إلى جانب مدن الضفة الغربية الأخرى، تشتعل مواجهات يومية في مدينة القدس المحتلة بين قوات الاحتلال والشبان الفلسطينيين خلال شهر رمضان المبارك، تعقبها حملة اعتقالات في صفوف الشبان الذين يحاولون عيش أجواء الشهر الكريم المميزة في البلدة القديمة، حيث يرى العديد من الفلسطينيين أن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على أبواب القدس وخصوصاً في باب العامود، هي جزء من معركة الهوية طويلة الأمد بين أصحاب الأرض والمحتلين.
باب العامود.. مشهد فريد في شهر رمضان يعكّر صفوه الاحتلال
في باب العامود أحد أكبر وأبرز أبواب المسجد الأقصى، يصرخ بائع العصير معلناً عن منتجاته، "طازجة وباردة، تعالَ وجربها". تفوح رائحة الذرة المشوية من الأكشاك المجاورة، ويسير بائع البلالين عبر صفوف الناس بينما يلاحقه الأطفال.
ويملأ عددٌ لا يحصى من الباعة الجائلين والتجار الفلسطينيين ساحة المحيطة بباب العامود شرق القدس المحتلة، حيث يتدفق المئات على بوابة المدينة القديمة في رمضان للاستجمام الليلي بعد الإفطار، كما تصف الصحفية الفلسطينية في موقع MEE البريطاني، أسيل جندي المشهد هناك.
وتقول جندي إن باب العامود في رمضان يحمل طبيعة مختلفة بعد صلاة الإفطار وأداء الصلاة في المسجد الأقصى القريب، حيث يخرج الشباب بأعدادٍ كبيرة، ويشربون الشاي وينشدون ويردِّدون المدائح النبوية.
هذا المشهد الفريد، الذي يأتي مرةً واحدةً في السنة خلال الشهر الكريم، تشوبه الحواجز المعدنية التي أقامتها القوات الإسرائيلية على جانبي مدخل البوابة. تمنع الحواجز الناس من الجلوس والتحرك بسهولة في الساحة، بينما تقوم القوات الإسرائيلية المدججة بالسلاح بدوريات في الشوارع.
وللعام الثاني على التوالي، استمرت الاعتداءات الإسرائيلية العنيفة. منذ بداية شهر رمضان، اعتقلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 40 فلسطينياً خارج البوابة، بينهم قاصرون. وأُصيبَ العشرات عندما استخدمت القوات الإسرائيلية الهراوات لضرب المارة والغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية لتفريق الحشود.
ونُشِرَ 3 آلاف عنصر إضافي من أفراد الشرطة حول البلدة القديمة، بما في ذلك حول المسجد الأقصى وباب العامود قبل شهر رمضان مباشرة في علامة أخرى على زيادة الأمن.
يتقول جندي: ذكِّرنا المشهد في بعض الأحيان بالعام الماضي عندما أقامت إسرائيل حواجز تحد من وصول الفلسطينيين إلى الساحة، مما أثار احتجاجاتٍ واسعة النطاق وحملات قمع إسرائيلية عنيفة لاحقة. في النهاية أزالت إسرائيل الحواجز. هذا العام، شهد باب العامود قدراً أقل من العنف حيث يشغل الخوف من التصعيد في أماكن أخرى أذهان الجميع.
معركة على الهوية في ساحة باب العامود
يزور إبراهيم السنجلاوي، الصحفي المقيم في القدس، ساحة باب العامود يومياً بصفته من سكان البلدة القديمة، ويعتبر باب العامود ممراً منتظماً في طريق عودته إلى المنزل.
وأخبر السنجلاوي موقع Middle East Eye البريطاني أن البوابة كانت مكاناً للقاء الأصدقاء والعائلة خلال شهر رمضان منذ أن كان طفلاً. إنها تعج دائماً بالمارة ويتردد عليها الشباب الذين غالباً ما يلعبون بشكل عفوي العديد من الألعاب الرياضية، وأبرزها الباركور.
يؤكِّد السنجلاوي أن الوجود الفلسطيني في المنطقة واحتفالات رمضان دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى إرسال مزيد من التعزيزات الأمنية، مشيراً إلى أن السياسات التعسفية للشرطة قد تؤدي إلى اندلاع الاشتباكات على مدار الشهر. ويرى أن الإسرائيليين يريدون الإضرار بالنشاط الاقتصادي الذي يحدث في الشهر الفضيل، وبالتالي تقليص عدد الصلوات في المسجد الأقصى.
أما الشاب المقدسي إياد الطويل، فيعتبر باب العامود أحد الأماكن الترفيهية القليلة المتبقية له ولصديقه. قال: "شرب قهوتنا أمام باب العامود أصبح من الطقوس اليومية للمقدسيين". وأضاف: "إذا فقد سكان القدس هذا المكان، فسوف يفقدون مساحةً وطنية واجتماعية حيوية في المدينة. ولهذا السبب من المهم جداً الاستمرار في الذهاب إلى هناك".
وأضاف الطويل أنه يشعر بالغربة كلما مر بجوار البوابة الجديدة، لكنه لا يزال يشعر وكأنه في موطنه كلَّما مرَّ بباب العامود.
معركة على سيادة القدس
من جهته، يقول زياد ابحيص، الباحث في القدس، للموقع البريطاني، إن الإسرائيليين يرون في باب العامود ساحة معركة على سيادة القدس، وساحة يمكنهم فيها فرض سيطرتهم على المدينة ومحو هويتها العربية الإسلامية والمسيحية.
ولهذه الغاية، أقامت السلطات الإسرائيلية حواجز معدنية لمنع التجمعات، مع إنشاء مركز شرطة مؤقت في المنطقة وتعزيز الحاميات التي شيدتها في عام 2017 من خلال وضع كشافات جديدة وزيادة عدد أفراد الشرطة.
لكن الإجراءات لم تتوقف عند هذا الحد. قام وزير الخارجية يائير لبيد بزيارة استفزازية للمنطقة وأعلن أن "باب العامود ساحة معركة من أجل السيادة الإسرائيلية".
تصعيد مرتقب في القدس المحتلة تزامناً مع "عيد الفصح اليهودي"
أما بالنسبة للسيناريوهات المتوقعة في القدس في الأيام المقبلة، فهناك عدة نقاط احتكاك محتملة، خاصة أن الأسبوع الثالث من رمضان يتزامن مع عيد الفصح اليهودي.
وقد يؤدي هذا حتى إلى توسيع نطاق المواجهة لتشمل غزة، كما حدث في مايو/أيَّار من العام الماضي. بالإضافة إلى ذلك، يعلق ابحيص قائلاً إن عامي 2022 و2023 سيشهدان تقاطعاً مستمراً في التقويمين العبري والهجري الإسلامي.
يشمل هذا التقاطع تزامن الأسبوع الثالث من رمضان مع جميع أيام عيد الفصح السبعة، بالإضافة إلى تقاطع عيد المساخر مع ليلة النصف من شعبان، وتقاطع خراب الهيكل مع عاشوراء، ويوم الغفران مع المولد النبوي. وقد تؤدي هذه التقاطعات إلى عامين مضطربين ومتقلبين.
وتعمل ما يعرف بـ"جماعات الهيكل" -رأس حربة التطرف اليهودي في المدينة- على تهويد المدينة المقدسة ومسجدها على الدوام بدعم رسمي، حيث تتخذ هذه الجماعات المتطرفة من التطهير العرقي الديني للمسجد الأقصى هدفاً لإعادة بناء ما يعرف بـ"هيكل سليمان" المزعوم.
ويعتبر "عيد الفصح العبري" أحد أهم ثلاثة أعياد يهودية، وتهدف جماعات الهيكل خلاله إلى تقديم "قرابين الفصح" ونثر دمها داخل ساحات المسجد الأقصى، وقراءة جماعية لـ"سفر الخروج" هناك.
ويقول ابحيص إن إعادة إحياء ممارسات القرابين اليهودية تعني أن اليمين الإسرائيلي يريد إعادة بناء الهيكل فوق المسجد الأقصى، كوسيلة لتحويل المنطقة إلى موقع يهودي حصري.
برميل بارود على وشك الانفجار
يحذر مراقبون من خطورة ما ينتظر المسجد الأقصى خلال "عيد الفصح اليهودي"، على ضوء تلك الدعوات والتهديدات باقتحامه وتقديم القرابين بداخله، حيث حذر نائب مدير دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس المحتلة الشيخ ناجح بكيرات من أن "حكومة الاحتلال بكافة أذرعها ومستوياتها تريد من خلال تلك التطورات والأحداث، تسخين الوضع واستفزاز المقدسيين والمصلين والوافدين للأقصى".
ويقول الشيخ بكيرات لوكالة الصحافة الفلسطينية "صفا"، إن حكومة الاحتلال تريد تحقيق ثلاثة مسارات، أولاً: ترويض المجتمع المقدسي والمحلي والعالمي على قبول الانتهاكات الصهيونية داخل القدس عاصمة الشعب الفلسطيني، سواء كان من خلال المظاهرات أو اقتحامات الأقصى قبل المتطرفين وغيرها، حتى يصبح الأمر وكأنه مقبولاً.
وأما المسار الثاني، وفقاً لبكيرات، فإن حكومة الاحتلال تريد إرسال رسالة بأنه "لم يعد هناك شيء مقدس لديها، والمسجد الأقصى ليس مقدساً عند المتطرفين اليهود، وكذلك رمضان، لذلك تتعدى على كل المقدسات لترسل رسالة للعالم الإسلامي بانتهاء قضية القداسة العربية والإسلامية على الأقصى".
وفي المسار الثالث، فإن الاحتلال يحاول من خلال إجراءاته، تفريغ المدينة المقدسة من الفلسطينيين، عبر الاعتقالات والإبعاد، ونشر عناصر الشرطة، من أجل تهيئتها للأعياد اليهودية.
ويشير بكيرات خلال حديث لوكالة "صفا" إلى أن هناك صراعاً مستمراً، ومستقبلاً غامضاً ينتظر القدس، نتيجة ممارسات الاحتلال وإجراءاته الممنهجة، في مقابل زيادة التلاحم والمواجهة مع المحتل.
مختتماً حديثه بالقول: "إذا حلم الاحتلال يوماً أنه استطاع أن يفرض الصلاة الصامتة في الأقصى كما يظن، وأن يدخل المقتحمون من باب المغاربة، فلا يحلم بأن يقدم قرابين الفصح بداخله، لأن ذلك سيؤدي إلى تقديم قرابين بشرية، فالأقصى عبارة عن برميل بارود، والمساس بقدسيته وعقيدته يُنذر بحرب دينية لها بداية دون أي نهاية".
من جهتها، حذرت فصائل المقاومة الفلسطينية الإثنين 11 إبريل/نيسان 2022، من أن مخطط "جماعات الهيكل" لذبح القرابين المزعومة في المسجد الأقصى يعد تجاوزاً للخطوط الحمراء، وبمثابة "لعب بالنار"، مضيفة أن خطوة المستوطنين المخطط لها هي استفزاز لمشاعر العرب والمسلمين، وبداية "أيام سوداء" للاحتلال ومستوطنيه، بحسب تعبيرها.