كان فلسطينيو مدينة جنين، مثل غيرهم من الفلسطينيين، يمضون ليالي شهر رمضان عادةً في مشاهدة المسلسلات الدرامية والكوميدية التي تزدحم بها قنوات التلفزيون، أو الخروج عقب الصلاة لشرب القهوة وتدخين الشيشة في المقاهي طوال الليل.
إلا أن جنين وقعت هذا العام في قلب ما تصفه إسرائيل بعملية عسكرية واسعة النطاق تشنُّها في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، وصار السكان يقضون ليلهم في تحسبٍ للغارة العسكرية التالية على المدينة ومخيمها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
تقول إسراء عورتاني، وهي فلسطينية تبلغ من العمر 32 عاماً وتعمل محاسبة بمسرح الحرية في مخيم جنين: "لقد نال منا التعب. وبات تفكير كل واحد منا: متى سيقع الدور عليَّ؟ هل سيكون (المعتقل أو الشهيد) هذه المرة ابني أم فرداً آخر من أفراد الأسرة؟".
وشنَّت القوات الإسرائيلية خلال الأسبوع الماضي حملة اقتحامات واسعة النطاق على بلدات ومدن عديدة في جميع أنحاء الضفة الغربية، بدعوى الرد على موجة الهجمات الفلسطينية الأخيرة داخل إسرائيل والتي أسفرت عن مقتل 14 شخصاً. وفي غضون ذلك، فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عقوبات اقتصادية، واعتقلت عشرات الفلسطينيين.
غانتس يغلق المعابر الحدودية بين جنين وإسرائيل
وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، إغلاق المعابر الحدودية بين جنين وإسرائيل، ما يعني منع عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 من القدوم إلى جنين للتسوق، وحرمان المدينة من ركيزة أساسية لاقتصادها. ولم يعد يُسمح بعبور الحواجز لتجار جنين ورجال الأعمال فيها ممن لديهم تصاريح لدخول إسرائيل، وحظر سلطات الاحتلال نقل جميع البضائع والمنتجات من جنين، وألغت تصاريح صادرة لخمسة آلاف من سكان جنين لزيارة أقاربهم العرب في إسرائيل.
وأُعيد فتح المعابر الحدودية يوم السبت 16 أبريل/نيسان، لكن لم يتضح ما إذا كانت القيود الأخرى سُترفع أم لا.
وتتخوف الأوساط العسكرية الإسرائيلية من عودة مدينة جنين ومخيمها كمعقل للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وجاء توقيف إسرائيل لآخر أسيرين هربا من سجن جلبوع الإسرائيلي في مدينة جنين بشمال الضفة ليعزز هذه المخاوف.
ويعرف مخيم جنين بصلابته في مواجهة الجيش الإسرائيلي، حيث خاض مقاومون معركة ضارية، مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، في أبريل/نيسان من العام 2002، أسفرت عن استشهاد 52 فلسطينياً، وفق تقرير للأمم المتحدة في حينه، وتدمير غالبية مساكن المخيم، ولكن اللافت أن المعركة أدت إلى خسائر كبيرة في أوساط الجيش الإسرائيلي حيث قتل 23 جندياً، منهم 13 جندياً قُتلوا في يوم واحد إثر تعرضهم لكمين؛ مما جعل رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت أرئيل شارون يصف ذلك اليوم بالعصيب.
كما أنه من بين الذين قتلوا في معركة جنين، قائد وحدة الهبوط المظلي الإسرائيلي (الكوماندوز).
أهالي جنين يؤكدون أن حملة إسرائيل ستأتي بنتيجة عكسية
وتزعم إسرائيل أن الغرض من حملتها العسكرية المكثفة هو مكافحة ما تصفه بالإرهاب ومنع المزيد من الهجمات، وأنها تركز على بلدات المهاجمين وقراهم، إلا أن الفلسطينيين يقولون إن ما سمتها إسرائيل عمليةً عسكرية هو بمنزلة العقاب الجماعي في واقع الأمر، وإن حملتها ستأتي بنتائج عكس المراد منها، لأنها لن تؤدي إلا إلى زيادة الكراهية ولن ينجم عنها إلا إراقة المزيد من الدماء.
قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 14 فلسطينياً منذ بداية شهر رمضان في 2 أبريل/نيسان. يأتي من بينهم الشهيد محمد زكارنة، الذي كان يبلغ من العمر 16 عاماً، وقالت والدته إنه قُتل برصاص الاحتلال يوم الأحد 10 أبريل/نيسان خلال اقتحام إسرائيلي لمخيم جنين، مع أنه كان في طريق العودة من عمله إلى المنزل لتناول الإفطار مع أسرته. ولم يعلق جيش الاحتلال الإسرائيلي على الاتهامات بقتل زكارنة.
جنود الاحتلال قتلوا أماً لستة أطفال على المعبر
وقتل الجنود الإسرائيليون غادة سباتين، وهي أرملة تبلغ من العمر 47 عاماً وأم لستة أطفال، بعد أن أطلقوا النار على ساقها، بدعوى اقترابها من حاجز عسكري بالقرب من بيت لحم. وحثَّت السلطات الفلسطينية على إجراء تحقيق في مقتلها، إلا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يعلن إن كان سيفتح تحقيقاً أم لا.
استنكرت السلطات الفلسطينية هذا الأسبوع المداهمات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقتل المدنيين ووصفتها بأنها سياسة "عقاب جماعي"، وحثَّت المجتمع الدولي على التدخل لكبح هذه الاعتداءات. وقالت وزارة الخارجية الفلسطينية في بيان إنها تحمِّل إسرائيل المسؤولية كاملةً عن تداعيات أعمالها.
واحتلت إسرائيل الضفة الغربية منذ عام 1967، وتسيطر على أكثر من 60% من أراضيها، ويقسِّم الاحتلال الإسرائيلي سكان المنطقة إلى مستويين، أحدهما لخمسة ملايين فلسطيني محرومين من الجنسية والآخر للمستوطنين الإسرائيليين، ويقيِّد هذا النظام حركة الفلسطينيين ويحرمهم كثيراً من حقوقهم، وهو ما جعل مجموعات حقوقية عديدة ومنظمات حقوق إنسان عالمية تصف هذا النظام بأنه نظام "فصل عنصري".
وقال مسؤولون محليون وسكان في مدينة جنين إن القوات الإسرائيلية شنَّت مداهمات على مدار الليل والنهار تقريباً طوال الأسبوع الماضي. ومع أن المزعوم أن المدينة تخضع، مثل معظم المراكز الحضرية الفلسطينية في الضفة الغربية، للسلطة الفلسطينية، فإن القوات الإسرائيلية تشن بانتظام مداهمات وحملات اعتقال ليلية في هذه المناطق. واتهم الفلسطينيون سلطات الاحتلال في يناير/كانون الثاني بقتل مسن فلسطيني أمريكي بعد اعتقاله من قرية جلجيليا في وسط الضفة الغربية خلال إحدى المداهمات.
دبلوماسيون غربيون يتوقعون دورة جديدة من الإحباط الفلسطيني
من جانب آخر، قال دبلوماسي غربي في رام الله، إن العملية الإسرائيلية على هذا النحو لن تكبح الموجة الأخيرة من الهجمات، بل سيكون لها تأثير معاكس للمرغوب منها. وأوضح الدبلوماسي، الذي تحدث مشترطاً عدم الكشف عن هويته، أن النهج الإسرائيلي العدواني يخاطر بخلق دورة جديدة من الإحباط واليأس والضحايا.
تقول تهاني مصطفى، محللة شؤون الضفة الغربية في "مجموعة الأزمات الدولية"، إن "هدف إسرائيل دائماً هو تشديد الضغوط على الفلسطينيين، إلا أن ذلك لا ينجح أبداً. فلو كان ناجحاً، لما رأيت دورة العنف نفسها تتكرر كل عام. وما تفعله إسرائيل أنها تعاود استخدام القوة المفرطة مرة بعد مرة".
ما حدث ذكر الفلسطينيين بالانتفاضة
وقال إسرائيليون في أعقاب هجوم الأسبوع الماضي في تل أبيب إن ما حدث ذكَّرهم بالانتفاضة الفلسطينية الثانية بين عامي 2000 إلى عام 2005، وتدابير التصدي الإسرائيلي العنيف لها.
ويرى فلسطينيون أن الحملة الإسرائيلية تستدعي ذكريات الانتفاضة التي تركت ندوباً لا تزال حاضرة في ملامح جنين، ففي مخيم اللاجئين بالمدينة، ترى ثقوب الرصاص على جدران العديد من المباني، وكثير من مباني المخيم أُعيد بناؤها بعدما هدمت إسرائيل مئات المباني في حملتها العسكرية على المخيم في عام 2002.
يقول عبد الله دواسة، صاحب محل مصوغات، إن الفلسطينيين سينجون من هذه الحملة الإسرائيلية مثلما نجوا من القمع الإسرائيلي خلال الانتفاضة، لكن "حين تعاقب سكان مدينة بأكملها، فإن السكان كلهم سينفجرون. ومثلما يريدون الأمن عند ذهابهم إلى أسواقهم، فإننا أيضاً نريد أن نكون آمنين عند ذهابنا إلى أسواقنا".