تقارب مدة الهجوم الروسي العسكري على أوكرانيا من دخول شهرها الثالث، والتي تسببت حتى الآن بأضرار كبيرة في أوكرانيا، في الممتلكات والأرواح، وخسائر روسية عسكرية كبيرة أيضا، على الأقل بحسب السلطات الأوكرانية والمصادر الغربية، وقد يبدو للوهلة الأولى ألّا مصلحة لأحد في إطالة الحرب، ولكن هذا قد لا يكون صحيحاً.
يحصل ذلك بعد تحليلات كثيرة قبل وبعد بدء الهجوم، تتحدث عن خطة روسية للقيام بحرب خاطفة، تحقق أهداف موسكو في أوكرانيا في أيام قليلة، وربما حتى تمكنها من السيطرة الكاملة على البلاد، أو على الأقل إسقاط الحكومة وإقامة واحدة أخرى بديلة عنها في كييف.
لكن كل ذلك لم يحصل مع دخول العملية العسكرية يومها الخامس والخمسين، والتوقعات المختلفة بموعد انتهائها المحتمل، مع استمرار جولات المفاوضات بين الطرفين، وسط عدم القدرة على التوصل إلى حل أو تفاهم بينهما، وتعكير الإجراءات العسكرية المتبادلة لإمكانية التوصل لمثل هذا الاتفاق.
ولكن عدم انتهاء الحرب في أيام لا يعني ضرورة استمرارها طويلاً أيضاً، رغم بقاء الأمر احتمالاً وارداً بالفعل، قد يفيد طرفاً دون الآخر، بحسب ما ستجري عليه الأحداث.
فالغرب قد يستفيد من إغراق روسيا أكثر وأكثر في هذه الحرب، واستنزاف الدولة واقتصادها فيها، وربما استنزاف شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً، مع إفقاد الجيش الروسي هيبته لكونه لم يستطع حسم الحرب.
أما روسيا فقد تضطر إلى إطالة أمد الحرب، ما دامت لم تحقق شيئاً قد يحتسب انتصاراً لها في أوكرانيا، فالحكومة الروسية، وعلى رأسها بوتين، تحتاج هذا النصر مادياً ورمزياً، ولا يمكن لروسيا إنهاء الحرب دون القدرة على إعلان نصر ما فيها.
فكيف قد يصبح شكل الحرب في حال طالت مدته؟ ومن قد يستطيع قلب ذلك لمصلحته ضد الآخر بين روسيا والغرب؟
"فيتنام" الروسية في أوكرانيا
مُنيت الولايات المتحدة الأمريكية بهزيمة تاريخية في فيتنام، قرابة 60 ألف جندي، ومئات ملايين الدولارات، بالإضافة إلى الهزيمة المعنوية الضخمة، بهزيمة أقوى جيش في العالم بعد اضطراره لخوض الحرب لسنوات، مقابل مقاتلي فيتنام الذين لم يهزموا أعظم دولة في عصرهم فقط، بل هزموا إحدى أقوى دول العالم قبلها بسنوات أيضاً.
بسبب هذه الهزيمة التاريخية المذلة، ومشاهد إخلاء القوات الأمريكية والمتحالفين والمتعاونين معها من البلاد، أرادت الولايات المتحدة الأمريكية في إطار صراعها مع الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة حينها، أن تخلق للاتحاد السوفييتي "فيتنامه" الخاصة به.
عمل مستشار الأمن القومي الأمريكي زبغنيو بريجينسكي على توريط الاتحاد السوفييتي في حرب مشابهة، تدفعه لتدخل عسكري طويل الأمد، ينتج عنه قتلى عسكريون كثر، واستنزاف لموارد الاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى إفقاد الجيش الأحمر السوفييتي هيبتَه في العالم.
وتم للولايات المتحدة الأمريكية ما أرادت، ودخل السوفييت في حرب استمرت لعقد كامل من الزمان، دون القدرة على هزيمة مجاهدي أفغانستان، واضطر الجيش الأحمر للانسحاب أخيراً.
لكن الاتحاد السوفييتي انهار بالكامل لاحقاً، ولم يعد هناك من ينافس النفوذ الأمريكي على الخارطة العالمية، واستفردت الولايات المتحدة بنفوذها في العالم كله، دون أن يكون هناك خطر حقيقي على هذا النفوذ، قبل أن تتعاظم قدرة الصين مؤخراً، وتقرر روسيا خرق الوضع القائم، ودخول قواتها لأوكرانيا.
خلال العقود الثلاثة الماضية من الهيمنة الأمريكية دخل جيشها حربين كبيرتين في العراق وأفغانستان، متكبدة خسائر كبرى، ورغم قدرتها على إزاحة النظام في العراق بشكل نهائي، دون تحقيق كامل أهدافها، أو إثبات وجود أسلحة دمار شامل لدى نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
في المقابل اضطرت الولايات المتحدة للانسحاب بشكل مذل مرة أخرى من أفغانستان، بعد أن خاضت أطول حروبها على الإطلاق، واضطرت لترك طالبان للعودة للحكم مرة أخرى، بعد أن كان هدف الغزو إزالة حكمها سابقاً.
لعب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دوراً مهماً في إظهار تآكل الهيمنة الأمريكية، رغم استمرارها بشكل قوي حول العالم، لكن وفي حال الحديث عن الشأن الروسي فإن الولايات المتحدة هي من استطاعت خلال العقود الماضية توسيع مظلة الناتو، ورفع حالة تطويق روسيا بالبنية العسكرية المعادية لها.
وهذا ما تقول روسيا إنه سبب اضطرارها للتدخل في أوكرانيا، خصوصاً بعد ظهور الرغبة الأوكرانية في الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي، كما فعلت دول أخرى حولها، بالإضافة إلى أسباب أخرى.
وقد يكون الغرب قد نصب لبوتين فخاً في أوكرانيا، يهدف إلى إدخالها ساحة معركة طويلة الأمد، تستنزف الدولة واقتصادها وجيشها مرة أخرى، علماً أن روسيا ليست بضخامة الاتحاد السوفييتي.
كما أن التشابك الاقتصادي الروسي مع الغرب في العقود الماضية يعني أن عقوبات الغرب سيكون لها أثر بالغ، وستجعل من مهمة استنزاف روسيا وإرهاقها مهمة أسهل بكثير.
فهل يدفع الغرب أوكرانيا لمقاتلة روسيا نيابة عنهم، واستنزاف روسيا على حساب دماء الأوكرانيين والقوات الأوكرانية؟ فضلاً عن الخسائر المادية الضخمة لأوكرانيا، فالحرب تضر الاقتصاد أكثر من العقوبات.
كيف قد يستفيد بوتين من إطالة الحرب؟
في المقابل قد تستطيع روسيا، وبوتين تحديداً، الاستفادة من إطالة أمد الحرب، خصوصاً أن أوكرانيا في الأغلب لن تستطيع استرداد أراضيها التي أخذتها روسيا حتى الآن ومنذ عام 2014، لكن في المقابل قد لا تستطيع روسيا تحقيق أهدافها كاملة لإعلان تحقيق النصر، أو على الأقل تحقيق ما يمكن الترويج له على أنه نصر روسي.
وقد لا يرغب الطرفان في إنهاء الحرب دون تحقيق مثل هذه الأمور، ولكن بمقارنة روسيا بأوكرانيا يمكننا القول إن طول الزمن في صالح الروس من نواحٍ عديدة.
قد يكون الزمن من صالح الغرب بالفعل، ولكن بشرط تحقيق استنزاف روسيا وإضعافها، وربما إضعاف شعبية بوتين أيضاً، ولكن ماذا لو كانت روسيا قادرة على استدامة عمليتها العسكرية لمدة طويلة، وتوفير كل الإمكانات اللازمة لها؟
في هذه الحالة ستكون روسيا أكثر قدرة من أوكرانيا على الصمود، وستتمكن من تحقيق أهدافها رغم التكلفة العالية والمدة الطويلة، وحتى الغرب لن يسلم من استمرار الحرب لمدة طويلة.
فطول أمد الحرب يعني لاجئين أكثر، ولمدد أطول، وتضخماً أكبر لسنوات عديدة، ومختلف أنواع الضغوط الاقتصادية والسياسية، والتي قد تتحول لاحقاً إلى ضغوط داخلية ضد اللاجئين، بعد أن يصبحوا عبئاً على هذه الدول، أو بعد أن تتمكن قوى سياسية داخلية من إقناع قواعد شعبية بذلك على الأقل.
كل هذا يعني أن "الوحدة الغربية" ضد روسيا في الحرب قد تتآكل مع استمرار العملية العسكرية، وقد يعني ذلك انتصاراً دبلوماسياً لروسيا أبعد من مجريات العملية العسكرية على الأرض، فشق الوحدة الغربية ضدها بشكل عام، وفي المستقبل، وربما القدرة بعدها على استمالة دول غربية للتقارب معها رغم كل ما فعلته وتفعله في أوكرانيا.
قد يعني ذلك أن روسيا قد تتكلف كثيراً على مستوى عسكري، ولكنها قد تكسب مع استمرار الحرب لمدة طويلة على مستويات أخرى، قد تعوضها عن الكلفة العسكرية الكبيرة.
كما أن الحكومة الروسية تصور الحرب في أوكرانيا على أنها حرب وجودية ضد روسيا، ولم يكن هناك بد من دخولها، وسط ارتفاع مؤشرات التأييد الشعبي لبوتين في روسيا.
ويستطيع بوتين البناء على هذا التأييد الشعبي لإطالة أمد الحرب، خصوصاً أن الضرر على المواطنين الروس لا يقاس الضرر اللاحق بالأوكرانيين، وهو ما يعني ارتفاع احتمالية قدرة بوتين على تحقيق أهدافه نهاية، وانهيار قدرة الأوكرانيين على المقاومة ربما.
كما أن روسيا تصور الحرب على أنها حرب ضد الغرب عموماً، وهيمنته وثقافته وقيمه، وحرب مثل هذه حتى لو دارت على الأرض الأوكرانية قد تحتاج وقتاً طويلاً، وقد تبني معها حساً قومياً عالياً لدى الروس، يمكن بوتين من تحقيق أهداف أبعد من الحرب نفسها، مع القدرة على تحقيق الأهداف العسكرية على مدة أطول من مجرد أيام أو أسابيع.
ولكن كل ذلك قد يكون مجرد تحليلات، فالروس لا يعلنون عن أهداف تفصيلية في أوكرانيا ليتم قياس تحقيقها من عدمه، بل كل أهداف روسيا عامة، تتكلم عن تقليص البنية العسكرية لأوكرانيا، والقضاء على النازيين، وحماية الأقليات الروسية، والهدف الوحيد التفصيلي المعلن حتى الآن هو "تحرير" دونباس.
لذلك قد يسعى بوتين فعلياً للانتهاء من أهداف لا نعلمها لكونها غير معلنة، ثم إشهار النصر بذكرى يوم النصر الروسي على النازية لرمزيته، في التاسع من مايو/أيار القادم.