رغم كل التحذيرات الأمنية الإسرائيلية التي سبقت شهر رمضان المبارك، من احتمال تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية بسبب استمرار الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي شملت الاعتقالات والاغتيالات للشبان الفلسطينيين، بالإضافة إلى الاقتحامات المتكررة للمستوطنين المتطرفين للمسجد الأقصى وتهديداتهم المستفزة للمسلمين بتقديم "قربان الفصح" في قلب الأقصى خلال شهر الصيام، فشلت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية المختلفة بشكل ذريع في توقع أو صد العمليات الأخيرة في قلب دولة الاحتلال، والتي أخذت طابع عمليات الذئاب المنفردة، وهو ما يجعل مهمة السيطرة عليها أكثر تعقيداً وصعوبة.
فما هي هذه العمليات، وما الذي يميزها عن غيرها من الهجمات المسلحة، ولماذا تمثل اليوم أكبر تحدٍ لإسرائيل وتثير هلعاً داخلياً لدى جمهورها؟
بداية، ما هي عمليات الذئاب المنفردة؟
"الذئاب المنفردة"، يشير هذا المصطلح الذي ظهر قبل عقود من الزمن في الغرب، إلى الأشخاص الذين يرتكبون "أعمال عنف" في سبيل فكرة أو قضية ما وحدهم، دون أن يكونوا تابعين لهيكل هرمي تنظيمي ما، ودون أن تتم مساعدتهم أو دعمهم من أي مجموعة، رغم أنهم قد يكونون يتبنون فكر هذه المجموعة أو تلك، أو يعتنقون أيديولوجية معينة تمثل لهم رمزية كبيرة ويدافعون عنها.
ومصطلح "الذئب المنفرد" يشير إلى الذئب الذي يتحرك بعيداً عن القطيع، ويشن هجوماً على فريسته وحيداً وبشكل غير متوقع، دون تخطيط مع جماعته.
وظهر هذا المصطلح منذ القرن التاسع عشر في الثقافة الشعبية الغربية؛ حيث يقول المؤرخ الأمريكي ريتشارد جينسن إن الأعوام 1878-1934 كانت حقبة لما يعرف بـ"الإرهاب الأناركي" ويجب اعتبارها العصر الكلاسيكي لمفهوم "الذئاب المنفردة" أو "الإرهاب بلا قيادة" في الغرب، حيث رفض الأناركيون السيطرة الاستبدادية والمركزية على أعمال العنف المخطط لها وكذلك على أي شيء آخر. ويقول جينسن إنه كانت هناك مئات من حوادث الأناركية العنيفة خلال تلك الفترة، والتي ارتكب معظمها أفراد بمفردهم أو مجموعات صغيرة جداً بدون هياكل تنظيمية قيادية.
وفي مطلع القرن العشرين استخدم هذا المصطلح في القصص البوليسية وروايات الجريمة، ليتم استخدامه فيما بعد في دوائر إنفاذ القانون والصحف الأمريكية التي كانت تتابع الجرائم الفردية المتسلسلة في المجتمع وغيرها. حتى تبلور هذا المصطلح رسمياً في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حينما ضربت موجات من الإرهاب اليميني واليساري وجماعات تفوق العرق الأبيض الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، بدأ يظهر مصطلح "إرهاب الذئب المنفرد"، في الإشارة إلى هجمات الأشخاص المتأثرين بالقاعدة ولاحقاً داعش وغيرها من الجماعات الجهادية أو المسلحة، حيث ارتكب الأشخاص الذين بدوا أنهم يعملون بمفردهم هجمات يفوق عددها الهجمات التنظيمية الأخرى، حيث واجهت الأجهزة الاستخبارتية صعوبة كبيرة في تعقبهم أو توقع عملياتهم.
عمليات "الذئاب المنفردة" تضرب العمق الإسرائيلي
لم تسبق أيةُ تحذيراتٍ استخباراتيةٍ إسرائيلية العمليات الفدائية الفلسطينية المتتالية داخل العمق الإسرائيلي، ذات طابع "الذئاب المنفردة" كما يصفها قادة الاحتلال وخبرائه العسكريين، والتي بدأت منذ نحو أسبوعين وأحدثت صدمة على جميع المستويات الرسمية داخل دولة الاحتلال؛ إذ شن منفذو هذه العمليات هجماتهم بشكل فردي دون أن يتبناهم فصيل فلسطيني، وكانوا يسبقون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بخطوة، التي كانت بدورها تتلمس طريقها في الظلام، بعد أن وجّه هؤلاء الشبان الغاضبون من استمرار انتهاكات الاحتلال، صفعة قوية إلى شعور الإسرائيليين بالأمان داخل مدنهم الحصينة، كما يصف ذلك الإعلام الإسرائيلي نفسه.
ومنذ يوم الثلاثاء 23 مارس/آذار 2022، قتل نحو 14 إسرائيلياً وأصيب عشرات آخرون، حيث بدأت سلسلة هذه العمليات الفردية بهجوم دهس وإطلاق نار يوم الثلاثاء، بمدينة بئر السبع (جنوباً)، مروراً بعملية إطلاق نار في الخضيرة بمدينة حيفا (شمالاً) يوم الأحد 27 مارس/آذار، تلتها بعد يومين فقط عملية أخرى في نقاط مختلفة شرق مدينة تل أبيب (شمالاً)، إذ نفذ الأولى والثانية 3 فلسطينيين من الداخل يحملون الجنسية الإسرائيلية، فيما نفذ الثالثة شاب من الضفة الغربية، نجح بالتسلل إلى داخل الأراضي المحتلة بسلاحه الرشاش.
وكانت العملية الثالثة في مدينة بني براك قرب تل أبيب هي الأقسى والأشد، بحسب وصف الإعلام الإسرائيلي، بعد أن أوقعت 5 قتلى بينهم أفراد شرطة ومستوطنون ونحو 6 جرحى، كما أنها تعتبر الأولى من نوعها منذ 16 عاماً، وهي تعيد إلى الأذهان عمليات المقاومة الفلسطينية إبان الانتفاضة الثانية داخل عمق تل أبيب.
حيث نجح منفذ العملية الشهيد ضياء حمارشة (26 عاماً) من الدخول بطريقة ما إلى وسط إسرائيل قادماً من مدينة جنين، وربما حظي بمساعدة أحد من الداخل، وبجعبته بندقية إم 16 وذخيرة، حيث نفذ عمليته على مراحل وتنقل بين 3 مواقع في تل أبيب، وهو ما يعتبر فشلاً أمنياً واستخباراتياً خطيراً بالنسبة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
وبعد نحو أسبوع من عملية حمارشة، تخلله إعلان إسرائيل عن عملية أمنية سمتها "كاسر الأمواج" شنت خلالها حملات اعتقال واسعة بالضفة واغتالت ثلاثة شبان في مدينة جنين، نجح شاب فلسطيني آخر من مدينة جنين أيضاً، يدعى رعد حازم (29 عاماً) بتنفيذ عملية إطلاق نار في قلب تل أبيب، وتحديداً في أكثر شوارعها حيوية، شارع ديزنكوف الشهير، موقعاً 15 إصابة بين قتيل وجريح بمسدسه، حيث نجح حازم بعدها في الاختباء والتخفي لنحو 9 ساعات قبل أن تصل له وحدات جيش الاحتلال الخاصة وتشتبك معه بعد صلاة فجر الجمعة 8 إبريل/نيسان، بالقرب من مسجد يافا القديمة، شمال الأراضي المحتلة، ليرتقي شهيداً.
وقع ما كانت تخشاه إسرائيل
كان الكاتب في صحيفة Haaretz الإسرائيلية، عاموس هرئيل، قد حذر في مقالة له في 30 مارس/آذار الماضي، من انتشار وتكرار هذا النوع من العمليات وتقليدها بين الشبان الفلسطينيين، قائلاً إن أبرز المخاوف الرئيسية المنتشرة داخل المؤسسة الأمنية منذ هجوم بئر السبع، هو أن انتقال الهجمات إلى الداخل وتنفيذها بواسطة مواطنين عرب في إسرائيل، سيحفز هجمات على نفس الوتيرة من جانب فلسطينيي الضفة الغربية، وهو ما تحقق في عمليتي بني براك وتل أبيب لاحقاً بالفعل.
وخلال الأسبوعين الماضيين، حاول المحققون الإسرائيليون تحديد ما إذا كان هناك رابط بين هذه العمليات المتتالية، دون نتيجة. وعلى مدار أسبوع أو أكثر، اعتقل جيش الاحتلال أكثر من 200 فلسطيني بالضفة والداخل المحتل، وركزت في عمليتها التي سمتها "كاسر الأمواج" على مدينة جنين ومخيمها؛ حيث تتواجد العديد من الخلايا المسلحة الفلسطينية هناك.
ولم يتبنَّ أي فصيل فلسطيني العمليات الأخيرة التي أخذت طابعاً مسلحاً ونوعياً في تحركات المنفذين ونجاحهم بالتسلل إلى قلب دول الاحتلال، وهو ما قد يعني أن هذه العمليات تُصنف تحت بند هجمات "الذئاب المنفردة"، مما يجعل الأمر أكثر تعقيداً وأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل التي عاشت أياماً من الرعب والهلع؛ حيث توالت العمليات في مناطق مختلفة في الداخل المحتل رغم تشديد الإجراءات الأمنية والاحتياطات الاستخباراتية، مما قد ينقل شعلة الهجمات إلى منفذين جدد في الداخل أو بالضفة الغربية، بنية الانتقام من الاحتلال، خلال الفترة القادمة.
في السياق، يقول خبراء إن إسرائيل باتت تواجه مأزقاً كبيراً حيال العمليات "الذئاب المنفردة" غير المُنظّمة، والتي لا ينتمي أفرادها لفصائل وقوى سياسية، لأنها تشكل تحدياً كبيراً من حيث صعوبة التنبؤ بزمانها ومكانها وشخوصها، وكذلك سُبل الرد عليها، وهو ما يمسّ بشكل مباشر بما يعرف بـ"قوة الردع" الإسرائيلية.
ومن هنا، يعتقد المحللون أن أي عمل عسكري إسرائيلي واسع، رداً على هذه الهجمات، لن يأتي بنتيجة فورية، نظراً لعدم وجود ارتباط واضح، بين المنفذين والفصائل الفلسطينية.
حيث قالت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، نقلاً عن جهاز الأمن العام "الشاباك"، الجمعة، إن منفذ هجوم شارع ديزنكوف، رعد حازم، "لم يكن لديه سوابق أمنية أو لوائح اتهام، كما أنه لا ينتمي إلى أي تنظيم".
"لا يوجد حل سحري لوقف عمليات الذئاب المنفردة"
يقول يوسي يهوشع، المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، تعليقاً على سلسلة العمليات الفلسطينية الأخيرة، إنه "يجب الاعتراف بأن مثل هذه الموجة من الإرهاب ليس لها حل سحري".
وأضاف يهوشع: "لا يوجد عنوان يمكن مهاجمته بقوة، مثل غزة أو مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، من الصعب جدًا جني الثمن؛ لا توجد عوامل ضغط على العدو، لأنه من الصعب تحديده".
أما عاموس هرئيل، الكاتب في صحيفة "هآرتس"، فكتب الأسبوع الماضي مقارناً بين العمليات التي كانت تستهدف إسرائيل خلال انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000 وقادت إلى اجتياح الضفة، والعمليات التي تنفذ اليوم.
وأضاف أنه في حين شارك آلاف الفلسطينيين من كافة التنظيمات في أعمال مقاومة عنيفة و"نشاط إرهابي" كانت هناك مجموعة مُنظمة، ونشر الجيش خمس فرق في الضفة الغربية، بما في ذلك عشرات الآلاف من الجنود، واغتال العشرات من النشطاء الآخرين بين قادة وعناصر.
أما اليوم، فإن الوضع مختلف بالنسبة لأجهزة الأمن الإسرائيلية، فالمنظمات أصغر وأكثر محلية، والعمليات باتت أكثر فردية، مشيراً إلى أن هذه المجموعات قد تكون "فرقاً مرتجلة تجمعت معاً لشن هجوم، أو أفراداً تصرفوا بمفردهم، وغالباً ليس لديهم أي انتماء تنظيمي محدد".
وتابع أن الجيش لا يمتلك حالياً أهدافاً في الضفة الغربية، على غرار عملية "السور الواقي" عام 2002، والتي تم خلالها اجتياح كافة مدن الضفة الغربية.
"هجمات لا مركزية أصبحت مصدر إلهام للشباب الفلسطينيين"
يقول هرئيل في مقالة نشرت الجمعة 8 أبريل/نيسان، بعد ساعات من عملية شارع ديزنكوف، إن الفكرة الأساسية لخطورة هذه العمليات هي أنها تأتي في شهر رمضان الذي تكثر فيه الاحتكاكات والاشتباكات، وهي هجمات لا مركزية يقودها "ذئاب منفردة" وخلايا صغيرة من الضفة الغربية أو الداخل.
كما أن قدرة المنفذين على قتل الإسرائيليين في قلب هذه المدن بهذه الجرأة، وتوثيق لقطات فيديو (من خلال الكاميرات الأمنية أو الشهود) لتحركاتهم وتنفيذهم عمليات إطلاق النار، وفيديوهات أخرى تظهر حجم الخوف والهلع بين الجمهور الإسرائيلي، تثير رغبة لدى الفلسطينيين الآخرين لتقليد هذه العمليات والتخطيط لها بشكل فردي، حيث أصبحت هذه العمليات الفردية المصوّرة مصدر إلهام للشبان الفلسطينيين لتنفيذ مزيد من العمليات المشابهة في داخل إسرائيل، كما يقول هرئيل.
وهذه الموجة من العمليات الفردية ليست الأولى في الأراضي المحتلة، لكنها مختلفة من حيث مكان تنفيذها ونوع السلاح المستخدم فيها وكذلك التخطيط لها؛ حيث واجهت إسرائيل موجة من عمليات الطعن الفردية في عام 2015، سميت بـ"انتفاضة السكاكين"، التي أطلقها الشهيد مهند الحلبي، وأدت إلى مقتل وإصابة المئات من الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس، حيث اعترفت إسرائيل حينها بصعوبة رصد تلك العمليات أو توقعها.
ويقول خبراء إن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لا تستطيع التعرف على منفذي هذا النوع من العمليات من خلال مصادرها البشرية، أو عن طريق المتابعات التكنولوجية، فالمنفذ نفسه هو يعلم فقط مكان أو زمان العملية، وربما تتغير خطته بالكامل خلال تنفيذها.
لكن تحاول إسرائيل فقط الحد من هذه العمليات عبر شن حملات اعتقالات عشوائية، ونشر الحواجز الفجائية على مداخل المدن والبلدات الفلسطينية، وتكثيف التدقيق على شبكات التواصل الاجتماعي، ودعوة الإسرائيليين لحمل السلاح لحماية أنفسهم في حال وقوع العملية.