استمرت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عقوداً دون أن تتحول لمواجهة مباشرة، فما المختلف في الأزمة الأوكرانية والحرب الباردة بين حلف الناتو وروسيا ويهدد العالم بحرب نووية؟
نشرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تحليلاً للأزمة الحالية، عنوانه "الحرب الباردة الجديدة قد تشتعل قريباً"، رصد أسباب وصول حدة التوترات بين روسيا والدول الغربية إلى مستوى خطير لم تشهده منذ أزمة الصواريخ الكوبية، وذلك على خلفية بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، المستمر منذ نحو شهرين ونصف الشهر.
هل وصلت العلاقات مع روسيا إلى نقطة اللاعودة؟
إذ اتهم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بارتكاب "إبادة جماعية"، ووصفه بأنَّه "مجرم حرب"، وقال إنَّه "لا يمكنه البقاء في السلطة". ووفقاً لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية الآن إلى "إضعاف روسيا" إلى درجة تمنعها من تشكيل أي تهديد لجيرانها. وصفت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، الحرب في أوكرانيا بأنَّها "حربنا".
توخى قادة أوروبيون آخرون قدراً أكبر من الحذر في اختيار الكلمات، لكنهم كانوا واضحين بنفس القدر في معارضتهم للهجوم الروسي. قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عن الهجوم الروسي بعد زيارة بلدة بوتشا في أوائل أبريل/نيسان، إنَّه "شنيع وصادم".
وضع هذا الصراع أعضاء الاتحاد الأوروبي في حالة تأهب عسكري قصوى، وأكَّد بشكل كبير على مخاطر الاعتماد الأوروبي على إمدادات الطاقة الروسية. تلاشى التغاضي عن استعداد بوتين لاستخدام القوة وتسليح التجارة وتراجع الإحجام عن الترحيب بأوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. نشر حلف الناتو الآلاف من القوات الجديدة بالقرب من حدود روسيا، ويرجح أن يضم الحلف فنلندا والسويد إلى صفوفه قريباً.
في غضون ذلك، تغيَّر تأطير القادة الروس لهذه الحرب من "عملية خاصة محدودة" إلى تحرير أجزاء من شرق أوكرانيا إلى صراع وجودي شامل ضد حلف الناتو. اتهم بوتين الولايات المتحدة وآخرين بمحاولة "تدمير روسيا من الداخل". هدَّد أيضاً القادة الروس، في مناسبات عديدة، بنشر أسلحة نووية ضد أي دولة تتجرأ على التدخل في الصراع.
تُشكّل هذه التطورات مجتمعة واقعاً جديداً خطيراً، انقضت تلك الأيام التي كانت أهداف الحرب الروسية تتمثل فقط في "إزالة النازية ونزع السلاح" من أوكرانيا. ولَّت أيضاً الأيام التي حصرت فيها الولايات المتحدة والحكومات الحليفة نطاق مشاركتها لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن سيادتها وسلامتها الإقليمية. لقد تجاوز القادة على جانبي الصراع الآن سلسلة من الخطوط التي لا يمكن التراجع إلى ما وراءها بسهولة، والنتيجة هي حرب باردة جديدة بين روسيا وخصومها، حرب تعد بأن تكون أقل عالمية من نظيرتها المندلعة في القرن الـ20، لكنها أقل استقراراً وأقل قابلية للتنبؤ بمسارها.
حرب باردة جديدة أكثر خطورة
سيكون النزاع الناشئ بين روسيا والولايات المتحدة أقل خطورة، لأنَّ روسيا الآن، على الرغم من ترسانتها النووية وثرواتها الهائلة من الموارد الطبيعية، تُشكّل تهديداً عسكرياً أقل فاعلية بكثير لواشنطن من الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية. فعلى أية حال قدَّم هجوم بوتين (على أوكرانيا) للمسؤولين الأمريكيين والحلفاء نظرة فاحصة على أوجه القصور العسكرية لموسكو.
أظهر فشل الهجوم الروسي الأولي على كييف وخسائر موسكو الهائلة في ساحة المعركة أنَّ المليارات التي أنفقتها روسيا على التحديث العسكري خلال العقد الماضي على الأرجح ضاعت هباءً وهدراً أو سُرقت أو كليهما، بحسب تحليل فورين أفيرز، المعتمد على التقييمات الغربية لمسار الحرب في أوكرانيا.
يأتي حجم الاقتصاد الروسي على نفس القدر من الأهمية، والذي -على الرغم من عائدات النفط والغاز- كان أصغر من حجم اقتصاد مدينة نيويورك وقت الهجوم الروسي، ويُتوقع أن يكون قد انكمش بنسبة 10% إلى 15% في عام 2022 جراء العقوبات الغربية وحلفائها ضد روسيا، وهو ركود سيحد حتماً من قدرة موسكو على إكراه الدول الأخرى بقوتها الاقتصادية.
على النقيض من الاقتصاد الموجه للاتحاد السوفييتي، الذي عزل البلاد عن الحرب الاقتصادية، أصبحت روسيا في عهد بوتين معتمدة كثيراً على التجارة الخارجية والاستثمار. تستطيع روسيا بكل تأكيد استخدام هذا الاعتماد الدولي المتبادل سلاحاً لصالحها، كما يتضح من القرار الأخير للكرملين بوقف صادرات الغاز إلى بلغاريا وبولندا، لكن بينما تستطيع أوروبا تجاوز تداعيات الانفصال عن روسيا فإنَّ خيارات موسكو الاستراتيجية تبدو محدودة بدرجة أكبر كثيراً من فترة الاتحاد السوفييتي.
خلال القرن الـ20، استمالت الجاذبية الأيديولوجية للاتحاد السوفييتي أصدقاء ومعجبين حقيقيين لموسكو في جميع أنحاء العالم، من ضمنهم كوبا ونيكاراغوا في الأمريكتين ومصر وسوريا في الشرق الأوسط وكمبوديا وفيتنام في جنوب شرق آسيا وإثيوبيا وموزمبيق في إفريقيا.
وفي المقابل، تمتلك روسيا اليوم علاقات مع دول كثيرة حول العالم تحكمها المصلحة الذاتية فقط. رغم أنَّ العديد من الدول -بما في ذلك معظم الديمقراطيات منخفضة ومتوسطة الدخل مثل البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك- تبقى محايدة وتواصل التعامل مع روسيا، لم يدافع عن قرار الهجوم الروسي على أوكرانيا في الأمم المتحدة سوى بيلاروسيا وإريتريا وكوريا الشمالية وسوريا.
حتى بكين تظهر قيمة محدودة باعتبارها حليفاً لروسيا. رغم تأكيد الزعيم الصيني، شي جين بينغ، أنَّ الصداقة مع روسيا "لا حدود لها"، أظهرت الحرب في أوكرانيا أنَّ ثمة حدوداً لدعم الصين لبوتين، وأنَّ اهتمام شي جين بينغ بمستقبل الصين ومستقبله الشخصي يفوق كثيراً اهتمامه بمستقبل روسيا وبوتين.
مخاطر الانقسام الداخلي الأمريكي
قد تكون الصين قوة تعديلية عازمة على تقويض الهيمنة الأمريكية، لكن بكين لديها مصلحة كبيرة في الحفاظ على الاستقرار العالمي. تعتمد شرعية شي جين بينغ والحكم المحلي للحزب الشيوعي الصيني على النمو الاقتصادي المستمر، ويعتمد النمو المستمر على العلاقات البراغماتية مع كبار الشركاء التجاريين لبكين في أوروبا واليابان والولايات المتحدة. لهذا السبب من غير المرجح أن تخاطر الصين بمواجهة النظام العالمي بانتهاك علني لعقوبات الدول الغربية أو تقديم دعم عسكري مباشر لموسكو.
أما بالنسبة لواشنطن، فعلى النقيض من حرب القرن الـ20 الباردة، أصبحت الولايات المتحدة الآن العضو الأكثر انقساماً سياسياً واختلالاً وظيفياً في مجموعة الدول الصناعية السبع. رغم أنَّ كلاً من الديمقراطيين والجمهوريين متفقون حالياً على أنَّ الأوكرانيين يستحقون المساعدة العسكرية، وأنَّ الروس يستحقون العقوبات الغربية، فإن مثل هذه الوحدة السياسية المحلية لن تدوم طويلاً مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي.
إذ سيسلط الجمهوريون الضوء على ارتفاع أسعار الغاز ومعدل التضخم في إطار جهود تصوير بايدن زعيماً ضعيفاً ومتداعياً أضاع أوكرانيا. في المقابل، سيحاول الديمقراطيون ربط الحزب الجمهوري بإعراب الرئيس السابق دونالد ترامب مراراً عن إعجابه بشخصية بوتين وتشكيكه في حلف الناتو.
ثمة عنصر آخر من عناصر خطورة هذه الحرب الباردة الجديدة يكمن في الخطاب المتشدد للزعماء الغربيين عن المنافسة الأيديولوجية بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية. جادل بايدن وبعض القادة الأوروبيين، على سبيل المثال، بضرورة طرد روسيا من مجموعة العشرين، وهي منتدى دولي للتعاون الاقتصادي والمالي يضم قادة أكبر 20 اقتصاداً في العالم.
على الرغم من المزاعم الساخرة بأنَّ مجموعة العشرين ليست سوى مساحة لالتقاط الصور الجيوسياسية، فقد أثبت هذا المنتدى قيمته خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008، عندما شَكَّل مساحة حيوية لعقد اجتماعات بين الدول ذات الأنظمة السياسية والقيم الأيديولوجية المختلفة.
وأدرك قادة مجموعة العشرين، مع انهيار الأسواق المالية العالمية عام 2008، أنَّهم لا يستطيعون الاستجابة لهذه الكارثة الاقتصادية، إلا إذا كان لدى الدول غير الديمقراطية مثل الصين وروسيا والمملكة العربية السعودية مقاعد على الطاولة جنباً إلى جنب مع الديمقراطيات الصناعية المتقدمة.
بايدن وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء
على النقيض من ذلك، لا يرى بايدن حاجة كبيرة للتعاون عبر الحدود الأيديولوجية. صاغ الرئيس الأمريكي الصراع في أوكرانيا باعتباره "معركة بين الديمقراطية والاستبداد"، بدلاً من تصويره على أنَّه محاولة فردية لخوض حرب عدوانية.
وبحسب تحليل مجلة فورين أفيرز، يجب على بايدن والقادة المتحالفين معه الاختيار بين مشاركة طاولة مجموعة العشرين مع بوتين وشي أو جعل المنتدى غير فعَّال، في وقت تتنامى فيه خطورة التهديدات العالمية التي تتطلب إجراءات جماعية، مثل تغير المناخ والأوبئة وانتشار التقنيات التخريبية.
أما السبب الأخير الذي يجعل هذه الحرب الباردة الجديدة أكثر خطورة من سابقتها فهو الاحتمال المتزايد بأن تلجأ روسيا إلى شن حرب سيبرانية مدمرة حقاً. على الرغم من التباين بين موسكو وواشنطن في المقاييس التقليدية للقوة، فإنَّ الأسلحة الرقمية الروسية الأكثر تطوراً قادرة على زعزعة الاستقرار بدرجة أكبر من الصواريخ النووية، التي هددت الولايات المتحدة وأوروبا في ثمانينيات القرن الماضي. تستطيع الأسلحة السيبرانية إلحاق أضرار جسيمة بالنظم المالية وشبكات الطاقة والبنى التحتية الأساسية الأخرى.
وبناءً عليه، لا ينبغي لواشنطن أن تركن إلى حقيقة عدم لجوء بوتين حتى الآن إلى هذا النوع من الأسلحة المدمرة. تستغرق الهجمات السيبرانية الفعّالة شهوراً، وربما سنوات، للتخطيط لها، والحرب في أوكرانيا قد بدأت لتوها.
ماذا يعني غياب الحد الأدنى من الحماية ضد التصعيد؟
ترسم هذه المعطيات صورة مقلقة للغاية بشأن الحرب الباردة الجديدة، ويجب على قادة العالم التفكير في تثبيت حواجز حماية، أي تدابير سلامة مصممة لضمان عدم تصعيد الصراع إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، بحسب فورين أفيرز.
على سبيل المثال، وضع القادة الأمريكيون والأوروبيون والسوفييت عدداً من التدابير الوقائية لضمان السلامة العالمية بعد أزمة الصواريخ الكوبية -من بينها اتفاقيات الحد من التسلح مثل معاهدة القوى النووية متوسطة المدى وتدابير بناء الثقة مثل معاهدة الأجواء المفتوحة- لضمان ألا تؤدي الحروب بالوكالة حول العالم إلى اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
وكانت الولايات المتحدة قد قدمت مقترحاً يتعلق بتوفير معلومات تخص صواريخ توماهوك النووية التي ينشرها الناتو في أوروبا الشرقية، لكن ذلك المقترح ليس كافياً للرئيس الروسي بوتين، الذي أراد ضمانات بأن الحلف العسكري الغربي سيتوقف عن التمدد شرقاً حتى حدود روسيا.
ولا يزال القادة الأمريكيون والأوروبيون يعتقدون أن بإمكانهم منع خروج الصراع الحالي عن نطاق السيطرة ويمضون قدماً في فرض عقوبات أشد صرامة ضد روسيا وإرسال أسلحة مميتة إلى كييف وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع الجيش الأوكراني وتشجيع توسع الناتو شرقاً بالقرب من الحدود الروسية.
يتحدثون كما لو أنَّ رفضهم إرسال قوات تابعة للناتو إلى الأراضي الأوكرانية أو فرض منطقة حظر طيران سيحد حقاً من خطر الانتقام الروسي. في الواقع، يعتبر بوتين كل هذه الخطوات بمثابة أعمال حرب. قد لا تمتلك روسيا القدرة على رد الصاع صاعين حتى الآن، لكن كلما طال أمد الحرب تزداد صعوبة منع تصاعد القتال إلى صراع أوسع نطاقاً.
حتى لو أقتنع بوتين بإنهاء هذه الحرب فلن تكون هناك عودة إلى الاستقرار النسبي الذي كان قائماً قبل 24 فبراير/شباط. وستكون الحرب الباردة الجديدة مفتوحة النهاية: ستظل روسيا مثقلة بعقوبات الحلفاء إلى أجل غير مسمى وستتقلّص علاقاتها التجارية مع أوروبا التي قد تشجع على ضبط النفس.
سيلجأ بوتين على الأرجح أيضاً إلى اختبار عزيمة الناتو. قد تقرر روسيا، على سبيل المثال، ضرب قوافل أسلحة أو مراكز تدريب ومستودعات تخزين تابعة للحلفاء الغربيين في أوكرانيا. قد تبدأ روسيا أيضاً في شن هجمات سيبرانية محدودة ضد البنية التحتية المدنية الأمريكية والأوروبية، فضلاً عن إمكانية تصعيد حملاتها الإعلامية لتخريب الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أو قطع إمدادات الغاز عن المزيد من الدول الأوروبية، وتقييد صادرات السلع الأساسية. سيتعرض قادة الناتو حينذاك لضغوط هائلة للرد على هذه الاستفزازات الروسية، الأمر الذي يهدد بمزيد من التصعيد الخطير.
إذا خسر بوتين منطقة دونباس ووجد استحالة في تحقيق أي انتصار، فإنَّ مخاطر التصعيد ستزداد سوءاً. قد تفكر موسكو في هذا السيناريو، في استخدام الأسلحة الكيميائية لتغيير مسار الحرب لصالحها، أو مهاجمة منشآت الناتو في بولندا. ربما يستجيب القادة الأمريكيون والأوروبيون بشن ضربات مباشرة على الأصول الروسية في أوكرانيا، أو فرض منطقة حظر طيران. في هذا السياق، قد يرغب كلا الجانبين في شن هجمات سيبرانية مدمرة على البنى التحتية لبعضهما البعض، ولن يكون استخدام الأسلحة النووية ونشر قوات الناتو أمراً غير وارد بعد الآن، رغم أنَّها لا تزال خطوات مستبعدة الحدوث؛ لذا يهدد انعدام حواجز الحماية بسلوك العالم مساراً لا نعرف إلى أين قد يقودنا.