قرر الفيدرالي الأمريكي رفع سعر فائدته بنسبة 0.25%، الأربعاء 16 مارس/آذار 2022، وذلك لأول مرة منذ ثلاث سنوات، وبعد شهور طويلة من متابعة المستثمرين والاقتصاديين ودول العالم لقراراته، وانتظار مثل هذا الرفع لأسعار الفائدة الأمريكية، لكونه عاملاً مهماً ومؤثراً في الاقتصاد العالمي بأكمله.
ولكن ما هي أسعار الفائدة بالأساس؟ ولماذا تعتبر أداة مهمة في الاقتصاد، قبل الحديث عن أهمية قرارات الفيدرالي الأمريكي بخصوصها؟
ما هو سعر الفائدة الرئيسي؟
طبعاً يعرف القارئ ما هو سعر الفائدة بالمعنى العام، فهو الكلفة التي تُفرض على المقترضين، حيث إنك إن أردت استدانة 100 دولار فقد يكون عليك أن ترجعها 105 دولارات.
لكن هناك سعر فائدة رئيسي لا يقترض عليه الأفراد العاديون أو الشركات، وهو سعر فائدة البنك المركزي في كل بلد، وهو أحد أهم أدوات الاقتصاد، والبنك المركزي تحديداً لإدارة الاقتصاد.
وسعر الفائدة الرئيسي هو النقطة المرجعية التي يتحدد من خلالها سعر الفائدة التي ستقرض عليه البنوك في الاقتصاد؛ حيث إن سعر الفائدة الرئيسي يكون أقل من سعر فائدة البنوك بالعادة، لكن البنوك تستخدم سعر الفائدة الرئيسي وتضيف عليه مكونات أخرى، متناسبة مع مخاطر الإقراض وغيرها من العوامل، لتحدد سعر فائدة إقراضها للأفراد والشركات.
قد يكون هناك أكثر من سعر فائدة رئيسي، وقد يكون لهذه الفائدة وظائف مختلفة، كما أن كل بلد لديه سعر فائدته الرئيسي الخاص.
في حال قرر البنك المركزي رفع سعر فائدته فهذا يعني أن على البنوك أن ترفع سعر فائدة إقراضها أيضاً، وسعر فائدة الإيداع كذلك، وبهذه الطريقة يستطيع البنك المركزي أن يؤثر على عمليات الإقراض في الاقتصاد.
لكن ذلك ليس كل شيء، فسعر الفائدة هو محدد أيضاً لعرض النقود داخل الاقتصاد، وبأبسط شرح ممكن فإن السندات -مثلاً- ليست نقوداً، وهي أداة إقراض، فمن يشتري السند يكون مُقرضاً لمن باعه، وسعر فائدة السندات مرتبط بالضرورة بسعر فائدة البنك المركزي.
كلما كان سعر فائدة السندات أعلى فذلك يعني أن الاستثمار في السندات أكثر جاذبية؛ لأن سعر الفائدة الأعلى يعني عائداً أكبر من شراء السند، ولكن شراء السندات الحكومية تحديداً يعني أن الناس سيتخلون عن نقود أكثر في أيديهم، ويعطونها للحكومة، مقابل شراء السندات، وهذا يعني أن عرض النقد قلّ، والعكس صحيح، بخفض سعر الفائدة يستطيع البنك المركزي رفع عرض النقد.
وبطبيعة الحال كلما زاد عرض النقد في الاقتصاد ارتفع النشاط الاقتصادي والطلب، وكلما قل عرض النقد حصل عكس ذلك، وهذا أحد جوانب تأثير سعر الفائدة في الاقتصاد بشكل كبير.
من ناحية أخرى فإن أغلب عمليات الاستثمار في الاقتصادات الرئيسية لا تتم عن طريق رأس المال المملوك من قبل المستثمرين فقط، بل عن طريق الاستدانة أيضاً، كما أن جزءاً مهما من الطلب الاستهلاكي في الاقتصاد عن طريق القروض أيضاً، من شراء السيارات والمنازل، وحتى السلع الاستهلاكية اليومية عن طريق بطاقات الائتمان.
وذلك يعني أن رفع سعر الفائدة سيجعل الاستهلاك والاستثمار أعلى كلفة، وبالتالي فإن النشاط الاقتصادي سينخفض، والعكس صحيح في حالة تخفيض سعر الفائدة، فالنشاط الاقتصادي سيرتفع.
لكن ما الوظيفة المباشرة لسعر الفائدة الرئيسي في الاقتصاد؟ فضلاً عن كونها نقطة مرجعية لأسعار الفائدة لجميع المؤسسات المالية، فالبنك المركزي هو الملجأ الأخير للبنوك للاستدانة، إذا ما وصلت إلى أقل من حد معين من الاحتياطات المطلوب الاحتفاظ بها من قبل البنك المركزي.
في هذه الحالة تحتاج البنوك للاستدانة من بنوك أخرى أو من البنك المركزي، وسعر الفائدة الرئيسي هو سعر الفائدة التي تقترض عليه البنوك من بعضها أو من المركزي في مثل هذه الحالة، ولكن الاستدانة تكون لفترة قصيرة جداً من الزمن، لذلك يعرف اسم سعر الفائدة الرئيسي في دول أخرى بـ"سعر فائدة الليلة الواحدة"، أو "نافذة الليلة الواحدة"، وغيرها من الأسماء، رغم أن مدة القرض قد تكون أعلى من ليلة واحدة طبعاً.
أنواع السياسة النقدية للبنك المركزي
للدولة في الاقتصاد نوعان من السياسة، أولهما "السياسة المالية Fiscal Policy"، وهي السياسة المتعلقة بالضرائب والإنفاق الحكومي، ولا علاقة للبنك المركزي بها، في المقابل يدير البنك المركزي "السياسة النقدية Monetary Policy"، والتي يعتبر سعر الفائدة أحد أهم أدواتها، وتتعلق بعرض النقود وإدارة النظام المصرفي بأكمله، كما تختلف أهدافها من بلد لآخر.
في الدول المتقدمة يكون الهدف الأساسي للبنك المركزي هو إدارة التضخم، دون الاهتمام بسعر صرف العملة، ولكن وضع سياسة نقدية تضمن استقرار الأسعار والحفاظ على النمو وخلق الوظائف، مع كون الأسعار والتضخم في مركز مهمات السياسة النقدية.
في المقابل تقرر دول أخرى أن يكون اهتمام سياستها النقدية على سعر الصرف، بتثبيته أو إدارته بشكل ما، دون أن تكون هناك قدرة كبيرة على استخدام الأدوات المتعلقة بالأهداف الأخرى، مثل البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسية.
فالدول التي تثبت سعر صرفها لا تستطيع التحكم بسعر فائدتها الرئيسي بشكل حر، لذلك نركز هنا على حالة الدول المتقدمة، التي تستطيع تعديل سعر فائدتها بالطريقة التي ترغب فيها، بناء على الاحتياجات الداخلية، والمتعلقة بالتضخم والنمو والوظائف.
في الغرب الذي يتبع نموذج اقتصاد حر، يكون دور الدولة في الاقتصاد منظماً ومراقباً، لا صانعاً للظرف في الاقتصاد بشكل أساسي، على الأقل نظرياً، ولذلك يكون دور الدولة اتباع سياسة اقتصادية تعاكس اتجاه الاقتصاد؛ لأنه لو ترك دون تدخل الدولة سينتج عن مساره مشاكل اقتصادية.
ففي حالة النشاط الاقتصادي والطلب المحفّز أصلاً، تنشأ مشكلة التضخم، لأن النشاط الاقتصادي يعني طلباً أكبر على السلع، أسرع من قدرة الاقتصاد على الإنتاج وتلبية الطلب بشكل موازٍ، وارتفاع الطلب يعني ارتفاع الأسعار.
في هذه الحالة تقوم البنوك المركزية باتخاذ "سياسة نقدية انكماشية Contractionary Monetary Policy"، لأن الاقتصاد يتوسع أكثر من اللازم، ولذلك على البنك المركزي المساهمة في تقليصه، لتخفيف الآثار السلبية عن التوسع الكبير؛ أي التضخم.
في السياسة الانكماشية تقوم الدولة برفع أسعار الفائدة، تماماً كما فعل الفيدرالي في الأيام الأخيرة، بعد أن وصل التضخم إلى نسب غير مسبوقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك يرجع في جزء منه على الأقل إلى ارتفاع الطلب، بعد أن فُتح الاقتصاد بعد إغلاقات الجائحة، دون أن يتعافى جانب العرض والإنتاج في الاقتصاد بشكل كامل.
وكما تقدم؛ برفع أسعار الفائدة ترتفع كلفة الاستثمار والاستهلاك، وبالتالي يقل النشاط الاقتصادي، وأيضاً يرتفع العائد على إيداع النقود في البنوك، أو الاستثمار في السندات، ما يعني أن الأفراد والشركات سيتجهون أكثر إلى شراء السندات أو الإيداع في البنوك، ضمن أسعار الفائدة المرتفعة حالياً، وتقل النقود بأيديهم، فيقل النشاط الاقتصادي أيضاً.
ونهاية؛ من جهة البنوك، فإن ارتفاع سعر الفائدة يعني أن كلفة اقتراضها من بنوك أخرى أو من البنك المركزي ستصبح أكبر في حال انخفضت احتياطاتها عن الحد المطلوب، لذلك قد تقوم البنوك بتخفيض إقراضها، ومحاولة الحفاظ على احتياطاتها.
والعكس صحيح في حالة الاقتصاد المنكمش، والركود والكساد وغيرها من الحالات، تضطر البنوك المركزية لاستخدام "سياسة نقدية توسعية Expansionary Monetary Policy"، والتي تتضمن خفضاً لسعر الفائدة، لتقليل كلف الاستهلاك والاستثمار في الاقتصاد، وتحفيز البنوك على الإقراض، لأن من السهل توفير الاحتياطات عن طريق الاقتراض في حال انخفاضها.
في البلدان التي لا تستطيع تحرير عملاتها بشكل كامل تلعب أسعار الفائدة دوراً مهماً في المحافظة على سعر العملة من الهبوط؛ لأن ارتفاع سعر الفائدة يعني جاذبية أكبر للطلب على العملة، عن طريق الطلب على الأصول المالية المقومة بها، وارتفاع الطلب يعني ارتفاع السعر.
في حالة العملة المثبتة؛ على الدولة المثبِّتة أن تبقي على سعر فائدة مثبت لسعر فائدة الولايات المتحدة، مثلاً، لكي تبقي سوقها جاذباً للمستثمرين أكثر من السوق الأمريكية والدولار.
وحتى في حالة الدول التي لا تثبت عملتها بشكل كامل، ولكنها تديرها وتمنعها من الانفلات تماماً في السوق؛ ترفع الدول سعر الفائدة بحيث تبقي على تدفق الطلب على عملتها.
كيف يُحدّد سعر الفائدة؟
فضلاً عن دور البنك المركزي في تحديدها عن طريق رفع أو تخفيض سعر فائدته الرئيسي؛ هناك عوامل عدة تحكم سعر الفائدة الذي يفرض على المقترضين نهاية من قبل البنوك والمؤسسات المالية الأخرى.
أهم هذه العوامل هو العرض والطلب، فكلما زاد عرض الديون بأن يكون هناك عدد أكبر من المستعدين للإقراض، وكميات أكبر متاحة لتصبح ديوناً كلما انخفض سعر الفائدة، والعكس صحيح، ومن جهة الطلب فكلما ارتفع الطلب على الائتمان ارتفع سعر فائدته، والعكس صحيح.
لكن عوامل أخرى تلعب دوراً في تحديد السعر أيضاً، فكلما ارتفعت مخاطر طرق الاقتراض ارتفع سعر فائدة إقراضه مثلاً، وكذلك كلما ارتفع مدى القرض ترتفع سعر فائدته، وهناك عوامل أخرى أيضاً.
لماذا يتابع العالم سعر فائدة الفيدرالي بالتحديد؟
ليست اقتصادات الدول اليوم جزراً معزولة عن بعضها، كما أن التفاعل بين هذه الاقتصادات ليس من مبدأ كونها متساوية في الحجم أو التأثير، فالاقتصادات الغربية هي مركز الاقتصاد العالمي، والاقتصاد الأمريكي تحديداً هو المركز الأهم للعالم كله.
ولأن سعر الفائدة أساسي في تحديد عرض النقد في الاقتصاد، فإن سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي أساسي في تحديد عرض النقود للدولار، الذي هو أهم عملات العالم، والأكثر استخداماً في التعاملات المالية العالمية، وفي الصفقات التجارية، وكاحتياطي أجنبي عالمي، ومخزن للقيمة والثروة أيضاً.
لذلك فرفع سعر الفائدة في أمريكا يعني تأثيراً كبيراً على الاقتصاد العالمي، فالسياسة النقدية الانكماشية في الولايات المتحدة تعني سياسة نقدية انكماشية في العالم كله، والعكس في حالة السياسة النقدية التوسعية.
مع ذلك قد لا تمر دول العالم بنفس الظرف الاقتصادي، ما يعني أن بعض الدول قد تضطر لمواجهة سياسة نقدية انكماشية، بينما تعاني أصلاً من الركود، لأن على الاقتصاد اتباع السياسة النقدية الأمريكية.
ولنأخذ حالة مصر على سبيل المثال، وهو اقتصاد أصبح معتمداً بشكل كبير جداً على الديون، ومحتاجاً للإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة، لجذب الاستثمارات والمقرضين من الخارج، للحفاظ على قيمة العملة، وتوفير تمويل لعجز الميزان التجاري (الصادرات-المستوردات)، وعجز الميزانية الحكومية أيضاً.
لكن الفيدرالي الأمريكي قبل قرار رفع سعر الفائدة الأخير، كان يحافظ على سعر فائدة عند نسبة قريبة من الصفر، وهو لم يرفع سعر الفائدة فقط، بل وعد بتنفيذ خطوات مشابهة 6 مرات خلال العام، ما يعني أن سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي سيستمر بالارتفاع خلال العام.
فما الذي يعنيه ذلك لمصر؟ جاذبية أسعار الفائدة تأتي من مقارنتها بسعر الفائدة في مكان آخر، وتحديداً بمقارنة أسعار الفائدة في الاقتصادات الرئيسية، لكون الاستثمار فيها أقل خطراً من الاستثمار في بلد مثل مصر.
وذلك يعني أن رفع سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي سيعني ضرورة رفع سعر الفائدة في مصر، للإبقاء على جاذبية اقتصادها للخارج، خصوصاً أن مصر تمر منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا بحالة من انسحاب رؤوس الأموال من السوق، خوفاً من تبعات الحرب على مصر، والتي أجبرت البلاد على تخفيض قيمة العملة، ورفع سعر الفائدة لـ4 أضعاف الزيادة في سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي، وطلب قرض من صندوق النقد.
ولكون مصر تستدين من الداخل والخارج؛ فرفع سعر فائدة البنك المركزي المصري يعني أن كلفة الديون المصرية الداخلية سترتفع، لأن المقرضين المحليين سيرفعون فائدتهم على الحكومة أيضاً، كما أن مصر إذا مرت بحالة من الركود فلن تستطيع تحفيز الاقتصاد عن طريق تسهيل تمويل الشركات، لأنها ستضطر للمحافظة على سعر فائدة مرتفع، لا تتمكن غالبية الشركات المصرية من تحمل تكلفة الاقتراض عليه.
ويشبه الأثر على مصر الأثر على دول أخرى في العالم، فبينما تحتاج الدول التي تثبت عملتها أن ترفع سعر الفائدة بنفس النسبة، على دول أخرى أن تدرس حالتها الاقتصادية، ومتابعة أسعار الفائدة في الأسواق العالمية، خصوصاً إذا كانت محتاجة للاقتراض من الخارج في المستقبل، وما دامت أسعار الفائدة في ارتفاع.