"الموقف الذي عرى فيه الغرب نفسه تماماً".. هكذا يمكن أن يوصف إعلان بريطانيا عن خطة ترحيل اللاجئين من أراضيها قسراً إلى رواندا في وقت بدأت فيه لندن وغيرها من العواصم الغربية فتح ذراعيها لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين.
يشكل هذا القرار وغيره من القرارات المجحفة بحق اللاجئين تمادياً في عملية تراجع واسع النطاق من قبل الحكومات الغربية عن الوعود الدولية التي ألزمت بها نفسها تجاه اللاجئين، وهي الوعود التي وضعت في العديد من الاتفاقيات الدولية التي صاغتها بالأساس دول غربية.
فعلى مدى أكثر من 70 عاماً، كرس العالم وعداً، في القوانين المحلية والاتفاقيات العالمية، قُطع وطُرح على أنه ذو أهمية كبيرة، مفاده أن أي شخص لا يستطيع العيش بأمان في بلده الأم، يمكنه أن يطلب اللجوء في بلد آخر.
فإذا استطاع هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص الراغبون في اللجوء إثبات أنهم يواجهون خطراً من نوع ما، وإذا استوفوا الشروط التي يطلبها البلد المضيف، فإن هذا البلد ملتزم باستضافتهم.
لم يراعَ الالتزام بهذا النموذج بصورةٍ مثاليةٍ، حتى في بداياته بعد الحرب العالمية الثانية، عندما نُظر إليه على أنه أخلاقي ويجسد ضرورةً عمليةً، لإعادة بناء المجتمعات الممزقة من أجل الصالح العام.
المفارقة أن القوى الغربية نفسها التي دافعت عن هذه الاتفاقية، هي التي كانت تُجرِّفها بانتظامٍ خلال السنوات الأخيرة، فتنتقص من التزامها، وبالتالي من التزام العالم، تجاه المسؤولية التي وصفوها من قبل بأنها ضرورية من أجل الاستقرار العالمي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
قرار بريطانيا ترحيل اللاجئين لرواندا يمثل مستوى جديداً من الوحشية الغربية
يقول الخبراء: إن ذلك الاعتداء وصل إلى مستوى جديد من التطرف في الأسبوع الماضي، عندما أعلنت الحكومة البريطانية عن خطة جديدة للتعامل مع آلاف المواطنين الأجانب في البلاد الذين تقدموا للحصول على حق اللجوء.
وبدلاً من الاستماع إلى طلباتهم، سوف ترسلهم إلى رواندا، وهي دولة بعيدة شبه ديكتاتورية لم تطأ أقدام غالبيتهم أرضها من قبل.
وانتقدت أحزاب المعارضة البريطانية، وبعض الأعضاء في حزب المحافظين الحاكم، الخطة، بينما وصفتها أكثر من 160 منظمة خيرية وجماعة من جماعات الناشطين في هذا المجال بأنها "وحشية على نحو مخز"، وحثت رئيس الوزراء ووزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتل على إلغائها.
زعيم حزب العمال سير كير ستارمر وصف المشروع بأنه غير قابل للتنفيذ، وقال: إنه يهدف إلى صرف الأنظار عن فضيحة الغرامات التي فرضت على أعضاء في حزب المحافظين؛ بسبب مخالفتهم قوانين الإغلاق في بداية جائحة كورونا.
وكان سجل رواندا في مجال حقوق الإنسان من بين مخاوف منتقدي الخطة؛ حيث أثيرت شكوك حول سجل حقوق الإنسان للحكومة الرواندية ورئيسها بول كاغامي، وسخر البعض من التناقضات في السياسة البريطانية؛ إذ كانت الحكومة البريطانية عبرت عن قلقها العام الماضي في الأمم المتحدة بسبب استمرار القيود المفروضة على حقوق الإنسان والحقوق السياسية وحرية الصحافة في رواندا، كما أثارت لندن مزاعم حول وقوع عمليات قتل خارج نطاق القضاء، وعمليات اختفاء وتعذيب في تلك الدولة.
وأدانت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين المشروع ووصفته بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي".
ولكن بريطانيا ليست الأولى في فكرة احتجاز اللاجئين في بلدان ثالثة
لم تخترع بريطانيا ممارسة تقييد اللاجئين وطالبي اللجوء داخل منشآت بعيدة عنها؛ فالحكومات الأوروبية تدفع الأموال إلى طغاةٍ وأمراء حربٍ أجانبٍ في بلادٍ على شاكلة السودان وليبيا، من أجل احتجاز المهاجرين نيابة عنها لسنوات. وتَعْهَد أستراليا بهذا العمل إلى سلسلة من الدول الجزرية، التي توصف أحياناً بـ"أرخبيل غولاج"، في إشارة إلى اسم معتقلات الاتحاد السوفيتي في سيبيريا المشهورة بوحشيتها. وكانت الولايات المتحدة رائدةً في هذه الممارسة على نحو فعال، عندما وجهت أشرعة القوارب الممتلئة بالهايتيين إلى خليج جوانتانامو في كوبا.
ويبدو أن صعود السياسات اليمينية الشعبوية، وردة الفعل العكسية في أوروبا ضد موجة الهجرة المشهودة في 2015، ثم جائحة فيروس كورونا، سرّعت من وتيرة هذه الممارسة والممارسات الأخرى التي على شاكلتها؛ سواء الجدران والأسوار، أم الدوريات المسلحة، أم سياسات "الردع" التي تتعمد جعل الرحلة أشد خطراً.
ليست النتيجةُ موتَ نظام اللجوء العالمي تماماً؛ إذ إن الحكومات الأوروبية تستقبل ملايين اللاجئين المشردين بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا على سبيل المثال.
وقاحة أن تقدم السكن للأوكرانيين وتطرد اللاجئين الآخرين
تسلط سياسة بريطانيا بالأحرى الضوء على أن نظام اللجوء هذا، الذي حصل على الدعم بوصفه واجباً عالمياً وملزماً بموجب القانون، صار يُعامَل فعلياً على أنه اختياري.
قالت ستيفاني شوارتز، الباحثة في سياسات الهجرة لدى جامعة بنسلفانيا: "من الوقاحة تماماً أن تأتي، وفي غضون شهر، وتقدم السكن إلى الأوكرانيين، ثم تعلن أنك سوف ترسل جميع المهاجرين الآخرين بعيداً على بعد 4000 ميل".
وأضافت: "إن وقاحة ازدواجية المعايير تبدو إعلاناً ضمنياً بأن الحكومات تستقبل اللاجئين فقط عندما تريد، ولا تفعل عندما لا تريد".
الأرجح أن آثار هذا التحول، التي حلَّت بالفعل بأوجهٍ عديدة، سوف تتسارع خلال الأشهر القادمة في خضم ما يُتوقع أن يكون ارتفاعاً كبيراً مشهوداً خلال فصل الصيف في مستويات وصول اللاجئين، وجنباً إلى جنب مع ردة الفعل العكسية التي بثت الروح في الإجراءات الصارمة، التي على شاكلة تحركات بريطانيا.
الغرب أعاد ملايين اللاجئين للاتحاد السوفييت الذي قتل خُمسهم
طالما كان التزام العالم تجاه اللاجئين وطالبي اللجوء مشروطاً ومعتمداً على المصالح الذاتية أكثر من كونه التزاماً مجرداً.
في السنوات اللاحقة للحرب العالمية الثانية، حتى عندما تعهد قادة الغرب بإعادة توطين اللاجئين الأوروبيين في أي مكان سيكونون آمنين فيه؛ أعاد هؤلاء قسرياً 2.3 ملايين مواطن سوفيتي إلى الاتحاد السوفيتي، وعاد كثير من هؤلاء ضد رغبتهم. ومن ثم فإن واحداً من كل خمسة أشخاص من هؤلاء أُعدم أو أُرسل إلى معتقل غولاج، بحسب تقديرات المؤرخ توني جود.
ولكن مع اشتداد الحرب الباردة، أكدت الحكومات الغربية بصورة متزايدة على احترامها لحقوق اللاجئين، وضغطت على حلفائها كي يحذو حذوها، لتكون طريقةً تجعل الكتلة الغربية تبدو متفوقةً على الحكومات الشيوعية التي منعت مواطنيها أحياناً من الهروب. وظل الالتزام الغربي متقطعاً، فيمنحُ امتيازاتٍ إلى اللاجئين القادمين من البلاد الشيوعية، أو الآخرين الذين يمكنهم أن يقدموا إلى حكومات الغرب مكاسب سياسية.
بيد أن التحول الحقيقي جاء مع نهاية الحرب الباردة في عام 1991، عندما لم يعد لدى الدول الغربية الحافز السياسي. ارتفع عدد اللاجئين عالمياً في بدايات تسعينيات القرن الماضي إلى 18 مليون لاجئ، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، أي إنه بلغ تسعة أضعاف العدد عندما أعلن العالم رسمياً تكريس قواعد اللجوء في الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951.
أمريكا أجبرت لاجئي هايتي على الذهاب لكوبا
بدأت سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بتحويل أشرعة اللاجئين الهايتيين في عام 1991. وكانت عبارة عن ثغرة من نوع ما، فإذا لم يتمكن اللاجئون من الوصول إلى الشواطئ الأمريكية، فإن الولايات المتحدة غير ملزمة تقنياً بالاستماع إلى طلباتهم. صحيحٌ أن هذه الحيلة لم تنطلِ على أحد، لكن واشنطن ظلت هكذا ملتزمة بالقانون الأمريكي، الذي صيغ كي يتماشى مع الالتزامات الدولية، مثلما هو الحال في عديد من البلاد.
وبعد سنوات حدثت زيادة أخرى في أعداد اللاجئين حول العالم، لتصل إلى 20 مليوناً في 2017، وهو رقم شهد ارتفاعاً طفيفاً عن الزيادة السابقة في التسعينيات، رغم أنه يبقى أقل من ذروة اللجوء التي وقعت في 1992، بالتناسب مع التعداد السكاني العالمي لكلتا المدتين. من خلال مقارنة أزمة اللجوء الحالية بالأزمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، التي أجبرت عشرات الملايين من الأشخاص على ترك منازلهم حول أوروبا وآسيا، ودمرت مجتمعات بأكملها، سنجد أنها أصغر تقريباً في كل شيء، باستثناء إجبار القوى العالمية على التحرك.
وأسست مراكز احتجاز في أمريكا الوسطى
ولكن بقدوم العقد الثاني من القرن الجديد، عندما ارتفعت أعداد اللاجئين الذين يأتي غالبيتهم من البلاد الأفقر، كانت ردة الفعل مختلفة؛ طبقت الولايات المتحدة سياسات على الأشخاص القادمين من أمريكا الوسطى تشبه ما طبقته على الهايتيين، وتفاوضت على اتفاقيات مع حكومات، وخاصة المكسيك، من أجل منع اللاجئين والمهاجرين الآخرين من الوصول للحدود. واتبعت أوروبا وأستراليا استراتيجيات مماثلة.
وكانت النتيجة حلقات مركزية من مراكز الاحتجاز بعيداً عن حدود أغنى بلاد العالم، وبعضها سيئة السمعة بسبب الوحشية. تقع غالبية هذه المراكز على طول الطرق التي يسلكها اللاجئون، أو بالقرب من حدود البلاد التي يريدون الوصول إليها؛ ما يمنح هذه الحكومات طريقة للتغطية على التزامها.
والآن بريطانيا تنقل هذه المأساة إلى مستوى جديد
لكن مقترح بريطانيا الجديد بإرسال هؤلاء الأشخاص إلى قارة أخرى وفي أرض بعيدة، لا يكتفي بهذه المساعي، بل يأخذها خطوة أبعد، وينذر بتحول خطة بريطانيا إلى نموذج تقتدي به بقية الدول الغربية.
فالمعايير الأوروبية المزدوجة على ما يبدو، التي تتجسد في استقبال الحكومات الأوروبية للأوكرانيين، ومواصلة إبعاد المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط، كشفت بصورة خاصة القواعد غير المكتوبة لنظام اللجوء الجديد.
إذ تزيد وتيرة تطبيق الحكومات المعايير الخاصة بحقوق اللجوء، التي تبدو عالمية في ظاهرها، تطبيقاً اختيارياً، وفي كثير من الأحيان تُطبق على أساس أي الجماعات الديموغرافية يُتوقع أن تلقى موافقةً سياسيةً داخليةً.
ولكن اللافت أنه حتى مع إعلان بريطانيا ترحيل طالبي اللجوء الموجودين بالفعل في البلاد، فإنها على سبيل المثال قدمت اعتذاراً لعدم استضافة مزيد من الأوكرانيين.
ورغم كل الاشمئزاز من تصريح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما كان في منصبه، حين أعلن أن الولايات المتحدة يجب عليها أن ترحب بالقادمين من بلاد مثل النرويج وتمنع قدوم المجموعات السكانية التي تعد غير مرغوبة؛ فإن هذه المشاعر تعكس ممارسة شائعة على نحو متزايد.
منحت إدارة بايدن في الأسبوع الماضي وضع الحماية لـ40 ألف مواطن كاميروني في الولايات المتحدة؛ ما يعني أنهم ليسوا في حاجة إلى العودة إلى الكاميرون وسط الحرب الأهلية في البلاد. وفي الشهر الماضي، وسعت الولايات المتحدة نطاق وضع الحماية ليشمل 30 ألف أوكراني.
ولكن في الوقت ذاته، ظلت الإدارة منقسمة حول ما إذا كان عليها الإبقاء على السياسة المتبعة خلال حكم ترامب، التي تسمح للبلاد أن ترفض صراحة اللاجئين الذين يصلون على الحدود، لأسباب تتعلق بالصحة العامة للسكان الأمريكيين. صحيح أن هذه القاعدة يُنتظر إنهاؤها في 23 مايو/أيار، لكن كثيرين في إدارة بايدن يكافحون من أجل الإبقاء عليها.
لقد علمت الحكومات كذلك أنها ما دامت كل منها لا تُخضع الأخرى للمساءلة بسبب عدم الالتزام بالأعراف الدولية، فلن يوقفهم أحد سوى مواطني بلادهم، الذين يطالبون في كثير من الأحيان بتطبيق هذه السياسات.
شهدت الأحزاب اليمينية الشعبوية زيادة الدعم الموجه إليها خلال العقد الماضي، ويُعزى هذا جزئياً إلى تأييدها لردة الفعل المناهضة للهجرة وتصوير قواعد اللجوء بأنها مؤامرة لإضعاف الهويات الوطنية التقليدية.
صحيحٌ أن بعض الأحزاب قاومت هذه الموجة، فقد رحبت ألمانيا بمليون لاجئ في خضم صعود اليمين المتطرف في البلاد، لكن أحزاباً أخرى استنتجت أن تقليص أعداد المهاجرين غير البيض كان ضرورياً لإنقاذ نفسها، وربما لإنقاذ النظام الديمقراطي في بلادها. وكان اللاجئون المحتملون الفارون من الحروب والمجاعات، هم الذين يتحملون الثمن.
عندما وضعت الاتفاقية العالمية للاجئين، لم يكن أحد يعرف أن السياسات المحلية التي تتغير مع كل دورة انتخابية، هي التي تحدد أي العائلات النازحة بسبب الكوارث، ستعثر على حياة جديدة، وأيها سوف تُدان وتُعتقل في معسكراتٍ قذرةٍ، أو تُدفن في مقابر جماعية.
ولكن إذا كانت هذه هي الطريقة التي يسير بها الأمر، فإن ردة فعل الجمهور تجاه مقترح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وتحديه الوقح لتلك الاتفاقية العالمية للاجئين، قد تكون ردة فعل كاشفة.
قال ديفيد نورمنغتون، الذي شغل سابقاً منصب المفوض الأول للخدمة المدنية في وزارة الداخلية البريطانية، في حديثه مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، عن قرار الحكومة البريطانية: "إنه غير إنساني، ويستحق الاستهجان من الناحية الأخلاقية، إنه على الأرجح غير قانوني وقد يكون غير قابل للتطبيق".
غير أن إمكانية تطبيق الخطة فعلياً، في أعين الحكومة البريطانية أو الحكومات الأخرى، تعتمد على مقدار تساهل الشعب البريطاني معها أكثر من أي شيء آخر.