في ظل سعي الدول الأوروبية الحثيث لإيجاد بدائل سريعة للغاز الطبيعي الروسي؛ تتجه الأنظار جنوباً نحو الجزائر، التي تمتلك فوائض محدودة لزيادة صادراتها من الغاز، يمكن مضاعفتها خلال الأعوام القليلة القادمة؛ ما جعل التنافس محموماً بين دول جنوب القارة العجوز، وبالأخص إيطاليا وإسبانيا، التي دخلت في الآونة الأخيرة في خلاف كبير مع الجزائر.
وهذا ما يفسر زيارة عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الغربيين إلى الجزائر منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط الماضي، على غرار وزير الخارجية البرتغالي أوغوستو سانتوس، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ورئيس الحكومة الإيطالي ماريو دراغي، ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
كما أبدى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف رغبته في زيارة الجزائر قريباً، واتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون، لتنسيق المواقف على مستوى الدول المصدرة للنفط "أوبك +"، وأيضاً منتدى الدول المصدرة للغاز.
بينما لا تخفي إسبانيا قلقها من تأثير أزمتها الأخيرة مع الجزائر بسبب تغير موقفها التاريخي من قضية الصحراء الغربية، على إمدادات الغاز الطبيعي إلى أسواقها، ومنافسة قوية من إيطاليا، التي قد تقضم جزءاً من حصتها من صادرات الغاز الجزائري.
فتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، دفعت الاتحاد الأوروبي، وبضغط من الولايات المتحدة، إلى إعادة بناء استراتيجية جديدة لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، بعيداً عن الهيمنة الروسية.
وتشكل الجزائر إحدى أبرز هذه البدائل، لقربها الجغرافي من أوروبا، وامتلاكها شبكة من أنابيب نقل الغاز الطبيعي نحوها، واحتياطات مهمة تقدر بـأكثر من 2400 مليار متر مكعب، وإنتاج يفوق 130 مليار متر مكعب سنوياً.
وفي هذا الصدد، رشح تقرير فرنسي لرئيس "معهد الاستشراف الاقتصادي لعالم البحر الأبيض المتوسط" جان لوي جيجو، الجزائر لتصبح "البطارية الكهربائية" لأوروبا، بحسب ما نشرته صحيفة "لوموند".
تنافس إسباني إيطالي على الغاز الجزائري
أثار اتفاق إيطاليا مع الجزائر على زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي قلق إسبانيا من تأثير ذلك على حصتها من الغاز الجزائري، خاصة أن كمية الزيادة التي اتُّفق عليها تقدر بـ9 مليارات متر مكعب ما بين عامي 2023 و2024، وهو نفس حجم الواردات الإسبانية من الجزائر.
وتزامن الاتفاق الجزائري الإيطالي، مع أزمة سياسية متصاعدة بين الجزائر وإسبانيا، عقب تغيير الأخيرة موقفها التاريخي من قضية الصحراء الغربية، وسحب الجزائر لسفيرها في مدريد، وإعلان مجمع سوناطراك نيته رفع أسعار الغاز المصدر إلى إسبانيا دون غيرها من الزبائن.
وتخشى إسبانيا أن يؤثر الاتفاق الجزائري الإيطالي على مفاوضاتها مع الجزائر على أسعار الغاز، وأن يقلص من العرض المتاح لسوقها، في ظل تحول الغاز الطبيعي إلى سلعة ثمينة يشتد عليها الطلب.
وفي هذا السياق، كشفت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية، عن محادثات بين مدريد وروما لدرء التوتر بشأن الغاز الجزائري.
ونقلت الوكالة عن مصادر مطلعة، عن إجراء دبلوماسيين من إيطاليا وإسبانيا محادثات بعد تحرك روما لتأمين كميات كبيرة من الغاز الجزائري أثار مخاوف في مدريد، من أن وصولها إلى الوقود الرئيس قد يتأثر.
وتستورد إيطاليا 21 مليار متر مكعب سنوياً من الجزائر عبر أنبوب غاز يمر من الأراضي التونسية، وسيرتفع هذا الرقم إلى 30 مليار متر مكعب بين عامي 2023 و2024، بزيادة 9 مليارات متر مكعب تمثل 12% من احتياجاتها.
بينما تستورد إسبانيا 9 مليارات متر مكعب من الغاز الجزائري عبر أنبوب "ترانسميد"، بعد توقيف الجزائر صادراتها الغازية نحو إسبانيا والبرتغال عبر أنبوب المغرب العربي المار عبر الأراضي المغربية بسبب خلافات مع الرباط، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
من أين ستأتي الجزائر بالغاز الإضافي لإيطاليا؟
تخشى الحكومة الإسبانية أن يتسبب الاتفاق الإيطالي الجزائري في تخفيض شحناتها من الغاز الطبيعي الجزائري، وإمكانية تحويل الغاز المتجه إليها نحو إيطاليا، رغم إعلانها ثقتها في احترام الجزائر لتعاقداتها.
واستمرت الجزائر في توريد الغاز الطبيعي لإسبانيا طيلة عقود طويلة، رغم الخلافات التي كانت تنشب من حين إلى آخر بين الطرفين، خاصة ما تعلق بالأسعار، لذلك تعدها مدريد "شريكاً موثوقاً".
وتملك الجزائر حالياً "بعض المليارات من الأمتار المكعبة الإضافية"، بحسب المدير العام لمجمع سوناطراك توفيق حكار.
ولم يحدد حكار حجم الكميات المتوفرة بدقة، لكن الأكيد أنها لا تغطي حجم الزيادة في إمدادات الغاز إلى إيطاليا، لذلك نص الاتفاق على أن تكون الزيادة تدريجية حتى العام المقبل أو العام الذي يليه.
فعملاق الطاقة الجزائري (سوناطراك) يراهن على استثمار 40 مليار دولار ما بين 2022 و2026، لزيادة الاستكشاف والإنتاج.
وطمأنت شركة "إيني" الإيطالية، أكبر مستثمر في قطاع الطاقة بالجزائر، إسبانيا، بأن الكميات الإضافية ستكون "نتيجة للتعاون الوثيق في تطوير مشاريع الغاز" بالجزائر.
ويدل ذلك على أن الشركة الإيطالية ستضخ استثمارات إضافية في قطاع النفط والغاز الجزائري، الذي حقق ثلاثة اكتشافات نفطية مهمة مطلع العام الجاري.
وتراجعت استثمارات الجزائر في قطاع استكشاف وإنتاج الغاز خلال الأعوام الأخيرة، بعد أن اتجهت أوروبا نحو الأسواق الحرة، وتخلت عن العقود الطويلة لشراء الغاز، التي كانت تضمن بحسب حكار، "الوضوح واستقرار الأسعار"؛ ما أدى إلى اختلالات في العرض بسبب تراجع الاستثمارات، ثم ارتفاع الأسعار قبل الحرب الروسية الأوكرانية، التي ألهبتها أكثر.
وارتفاع الأسعار واشتداد التنافس بين الدول الأوروبية على تأمين احتياجاتها من الغاز، يخدم استراتيجية الجزائر في البحث عن عقود طويلة الأمد، قبل المغامرة بضخ عشرات المليارات من الدولارات لإنتاج كميات كبيرة قد لا تجد من يشتريها بسعر يغطي التكلفة ويحقق أرباحاً.
إسبانيا تلجأ للوساطة الأوروبية
توتر العلاقة بين الجزائر وإسبانيا، عقب تغيير الأخيرة موقفها التاريخي من الصحراء الغربية، وصل إلى الدرجة التي أصبح لا يُردُّ فيها على وزير الشؤون الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، عبر الهاتف في الجزائر العاصمة، بحسب صحيفة "إل سونفيدانسيال" الإسبانية.
إذ انقطع التواصل بين البلدين بعد سحب الجزائر سفيرها من مدريد، لذلك طلبت الأخيرة من الاتحاد الأوروبي التدخل للوساطة.
وذكرت الصحيفة الإسبانية أنه، بناءً على طلب "الباريس"، التقى جوزيف بوريل، المفوض الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، في 26 مارس/آذار الماضي، في الدوحة (قطر)، وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، في اجتماع غير رسمي.
وكان رد لعمامرة، أن بلاده "ستفي بالتزاماتها فيما يتعلق بإمدادات الغاز، لكنها سترفع سعرها كما هو منصوص عليه في عقود الطاقة الحالية، لتقريبها من سعر السوق".
وطمأن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في 23 أبريل/نيسان، من أن "الجزائر لا تتخلى أبداً عن التزامها بتمويل إسبانيا بالغاز مهما كانت الظروف".
فالجزائر متمسكة بالظهور شريكاً موثوقاً أمام زبائنها الأوروبيين، بالنظر إلى حاجة عقود الغاز إلى الاستقرار، خاصة مع صعوبة نقله، سواء في حالته الغازية أو بعد تسييله على عكس النفط.
بينما تسعى إسبانيا إلى زيادة وارداتها من الغاز الصخري الأمريكي المسال، ذي التكلفة العالية من حيث الاستخراج، والإسالة والنقل في سفن خاصة، ثم إعادة تغويزه؛ ما يرفع سعره مقارنة بالغاز الطبيعي الجزائري، الذي لا يحتاج إلى إسالة وإعادة تغويز، ويمر مباشرة عبر أنبوب ميدغاز إلى إسبانيا، دون شحنه في السفن.
ففي ظل أزمتها مع الجزائر، ارتفعت نسبة الغاز المسال الذي استوردته إسبانيا في مارس الماضي إلى 24%، مقارنة بالمدة المقابلة من العام الماضي، أو ما يمثل 71% من الغاز الطبيعي المستورد، بحسب بيانات بلومبرغ.
ومن المستبعد أن تلجأ الجزائر لقطع إمدادات الغاز عن إسبانيا، سواء التقليدية أم المسالة، خاصة أنها المورد الرئيس لأسواقها، لكنها قد تكتفي بتوفير الحد الأدنى المنصوص عليه في العقود، إذا ما استمرت الأزمة السياسية بين البلدين، خاصة مع اشتداد الطلب والمنافسة الشرسة على إمدادات الغاز رغم تضاعف أسعاره.