خلال الحرب العالمية الثانية، كانت القدرة الصناعية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها أمراً أساسياً لتحقيق النصر، وحتى اليوم أو في المستقبل، لا تقل الحروب اعتماداً على الصناعة والبنية التحتية. لكن بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، فإن عنصراً أساسياً في البنية التحتية الدفاعية الحيوية معرض للخطر بشكل مقلق من قبل روسيا أو الصين، ألا وهي الكابلات البحرية المستقرة في أعماق البحار والمحيطات.
ما هي الكابلات البحرية؟
هي كابلات اتصالات تقع في قاع البحار، وهي جزء من شبكة عالمية تحمل الاتصالات عن بُعد بين الدول. وكان أول كابل اتصالات بحري صمم لنقل حركة التلغراف في منتصف القرن التاسع عشر، ثم تبعته أجيال من الكابلات لنقل حركة التليفون ثم لنقل حركة المعلومات. وحالياً، كل الكابلات الحديثة تستخدم تقنية الألياف البصرية لتحمل البيانات الرقمية ونقل الاتصالات والإنترنت والمعلومات الخاصة للدول والجيوش.
وبدءاً من عام 2003 ربطت الكابلات البحرية كل العالم ببعضه البعض ما عدا القطب الجنوبي. وتعتبر الكوابل البحرية أحد أهم الإنجازات التي تحققت في مجال نقل وتبادل البيانات والمعطيات الرقمية حول العالم، حيث يتم نقل 99٪ من حركة البيانات التي تعبر المحيطات عن طريق الكابلات البحرية.
وذلك نظراً لسرعة تدفق البيانات فيها، وتمتعها بدرجة عالية من الأمن والسرية والموثوقية، والدقة العالية في نقل الإشارات، وقلة تكاليفها بالمقارنة مع الأقمار الصناعية وغيرها من الوسائل، خاصة أنه يتوفر فيها مسارات متعددة في حالة انقطاع الكابل.
أيضاً، تبلغ القدرة الاستيعابية الإجمالية للكابلات البحرية تيرابت في الثانية، بينما تقدم الأقمار الصناعية عادة 1000 ميغابت في الثانية وتعرض زمن انتقال أعلى. ومع ذلك، فإن نظام الكابلات البحرية النموذجية متعدد تيرابايت وعبر المحيطات، يكلف مئات ملايين الدولارات.
نتيجة لتكلفة هذه الكابلات وفائدتها، فإنها تحظى بتقدير كبير ليس فقط من قبل الشركات التي تبنيها وتشغلها من أجل الربح، ولكن أيضاً من قبل الدول والجيوش والاستخبارات، وتعتبر جزءاً أساسياً في البنية التحتية للدول، وجزءاً حيوياً لاقتصاداتها.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر الكابلات البحرية مهمة بشكل كبير للجيش الأمريكية، حيث يستخدم شبكة كابل بحري لنقل البيانات من مناطق النزاع إلى هيئة القيادة في الولايات المتحدة، وقد يكون لانقطاع شبكة الكابلات أثناء العمليات المكثفة عواقب مباشرة على الجيش على الأرض.
وتتمثل إحدى المزايا الكبيرة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة هو الدور الرئيسي الذي لعبه العلماء والمهندسون والشركات الأمريكية في اختراع وبناء أجزاء كبيرة من الكابلات البحرية؛ حيث تميل خطوط البيانات الرئيسية إلى المرور عبر الحدود الأمريكية والمياه الإقليمية لها، مما يجعل التجسس على الاتصالات سهلاً نسبياً.
وتقول صحيفة The Guardian البريطانية، في تقرير سابق، إنه عندما ظهرت الوثائق التي سربها المحلل السابق لـ"وكالة الأمن القومي" إدوارد سنودن، كان العديد من الدول غاضبة لمعرفة مدى اعتراض وكالات التجسس الأمريكية على البيانات الأجنبية. نتيجة لذلك، قررت بعض البلدان النظر في البنية التحتية للإنترنت نفسها. على سبيل المثال، أطلقت البرازيل مشروعاً لإنشاء كابل اتصالات بحري إلى البرتغال لا يمر عبر الولايات المتحدة بالكامل فحسب، بل يستبعد أيضاً الشركات الأمريكية على وجه التحديد من المشاركة في تنفيذه.
هل يمكن لروسيا والصين اختراق الكابلات البحرية الأمريكية؟
في كتابه الجديد "أسلاك الحرب" الذي يلقي نظرة على معركة التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، يقول الباحث الأمريكي جاكوب هيلبيرغ، المستشار الأول في مركز جامعة ستانفورد للجغرافيا السياسية والتكنولوجيا، إن الكابلات البحرية تشكل العمود الفقري للإنترنت، وهي ضرورية لاقتصاد الولايات المتحدة وأمنها القومي.
ويصف هيلبيرغ كابلات الألياف الضوئية البحرية بأنها "نفط القرن الحادي والعشرين"، فهي تدخل في كل شيء بدءاً من إرسال رسائل البريد الإلكتروني حتى دعم أنظمة الدفاع للجيوش، لكن من المدهش أن هذه البنية التحتية غير محمية بشكل جيد وقد تكون فريسة سهلة جداً لأعداء أمريكا وخصومها التقليديين مثل روسيا والصين.
ويرى هيلبيرغ أنه من السهل إئتلاف الكابلات البحرية من الاعتداءات المتعمدة، على الرغم من أنها قد تكون مصممة للحماية من الزلازل تحت الماء أو هجمات سمك القرش، إذ يتم لف الألياف الضوئية بطبقات متعددة من البلاستيك وأحياناً من الفولاذ، ثم تتم تغطيتها بشبكة معدنية وخراطيم مطاطية سميكة وتوضع في خنادق مصنوعة بواسطة سفن مد الكابلات.
وبحسب هيلبيرغ، فإن الكابلات البحرية للولايات المتحدة الأمريكية مهددة بشكل كبير، وهي حقيقة أثارت قلقاً متزايداً من قِبل بعض المحللين وصناع القرار. قائلاً إن "واشنطن لديها مجرد نظام مراقبة متكامل يمكنه إرسال التنبيهات فقط في حالة وجود تهديد للكابلات البحرية في مكان قريب".
ومع تصاعد تحذيرات الصدام مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن في 21 مارس/آذار الماضي، من أن روسيا "تدرس شن هجمات على البنية التحتية الحيوية الأمريكية. وأن أحد السيناريوهات التي تم طرحها منذ بداية الحرب في أوكرانيا هو أن موسكو ستهاجم الكابلات البحرية لقطع الإنترنت في العالم الغربي".
وحث بايدن في مؤتمر صحفي الشركات الأمريكية على "إغلاق أبوابها الرقمية" بأسرع ما يمكن لحماية نفسها. وقال بايدن إن الخوف هو أن "التكلفة غير المسبوقة التي تكبدتها روسيا بسبب العقوبات الدولية الأخيرة قد تدفع الرئيس الروسي بوتين إلى الانتقام من خلال مهاجمة دول الناتو مباشرة باستخدام أسلحة إلكترونية".
إلى أي مدى يمكن إلحاق الضرر بأمريكا إذا تم ضرب كابلاتها البحرية؟
يوجد حالياً أكثر من 430 كابلاً تحت الماء تعبر ما يقرب من 750.000 ميل (1.2 مليون كيلو متر) من قاع المحيط، حيث يقول جاكوب هيلبرج إن بعضها يتوقف عند ما يقرب من أربعين نقطة هبوط مختلفة، من وجهة نظر عدو قادر وحازم، يوفر هذا النطاق الهائل الكثير من الفرص للهجوم والاختراق.
بنفس القدر من الأهمية، يمكن تنفيذ مثل هذا الهجوم بمستوى معين من الإنكار المعقول. كما أشار كريستيان بويغر، خبير الأمن البحري في جامعة كوبنهاغن، "من السهل جداً إخفاء التخريب الذي حدث لكابل ما تحت الماء".
ويمكن أن تتسبب القوارب أو سفن الصيد في إتلاف الكابلات بمجرد وضع مرساة عليها في المياه الضحلة بالقرب من السواحل. يمكن أن تضرب الغواصات الكابلات البحرية "عن طريق الخطأ"، أو يمكن للغواصين أيضاً العبث بها.
يقول ستيفن كوتكين، الباحث المتخصص في الشأن الروسي في معهد هوفر الأمريكي، إنه لن يكون من الصعب على دولة مثل روسيا، التي لديها قوة بحرية كبيرة وغواصات نووية "قطع تلك الكابلات البحرية"، مضيفاً أن "المحيط مكان كبير، وسيسهل على موسكو فعل ذلك، إذ سيستغرق إصلاح الكابلات وقتاً، ويسبب ضرراً كبيراً للولايات المتحدة وحلفائها".
ويرى كوتكين أن الضرر لذلك الفعل يمكن أن يتحمله بعض أعداء الولايات المتحدة، مضيفاً: "النظام المالي الدولي له قيمة أكبر بكثير بالنسبة لنا مما هو عليه بالنسبة للروس، وبمجرد إصلاح الكابلات، يمكن ببساطة إعادة قصها أو العبث بكابلات أخرى في مناطق مختلفة حول العالم".
في السياق، تقول مجلة National Interest الأمريكية إن التعرض لخطوط الاتصالات والإمداد وقطعها مفاهيم قديمة قدم الحرب نفسها، حيث سيوفر قطع الكابلات أيضاً مزايا واضحة في ساحة حرب المعلومات سريعة التقدم، وفي الواقع، هناك سابقة عمرها قرن من الزمان.
ففي 5 أغسطس/آب 1914، بعد ساعات قليلة من إعلان الحرب ضد الإمبراطورية الألمانية، قطع البريطانيون اتصالات الكابلات البحرية الألمانية. حيث أرسلوا سفينة تسمى Teconia إلى بحر الشمال لقطع كابلات الاتصالات الألمانية الخمسة آنذاك تحت الماء، بما في ذلك اثنان لربط برلين بنيويورك. وبحسب المجلة الأمريكية، فبعد تلك الحادثة، لم يكن بالإمكان إرسال أي أخبار أوروبية إلى الولايات المتحدة باستثناء لندن وباريس.
"دون الحاجة لقطعها".. هكذا يمكن للصين اختراق الكابلات البحرية الأمريكية
لا يحتاج خصوم واشنطن بالضرورة إلى قطع هذه البنية التحتية الحيوية أو العبث بها، كما يشير الباحث هيلبيرغ في كتابه "الأسلاك الحرب"، قائلاً إن "الصين في طريقها للسيطرة على العديد من هذه الكابلات بالفعل".
وتم وضع الكابلات البحرية الأولى في العالم عام 1850 من قِبل شركة بريطانية، قامت كيانها اللاحق شركة Global Marine، بتأسيس مشروع مشترك مع شركة صينية تدعى Huawei Marine في عام 2008. في ذلك الوقت، كانت شركة Huawei Marine الصينية، شركة تابعة لشركة Huawei، شركة الاتصالات الصينية القوية التي تربطها علاقات وثيقة مع الحكومة الصينية.
يقول هيلبيرغ: "على مدى العقد الماضي، قامت شركة Huawei Marine بما يقرب من تسعين مشروعاً لبناء أو تحديث الكابلات البحرية، بعضها متصل بحلفاء أمريكيين رئيسيين". وفي عام 2020، وربما لتفادي الشكوك التي تثيرها من الدول الغربية، باعت هواوي فرعها البحري Huawei Marine، ومع ذلك، تم نقل الشركة ببساطة إلى مجموعة Hengtong الصينية، التي لها أيضاً علاقات مع الجيش الصيني.
وأدت قدرات الصين المتسارعة في هذا المجال إلى قيام مسؤولي المخابرات الغربية بحظر كابل شركة هواوي بين سيدني وجزر سليمان والعمل على محاولات إحباط صفقة بين هواوي و"بابوا غينيا" الجديدة.
وبحسب هيلبرج، ففي السنوات الأخيرة، لاحظ الباحثون حالات من "إعادة توجيه حركة مرور الإنترنت عبر الصين، بما في ذلك حادثة معروفة عام 2016 حيث تم نقل الاتصالات بين الولايات المتحدة وبنك في ميلانو إلى الصين"، محذراً من أن البيانات التي تعبر تلك البرقيات "يمكن اختراقها ومشاركتها مع الحكومة في بكين، ثم استخدامها لتعزيز مصالح الدولة الصينية".
ولذلك، يرى الكاتب الأمريكي أنه ليست هناك حاجة لإتلاف أو تدمير الكابلات البحرية الأمريكية من قبل أعدائها، إذ يمكن التلاعب به بسهولة، مضيفاً أن الافتقار إلى سياسة صناعية أمريكية، وتدهور البنية التحتية التي عفا عليها الزمن، والتأخر في التعرف على نقاط الضعف الأمريكية، كلها عوامل أدت إلى تفاقم المشكلة.
وفي حين تم إيلاء اهتمام للصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والحاملات البحرية، والطائرات بدون طيار، فإن التهديد التالي الذي يواجه الولايات المتحدة قد يأتي من أعماق البحار. ولمواجهة ذلك، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى الجمع بين كل من الاستراتيجية والصناعة، إلى جانب الإرادة السياسية.