يخشى العالم اليوم من تكرر ظاهرة اقتصادية نادرة تُعرف باسم الركود التضخمي، لم يشهدها العالم إلا مرة واحدة سابقاً، واستمرت منذ منتصف الستينات وحتى بداية الثمانينات، حتى إن كثيراً من سكان الدول الغربية من أمريكا إلى الاتحاد الأوروبي لم تشهد حالة تضخم كبير واحد في حياتها.
فكل من وُلد بعد بداية الثمانينيات في الولايات المتحدة الأمريكية لم يشهد في حياته شيئاً شبيهاً بـ"التضخم العظيم"، والذي انتهى عام 1982، لم يشهد في حياته معدل تضخم أعلى من 6%، بل إنه لم يكن يتجاوز 3% في العادة.
ومثل هذه المعدلات لا تعرفها دول العالم الثالث مثلاً، فيمكن لنا أن نقارنها بمعدلات التضخم التي شهدتها كل من مصر وتركيا في فترات مشابهة، فقد حقق كل من البلدين معدلات تضخم لم تشهدها الولايات المتحدة في حياتها، وفي الفترة التي شهدت انحسار "التضخم العظيم" في العالم.
ولكن الركود التضخمي مختلف فعلياً عن التضخم العادي، فرغم أن التضخم الذي يعني ارتفاع معدلات الأسعار في عام ما عن معدلاتها في العام السابق، إلا أن التضخم يحصل في سياق اقتصادي أفضل بكثير من الركود التضخمي، ولنفهم الأمر علينا أن نفهم دورة الاقتصاد.
موجات متكررة من النشاط والركود
يمر الاقتصاد بدورة كاملة من النشاط المتبوع بالهبوط، حتى أصبحت هذه الدورة أمراً طبيعياً جداً في الاقتصاد، ومتوسط وقت اكتمال الدورة الكاملة هو 5.5 سنة.
تتشكل "دورة الأعمال" هذه من فترة "توسع Expansion" اقتصادية، ترتفع فيها معدلات النمو، وتنخفض البطالة، كما تترافق مع ارتفاع في معدلات الأسعار، تصل نهايتها عند "قمة Peak"، لتبدأ بعدها مرحلة من "الركود Recession"، يتباطأ فيها النمو، وترتفع فيها معدلات البطالة، كما تنخفض معدلات الأسعار، وتصل نهايتها عند "قاع Trough"، تتبعها حالة من التعافي والتوسع من جديد، وهكذا.
لكن هذا الوصف ينطبق على الدورة الاعتيادية، فالتوسع الحاصل لا يتحول إلى نشاط زائد عن الحد، بحيث ترتفع معه معدلات الأسعار إلى معدلات عالية جداً وغير مقبولة، بل تبقى ضمن معدلات مرتفعة نسبياً فقط.
وكذلك في حالة الركود تتباطأ معدلات النمو بالفعل، لكن ذلك لا يعني أنها تصل إلى انكماش أو نمو سالب مستمر، كما أن معدلات البطالة لا تصل إلى مستويات منفلتة ولا يمكن السيطرة عليها.
تستطيع الحكومة التعامل مع مثل هذه التقلبات عن طريق استخدام أدوات سياستها المالية والنقدية، وفي النهاية يكون التوجه العام للاقتصاد إيجابياً وفي نمو مستمر، ويمكن تمثيله بخط صاعد لأعلى، وإن تخلل هذا الخط الصاعد هبوط مؤقت، يُرى أثره على المدى القصير.
لكن هذه الدورة بتقلباتها الاعتيادية قد تقطعها حالة من أزمة حادة جداً، حيث إن حالة التضخم أو الركود المصاحبة للتوسع أو الهبوط الاقتصادي تكون حادة جداً، حيث إن الاقتصاد يسجل معدلات تضخم مرتفعة جداً، أو انكماشاً في الاقتصاد، لا تباطؤاً في معدلات النمو فقط.
الركود التضخمي
في الشرح السابق للدورة الاقتصادية نجد أن الاقتصاد يشهد في الحالة الطبيعية ركوداً فقط، أو تضخماً فقط، لكنه لا يشهد الأمرين معاً. يرجع ذلك إلى أن التضخم يعبر عن حالة نشاط الاقتصاد الزائد، والذي يؤدي إلى ارتفاع الطلب إلى مستويات أعلى مما يستطيع الاقتصاد توفيره عن طريق عرض المنتجات.
فمن المفهوم أن ترتفع معدلات أسعار المنتجات بشكل عام في مثل هذه الحالة، لأن سعر المنتجات يرتفع حال ارتفاع الطلب عليها، وهذا الطلب ناتج من ارتفاع القدرة الشرائية للمواطنين، لأن عجلة النشاط الاقتصادي تسير باتجاه رفع هذه القدرة الشرائية.
يحصل ذلك لأن النشاط الاقتصادي يعني ارتفاع مبيعات الشركات، وهو يعني أن هذه الشركات ستوظّف عدداً أكبر من العمال، وقد ترفع رواتبهم أيضاً، وهو يعني زيادة قدرة الناس على شراء منتجات هذه الشركات، ويؤدي ذلك إلى ارتفاع المبيعات مرة أخرى، وهكذا دواليك.
لكن الارتفاعات المتتابعة في الطلب تعني ارتفاعات متوالية في التضخم ومعدلات الأسعار، وهذه الارتفاعات تحصل بشكل أسرع من ارتفاع التوظيف أو ارتفاع الرواتب، لذلك يصل الاقتصاد عند مرحلة معينة، تتسم بالتوظيف الكامل للموارد والعاملين في الاقتصاد، دون ارتفاع للرواتب.
ويعني ذلك بدء انخفاض القدرة الشرائية، وبدء انخفاض الطلب معها، لأنك لن تعود قادراً على شراء نفس كمية المنتجات كما في السابق في فترة التوسع الاقتصادي، وتبدأ دورة معاكسة، ينخفض فيها الطلب نتيجة لانخفاض القدرة الشرائية، فتنخفض مبيعات الشركات، فتقل الرواتب وترتفع البطالة نتيجة لذلك، ويؤدي هذا إلى انخفاض أكبر في القدرة الشرائية، وهكذا طوال فترة الركود والتباطؤ الاقتصادي.
نرى من ذلك أن انخفاض معدلات النمو وارتفاع البطالة، لا يمكن في الحالة الطبيعية أن تترافق مع ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض الطلب في حالة الركود يعني أن معدلات التضخم ستنخفض، لكن كما قلنا قد يحدث في الاقتصاد حالة استثنائية تنفلت فيها الأمور، وتخرج عن الحالة الاعتيادية للاقتصاد، فحتى الركود في الدورة الطبيعية مفيد في منع وصول التضخم إلى نسب عالية جداً، ولا يمكن السيطرة عليها.
الركود التضخمي أحد حالات انفلات الأمور في الاقتصاد، وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على مساره، تبدأ فيه أدوات السياسة الاقتصادية في فقدان فاعليتها.
يجتمع في الركود التضخمي المتناقضان؛ الركود والتضخم معاً، وبعكس التحليل المختصر الذي قدمناه للدورة الاقتصادية، والذي يعتمد أساساً على الطلب، وتحولاتها كمحرّك أساسي للدورة، يحصل الركود التضخمي بسبب اختلالات على مستوى العرض والإنتاج، لا على مستوى الطلب.
يمكن أن نعرف "الركود التضخمي Stagflation" بأنه فترة من النمو الاقتصادي البطيء، المترافق مع معدلات مرتفعة من البطالة، معها ارتفاع في معدلات الأسعار أو التضخم.
تاريخ الركود التضخمي
قبل سبعينات القرن الماضي كانت القناعة الاقتصادية الراسخة أن هناك علاقة عكسية بين البطالة والتضخم، حيث إن ارتفاع معدلات البطالة يعني بالضرورة أن معدلات التضخم لن تكون مرتفعة.
تُمثل هذه العلاقة بما يُعرف باسم "منحنى فيليبس Phillips Curve"، والذي يعتمد على استقراء المعطيات التاريخية، والتي أُثبت من خلالها وجود هذه العلاقة العكسية بين الأمرين، لكن هذا البحث الإحصائي تحول إلى قناعة اقتصادية.
جاءت فترة السبعينات لتثبت خطأ هذه القناعة، وتثبت أن الأمرين يمكن حصولهما معاً، بسبب اختلالات ما على مستوى العرض، لا على مستوى الطلب، ويحصل ذلك عندما ترتفع أسعار مدخلات الإنتاج، الذي يؤدي لارتفاع التكاليف.
يعني ذلك أن المُنتجين سيضطرون لرفع أسعار بضائعهم، حتى لو كان ذلك يعني انخفاض الطلب عليها، لأنه ليس من الممكن لهؤلاء المنتجين بيع سلعهم بأقل من سعر تكلفتها، وإذا ارتفعت أسعار مدخلات الإنتاج ارتفعت معها معدلات التضخم.
ولأن الطلب ينخفض نتيجة لتدهور القيمة الشرائية لدى المستهلكين فذلك يعني أن مبيعات الشركات المنتجة ستنخفض، وانخفاضها يؤدي إلى تسريع العمالة، وتقليل الرواتب وتخفيض الإنفاق بشكل عام، وهو ما يعني أن النمو سيتباطأ، والبطالة سترتفع.
هذا بالضبط ما حصل في سبعينات القرن الماضي، وأدى إلى تغيير كبير في النظرية الاقتصادية، لأن النظريات السائدة حينها فشلت في تفسير الظاهرة، وبالتالي فشلت في إنتاج سياسات اقتصادية لمعالجتها.
ترجع الأزمة إلى ارتفاع أسعار النفط غير المسبوق حينها، والذي يعني ارتفاع سعر إنتاج كل شيء تقريباً، لكن يمكن لأي عامل مؤثر على تكاليف الإنتاج إحداث الأزمة إذا وصل إلى حد معين.
لم تقتصر آثار الركود التضخمي على تغيير النظريات الاقتصادية، بل أدت أيضاً إلى الإتيان بحكام جدد في أمريكا وبريطانيا، متمثلاً بوصول مارغريت تاتشر لرئاسة وزراء بريطانيا، ورونالد ريغان لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
لماذا من الصعب محاربة الركود التضخمي؟
تفصل الحكومات استجابتها على الحالة الاقتصادية ضمن الوضع الراهن، فليست هناك سياسة اقتصادية واحدة يمكن اتباعها في كل الأحوال، فالتضخم الحاصل بسبب النشاط الزائد في الاقتصاد يعني أن على الحكومة تبني سياسة تخفف من حدة هذا النشاط، وفي المقابل بطء النمو وارتفاع البطالة في حالة الركود يعني أن على الحكومة أن تتخذ سياسة تنشط الاقتصاد.
لكن ماذا يمكن للحكومة فعله في حالة الركود التضخمي؟
إذا قررت الحكومة معالجة شق التضخم برفع سعر الفائدة أو تخفيض الإنفاق الحكومي ورفع الضرائب، وهو ما تفعله في حالة التضخم الطبيعية، فذلك سيعني زيادة الركود أكثر، لأن رفع سعر الفائدة يعني رفع تكلفة الاستهلاك والاستثمار، وزيادة الضرائب تعني تخفيض قدرة المواطنين الشرائية أيضاً.
والعكس صحيح؛ فإذا قررت الحكومة معالجة شق الركود، فستخاطر بمفاقمة أزمة التضخم، عن طريق رفع وتنشيط الطلب، دون معالجة أزمة العرض والإنتاج وارتفاع تكاليفه.
لذلك يخشى كثيرون من تكرر هذا السيناريو اليوم، فهو ليس مشكلة اقتصادية عادية، ولا يمكن حلها باستخدام الأدوات المعتادة، كما أن فترة حصوله قد تستمر لوقت طويل، كل ذلك يحصل في فترة محاولة العالم التعافي من جائحة كورونا وآثارها الاقتصادية أصلاً.
في حال حصول ذلك وعدم إيجاد الحكومات والبنوك المركزية الرئيسية في العالم طريقة لمعالجة الأزمة، فسيكون العالم على موعد مع أزمة اقتصادية مشابهة للسبعينيات، وقد تكون آثارها بحجم آثار الأزمة المالية العالمية 2007-2009، التي استمرت آثارها لسنوات بعدها.