث عما "ينوي" نظيره الروسي القيام به. فبايدن هو من أعلن أن "الغزو الروسي" سيقع خلال فبراير/شباط الماضي، وعلى الرغم من أن ساكن البيت الأبيض تحدث عن يوم 16 فبراير/شباط، إلا أن الهجوم الروسي بدأ بالفعل يوم 24 من ذلك الشهر، ويظل الأمر مثيراً للدهشة.
البعض هنا يعتبر أن بايدن قرر استخدام سلاح التسريبات الاستخباراتية لإجهاض مخططات نظيره الروسي، لكن البعض الآخر يرى أن الرئيس الأمريكي استخدم ذلك الأسلوب غير المعتاد لتحقيق هدفين؛ الأول هو دفع بوتين دفعاً إلى "غزو" أوكرانيا، والثاني بطبيعة الحال هو شغل الأنظار عن المشاكل الداخلية التي تواجهها إدارته بسبب التضخم وارتفاع أسعار النفط ومن قبلهما الانسحاب الفوضوي من أفغانستان واهتزاز الهيبة الأمريكية عالمياً.
الغريب هنا هو أن جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، قالت للصحفيين الإثنين 9 مايو/أيار، إن الرئيس جو بايدن مستاء بسبب تسريبات لوسائل إعلام إخبارية تنسب فيها المخابرات الأمريكية الفضل فيما يبدو إلى نفسها في مساعدة أوكرانيا في استهداف سفينة روسية وجنرالات روس بأوكرانيا. "الرئيس كان مستاء من التسريبات. رأيه أنها تنطوي على مبالغة لدورنا، وبيان غير دقيق، وأيضاً، تقليل من دور الأوكرانيين وقيادتهم، ولم يشعر بأنها كانت بناءة".
وهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها مثل هذا التصريح عن البيت الأبيض خلال الأزمة الأوكرانية؛ إذ إن خبراء الاستخبارات والمحللين الأمريكيين كانوا يبدون انزعاجهم من "تسريب إدارة بايدن المستمر للمعلومات" كوسيلة سياسية، فماذا حدث وأصاب الرئيس بالاستياء؟
التصريح الآخر "الغريب" الصادر عن بايدن بعد خطاب النصر الروسي، هو قول ساكن البيت الأبيض إنه يشعر بالقلق ألا يكون لدى نظيره الروسي فلاديمير بوتين مخرج من حرب أوكرانيا، وأضاف بايدن أنه يحاول الوقوف على ما يجب فعله حيال ذلك، بحسب رويترز. فهل يبحث بايدن لبوتين عن مخرج من حرب أوكرانيا فعلاً، أم أن خطاب بوتين غير المتوقع قد سبب تلك الحالة من القلق لدى بايدن؟
وفي تحليل لشبكة CNN الأمريكية عنوانه "في يوم النصر دون انتصارات جديدة، خطاب بوتين يضع العالم في حيرة"، بدا أن التركيز الأمريكي الآن هو على ما قد يقدم عليه بوتين في الأيام المقبلة، سواء بشأن أوكرانيا أو بشأن الدول الراغبة في الانضمام لحلف الناتو، أي السويد وفنلندا، اللتين من المفترض أن تتخذا القرار هذا الشهر.
الخلاصة هنا هي أن خطاب بوتين جاء خالياً تماماً مما توقعه الغرب، أو ربما مما "انتظره" بايدن والناتو، وهو ما وضعهما في حالة من القلق من خطوة الرئيس الروسي المقبلة، فلماذا غابت أوكرانيا بشكل كامل من خطاب بوتين؟