المسيحية الأرثوذكسية هي الديانة الغالبة في روسيا وأوكرانيا، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية من أكبر كنائس العالم وأكثرها نفوذاً، فكيف تسببت الحرب في شرخ ديني تمحور حول فلاديمير بوتين؟
ومع حلول مناسبة دينية كبيرة كعيد الفصح، الذي يحتفل به المسيحيون الأرثوذكس في كل من روسيا وأوكرانيا الأحد 1 مايو/أيار، دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى هدنة بين البلدين احتراماً لتلك المناسبة، وزار موسكو بالفعل وسيزور كييف الخميس 28 أبريل/ نيسان، دون أن يلوح في الأفق مؤشرٌ على نجاح مسعاه لإقرار هدنة.
ونشرت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً عنوانه "كيف قسّم الهجوم الروسي على أوكرانيا العالم المسيحي الأرثوذكسي؟"، رصد التداعيات السلبية للحرب على أوضاع الطائفة الأرثوذكسية والانقسام الخطير بين الكنيسة الروسية ونظيرتها الأوكرانية.
هزة عنيفة داخل الكنيسة الأرثوذكسية
ولا تزال الحرب، التي دخلت بالفعل شهرها الثالث مستمرةً، دون أن تلوح في الأفق نهاية قريبة للصراع، ووجَّه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتهاماً لموسكو برفض مقترح الأمم المتحدة بعقد هدنة خلال عيد الفصح، وهو الاتهام ذاته الذي يوجهه الكرملين لكييف.
وإذا كان الهجوم الروسي قد أحدث هزةً في الأسواق العالمية، وأعاد إحياء تحالف الناتو، وأثار التحقيقات في ارتكاب جرائم حرب، إلا أنه أدى كذلك إلى اندلاع شقاقٍ داخل الكنيسة الأرثوذكسية بين جناحها الروسي وبطريركه الموالي للكرملين، وبين القادة الأرثوذكس في كييف وحول العالم.
حيث تُعتبر المسيحية الأرثوذكسية من أكبر الطوائف المسيحية في العالم -بعد الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية. ويتركز غالبية أتباعها البالغ عددهم 260 مليون تقريباً في أوروبا، وروسيا، وأجزاء أخرى من الاتحاد السوفييتي سابقاً.
كما تُعد الديانة المهيمنة في روسيا وأوكرانيا على حد سواء؛ حيث أصبحت وضعية الكنيسة مصدراً للتوترات بين موسكو وكييف؛ إذ يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحليفه في الكنيسة البطريرك كيريل أن أوكرانيا هي جزءٌ لا يتجزأ من العالم الروسي الكبير -وهو عالمٌ تلعب فيه موسكو دور المركز السياسي تاركةً لكييف دور المركز الروحاني.
ولهذا قدم كيريل (75 عاماً) كامل دعمه للحرب ووصفها بأنها "حرب مقدسة"، وأكد على هذا الدعم مرةً أخرى بينما كان العالم الغربي يُعرب عن القلق من التقارير المنتشرة حول مزاعم ارتكاب القوات الروسية جرائم حرب داخل أوكرانيا. ولا شك أن موقفه المؤيد للحرب قد أغضب قادة الكنائس الأخرى سواء داخل أوكرانيا أو من أتباع الأرثوذكسية في بقية أنحاء العالم، والذين أدان العديد منهم الحرب وطالبوا كيريل بإعادة النظر في موقفه الداعم لها.
ومع استعداد العالم الأرثوذكسي للاحتفال بإجازة عيد الفصح؛ ها هي آخر ما وصلت إليه تطورات التوترات داخل هذه الكنيسة، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
الكنيسة الأرثوذكسية الروسية
تُعد الكنيسة الروسية الأرثوذكسية من أكبر كنائس العالم وأكثرها نفوذاً، ويتبعها أكثر من 100 مليون شخص، وفقاً لمركز أبحاث Pew Research Center. وقد انتُخِب كيريل في عام 2009 كأول بطريرك لهذه الكنيسة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
وقد عزّز كيريل دوره منذ ذلك الحين كحليفٍ للكرملين؛ حيث ساعد بوتين على تغليف طموحاته السياسية والعسكرية بعباءة الدين.
وقبل يومٍ من الهجوم في 23 فبراير/شباط، أصدر كيريل بياناً يُثني فيه على بوتين "لخدمته المسؤولة ورفيعة المستوى للشعب الروسي"، واصفاً الخدمة العسكرية الإلزامية بأنها "تجسيدٌ حي للحب الإنجيلي الذي يُظهره المرء لجيرانه".
وفي الأسابيع التي أعقبت اندلاع الحرب، استخدم كيريل خُطبه الدينية لتبرير الهجوم، وصوّره على أنه كفاحٌ ضد الثقافة الغربية الآثمة -رغم أنه راعى عدم الإشارة إلى النزاع باعتباره حرباً أو غزواً روسياً.
وفي وقتٍ مبكر من الشهر الجاري، ألقى كيريل خطبةً حثّ خلالها الروس على الالتفاف حول الحكومة "في هذا الوقت العصيب"، وفقاً لما أوردته وكالة Reuters البريطانية.
ونقلت عنه وكالة Interfax الروسية قوله أثناء خطبةٍ في موسكو: "فليساعدنا الرب على الاتحاد في هذا الوقت العصيب لبلدنا الأم، وخاصةً حول سلطاتنا".
الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية – بطريركية موسكو
يُعرِّف غالبية الأوكرانيين أنفسهم بأنهم مسيحيون أرثوذكس، وفقاً لمركز أبحاث Pew. لكنَّ ولاءهم مقسّمٌ بين كيانَين كنسيين رئيسيين على الأقل، من بينهما الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية التي تُعد "ذاتية الحكم"، ولكنها لا تزال تحت وصاية بطريركية موسكو.
ولكن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في السنوات الأخيرة، وتدخلها في شرقي أوكرانيا، زاد من عدد أتباع الكنيسة الأوكرانيين الذين سعوا لمواجهة نفوذ موسكو المتزايد، من وجهة نظرهم.
وتزايدت هذه الدعوات منذ بدء الهجوم الأخير، بينما ثار غضب الأبرشيين بسبب دعم الكنيسة الروسية الأرثوذكسية للحرب؛ مما وضع الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية وقائدها، المطران أونوفوري، في وضعٍ حرج، خاصةً بعد انتشار تقارير مصدرها أوكرانيا والولايات المتحدة بشأن مذابح مزعومة للمدنيين وغيرها من جرائم الحرب، وجميعها تنفيها موسكو بشكل قاطع، ويشكك خبراء غربيون في توصيفها أو وقوعها من الأساس أحياناً.
ويوم الهجوم في الـ24 من فبراير/شباط، أصدر أونوفوري بياناً وصف خلاله الحملة العسكرية بـ"الكارثية"، ودعا بوتين "لوقف هذه الحرب بين الأشقاء على الفور". وأوضح أونوفوري أن الحرب بين الروس والأوكرانيين "هي تكرارٌ لخطيئة قابيل، الذي قتل شقيقه بدافع الغيرة. ولا مبرر لهذه الحرب أمام الله أو الناس".
ويمكن تلخيص وجهة النظر الروسية والغربية بشأن الحرب في أن الرئيس فلاديمير بوتين يرى أن الغرب يريد استخدام أوكرانيا كنقطة ارتكاز لغزو وتدمير روسيا، بينما يرى الغرب أن الهجوم على أوكرانيا ليس له سبب سوى "جنون العظمة لدى القيصر".
ويجادل بوتين بأن الغرب يهدف إلى استخدام أوكرانيا كنقطة انطلاق لغزو روسيا وتدميرها، وبذلك صوَّر الهجوم على أوكرانيا على أنه ضربةٌ استباقية ضد العدوان الغربي ومعركةٌ حاسمة لحماية سيطرة الإمبراطورية الروسية الشرعية على شرق أوروبا، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك الأمريكية عنوانه "شرح حجج بوتين للهجوم على أوكرانيا".
وأكّدت الكنيسة الأوكرانية على دورها في تقديم المساعدة للمدنيين، والإشراف على دفن جثث أفراد القوات المسلحة الأوكرانيين، كما توقف بعض القساوسة عن ذكر اسم كيريل في خطبهم، بينما دعا البعض أونوفوري إلى الانفصال عن موسكو تماماً.
الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية
يبلغ عمر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية ثلاثة أعوامٍ فقط، وجاء تأسيسها كنتيجةٍ مباشرة للحركة المزدهرة من أجل الانفصال عن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وإنشاء كيانٍ كنسي مستقل بالكامل من أجل أوكرانيا.
وقائد هذه الكنيسة هو المطران إبيفانيوس (43 عاماً)، الذي كان من أشد منتقدي بوتين والحرب. وقد سارع إبيفانيوس بعد بدء الهجوم مباشرةً ليصدر بياناً يقول فيه: "تتجسد روح المسيخ الدجال في زعيم روسيا، وخير علاماتها هي: الفخر، والإخلاص للشر، والقسوة، والتدين الكاذب. هكذا كان هتلر يفعل خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا ما تحول إليه بوتين اليوم".
وبعد زيارة المطران لمدينة تشيرنيهيف المدمرة؛ حثّ إبيفانيوس الأوكرانيين على مواصلة القتال ضد الهجوم الروسي.
بطريركية القسطنطينية المسكونية
تُعتبر بطريركية القسطنطينية المسكونية من أقدم المؤسسات في العالم. وليس للكنيسة الأرثوذكسية هذه قائدٌ منفرد، ولكن يُعد البطريرك المسكوني بارثولوميو المرشد الروحاني "الأول بين نظرائه" من البطاركة الآخرين.
وقد انتقد بارثولوميو موسكو، والحرب، وكيريل، والكنيسة الروسية الأرثوذكسية. وأدان في اليوم الأول من الهجوم ما وصفه بأنه "هجومٌ لا مبرر له من روسيا على أوكرانيا".
وفي مقابلةٍ أجراها لاحقاً مع شبكة CNN Turk الأمريكية، دافع البطريرك عن قراره بمنح الاستقلال الذاتي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، محذراً من أن الهجوم الروسي والعزلة سيؤديان إلى "حربٍ باردة جديدة".
ويُذكر أن البطريركية قد أوصلت مساعدات إنسانية إلى الكنيسة في كييف. وفي زيارةٍ لبولندا أواخر مارس/آذار، أدان بارثولوميو الهجوم باعتباره عملاً "شنيعاً". كما أردف أن التضامن مع الأوكرانيين "هو السبيل الوحيد للتغلب على الشر والظلام في عالمنا".